لم يكترث تشارلز داروين (1809 ـــ 1882) لتاريخ إشعال النيران إلا متأخراً. فقد كان منهمكاً في تأريخ تطور النوع البشري في كتابه «أصل الأنواع». لكن أثناء رحلته حول العالم التي استمرت نحو خمس سنوات، اختبر شعور أن تكون جائعاً في البرية وضرورة إشعال النار لطهو الطعام. هنا أدرك أن النار أعظم اكتشاف بشري بعد اختراع اللغة.

في كتابه «إضرام النيران: الطبخ الذي جعل منّا بشراً» (2009) الذي انتقل أخيراً إلى لغة الضاد (دار كنعان، ترجمة غلاء سمير أنس)، يضيء ريتشارد رانغام على مكابدات رحلة البشرية من النيء إلى المطبوخ، والأعباء التي رافقت هذه السلالة المتحوّلة قبل استعمال النار في تحضير الطعام، وتالياً الافتراق عن سلوكيات وحوش البراري. لكنّ هذا التطوّر احتاج إلى نحو مليوني سنة، إذ بقي النيء حاضراً، مثل دهن الحوت، وأكباد الفقمات والوعول، وروث الظباء، وبيض السلحفاة. على غرار الأسلاف، اضطر 27 راكباً، إثر تحطّم طائرة في جبال الأنديز 1972 إلى اللجوء إلى الشاطئ لمدة 71 يوماً، وتناول جثث الموتى بينهم. كما عاش بضعة جنود يابانيين في الأدغال بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1972 يقتاتون على الفواكه والحلزونات والأفاعي والجرذان. وعندما تشاجر الكسندر سيلكريك مع قبطان سفينته عام 1704، أنزله على شاطئ مهجور في المحيط الهادي، وبقي نحو أربع سنوات وحيداً، وكان لديه الإنجيل الخاص به: بندقية مع قدر من الوقود، وفأس صغيرة وسكين. وعندما شارف وقود بندقيته على النفاد، قام بحكّ غصنين من أخشاب البيمنتو فوق ركبته، واستطاع أن يطبخ طعامه طيلة فترة ضياعه. ويشير الباحث البريطاني في فصلٍ لاحق، إلى أن الطبخ كان عاملاً حاسماً في انتقال الكائن البشري من كونه حيواناً بدائياً إلى امتلاكه الصفات الأكثر بشرية، متتبعاً آثار مواقد النيران المكتشفة في مواقع أثرية مختلفة، معظمها يعود إلى نحو أربعمئة ألف سنة. ففي أحد المواقع الألمانية، اكتُشف موقد ورماح منحوتة من الخشب وبقايا عظام أكثر من 22 حصاناً. وهكذا، فإنّ الأغذية المطبوخة هي التي طوّرت الدماغ البشري، أو كما يقول الفيلسوف بليز باسكال: «ليس الإنسان سوى ريشة أضعف مخلوق في الطبيعة، ولكنه ريشة تفكّر». التفكير إذاً، قاد البشر إلى استعمال القدور المصنوعة من الخيزران في الطهو، وتحسين عملية الهضم، جنباً إلى جنب مع تطوّر العلاقة بين الرجل والمرأة في تقسيم العمل. الصيد بالنسبة إلى الرجال، وجمع الثمار والطهو بالنسبة إلى النساء.
يتتبّع آثار المواقد المكتشفة في مواقع أثرية مختلفة، معظمها يعود إلى نحو أربعمئة ألف سنة


ويؤكد ريتشارد رانغام أنّ أكثر الدراسات مباشرةً ووضوحاً لآثار الطبخ على الإنسان قامت بقياس قابلية الهضم، أي مقدار كمية الطعام التي تقوم أجسامنا بهضمه وامتصاصه: «لا يعيش المرء على ما يتناوله بل على ما يهضمه»، وتالياً الالتفات إلى أهمية اللحم الطري في عملية الهضم. عندما كان جنود التتار يتحركون بسرعة تصعب عليهم عملية الطبخ، فكانوا يشربون دماء أحصنتهم، كما كانوا يضعون قطعاً من اللحم تحت سروج الأحصنة ويمتطونها طوال اليوم حتى تصبح طرية. كما سجّل بريلات سافارين في كتابه «متعة التذوّق» شهادة حماسية لتجربته: «عندما تناولت العشاء مع القبطان جادز الكرواتي عام 1815، لم يكن ثمة حاجة إلى هذه الجلبة للحصول على عشاء جيد، فعندما كنا نجوع في رحلات الكشّافة، كنا نصطاد أول طريدة نجدها، ثم نقطع منها شريحة سميكة، نرش عليها الملح، ونضعها بين السرج وظهر الحصان، ثم نمتطيه ونجري به لوقت كافٍ، ثم نصيح بنشوة: لدينا عشاء يليق بالأمراء».
يقترح معظم علماء الآثار أنّ أصول الطهو، تعود إلى نحو 500 سنة مضت، فيما يقترح آخرون بأن انتظام طبخ البشر لطعامهم لم يبدأ حتى العصر الحجري القديم، منذ نحو أربعين ألف سنة، أي الوقت الذي كان فيه البشر متحضّرين إلى درجة اختراع فن الكهوف الخاص بهم. لكن ثمة اقتراح بين هذين الرأيين قدّمه عالم الأنثربولوجيا الطبيعية لورينغ براس. لاحظ الأخير منذ فترة طويلة أن الإنسان استطاع التحكّم بالنيران قبل مئتي ألف سنة على وجه التأكيد، ويقدّم رأيه القائل بأن الطبخ قد بدأ حول ذلك الوقت. بالتوازي مع هذه التواريخ، ينبّه هذا الباحث البريطاني إلى أن تطوّر الطعام من النيء إلى المطبوخ انعكس على البنية الجسمانية للبشر والحيوانات في آنٍ واحد بقوله: «التوافق بين طبيعة الطعام والبنية التشريحية للكائن الحي تحدده طبيعة الطعام أكثر من الخصائص التشريحية للكائن، فالأحصنة لا تتناول العشب لأنه حدث أن امتلكت النوع الأفضل من الأسنان والأمعاء لتناول العشب، بل إنها تمتلك أسناناً طويلة وأمعاء طويلة لأنها تكيّفت مع تناول العشب، والبشر لا يتناولون الطعام المطبوخ لأنهم يمتلكون النوع الأفضل من الأسنان والأمعاء، بل إنهم يمتلكون الأسنان الصغيرة والأمعاء القصيرة كنتيجة لتكيّفهم على تناول الطعام المطبوخ».
لذلك يمكننا تحديد الفترة التي بدأ فيها الطهو بالنظر إلى السجل الأحفوري. ففي وقت ما، تغيّرت البنية التشريحية الخاصة بأسلافنا لتتوافق مع نظامهم الغذائي المطبوخ. لا بد من أن يطلعنا التغيّر على الفترة التي أصبح فيها الطبخ عادة يومية مهمة، وليس حدثاً يتم بين حينٍ وآخر، لأنه حتى تلك الفترة، كان أسلافنا لا يزالون يعتمدون في طعامهم على النيء بشكل أساسي، وتالياً، لا يمكن أن نجد أجسادهم متكيّفة على الطعام المطبوخ. كما أن الفترة التي تكيّفت فيها أجساد أسلافنا على الطعام المطبوخ تُطلعنا أيضاً على أنهم استطاعوا التحكم الكامل في النيران من دون أن تضيع منهم مجدداً. ربما علينا، في هذا المقام، أن نستعيد عبارة لدانتي من «الكوميديا الإلهية»: «إن الشرارة الصغيرة تُنتج نيراناً عظيمة».