أصبح رسم ملغز باللون الأحمر من كهف لاباسيجا Cave of La Pasieg في إسبانيا واحداً من أشهر رسوم الكهوف في الكرة الأرضية كلها، بعدما بيّن اختبار بالكربون المشعّ في عام 2018 أنه يعود إلى ما يقرب من 65 ألف سنة من الآن. هذا التوقيت يعني أنّ من رسموا الرسمة من صنع النياندرتال Neanderthals، الذين كان يُنظر إليهم على أنهم نوعية أدنى من الهومو سبينس Homo sapiens الذين انبثق الإنسان الحديث منهم، والذي ظهر بعد زمن الرسمة بنحو 25 ألف سنة. بذا، فقد حطمت هذه الرسمة أسطورة النياندرتال (المتخلّفين). فإذا كانت الرسمة من صنع النياندرتال، فقد كانوا بشراً قادرين على التفكير وعلى إنتاج المفاهيم والرموز والمعتقدات الدينية.
رسمة عن رسمة كهف لاباسيجا

قبل هذه الرسمة، كان إنسان النياندرتال يدرس من خلال عظامه: فهذه العظمة من الكفّ تدل على كذا، وهذه العظمة من الفك تدل على أنه ربما كان ينطق ويملك لغة، إلخ. أما مع هذه الرسمة، فقد جاء الوقت كي تدرس أفكار هذا الإنسان من خلال نتاجه الفني، أو الديني، لا من خلال عظامه. صحيح أنّنا لا نملك حتى الآن إلا هذه القطعة، إلا هذا النص الوحيد- إذا استثنينا الدوائر التي عُثر عليها عام 2016 ــ فأعماق كهف برونيكيل Bruniquel Cave في فرنسا تعود إلى 177 سنة. لكن من قال إنّه لا يمكن استعادة عالم بكامله من خلال نص واحد؟ فإذا كان العلماء قادرين على تقديم فكرة ما عن إنسان النياندرتال من خلال عظمة صغيرة من فكّه، فلماذا لا يكون بإمكاننا نحن أن نقدم فهماً لعالمه ومعتقداته من خلال نصّ من إنتاج عقله، خاصة إذا كان هذا النص مركّباً ومعقّداً إلى حدّ لا بأس به؟
ولأنّ رسمة كهف لاباسيجا هي النص النياندرتالي الأكيد الوحيد الذي بين أيدينا حتى الآن، علينا أن نتعامل معه على أنه إنجيل النياندرتال. ومن هذا الإنجيل المكتوب بالمغرة الحمراء، علينا أن نستخرج رؤيته للكون، وأن نفهم معتقداته وآلهته. لكن علينا أن نعترف أن النص/ الرسمة يبدو شديد التعقيد، كما نرى في الصورة أعلاه. فهو مليء بالأشكال والرموز الغريبة غير المألوفة لنا. هناك في المركز سلّم، أو بيت المتطاول العمودي، مكوّن من ثلاث غرف أو خانات. في الخانة العليا، هناك النصف الخلفي لحيوان بذيل قصير جداً. أما في الخانة السفلية، فهناك النصف الأمامي لطراز من الظباء في ما يبدو. فهل نحن مع حيوان واحد أم مع حيوانين اثنين؟ وإذا كان الأمر يتعلق بحيوانين، فلماذا حُذف نصف كل منهما؟ وهل يعني هذا أنّ الحيوانين يمثلان دورة طبيعية ما تبدأ بالحيوان الأعلى وتنتهي مع الحيوان السفلي؟

أم أن الأمر يتعلق بحيوان واحد مقسوم إلى قسمين، وأن جمع القسمين يعطينا صورة هذا الحيوان كما في الصورة أعلاه؟ وإذا كنا مع حيوان واحد حقاً يشبه الصورة أعلاه، فنحن مع ظبي بكل تأكيد. ومن المحتمل أنه الظبي الذي يسمى roe deer أو (اليحمور الأوروبي) كما يُترجم اسمه إلى العربية.

أما الخانة الوسطى في البيت/ السلم فخالية.
وفي أسفل السلم، هناك شكل يشبه رأس طلقة بندقية. ثم يقع على يميننا أكثر الأشكال تعقيداً وتركيباً، بحيث لا يمكن وصفه بسهولة في سطر أو سطرين، كما تظهر الصورة أدناه. وقد تهيأ لي أنّ هذا الشكل يشبه صورة كوكبة الكلب الأكبر في السماء.
.رسم كوكبة الكلب الأكبر إلى جانب شكل لاباسيجا

لكن هذا قد يكون مجرد تهيّؤات لا غير.
في أي حال، علينا أن نشعر بالامتنان لمن رسم الرسمة لأنه فصّل بوضوح بين لغة الأرقام ولغة الرموز. فهناك في الأعلى، وفوق يسار السلم، مجموعة خطوط متعرّجة مشكّلة بالنقاط، هي في ما يبدو كتابة رقمية، أي روزنامة. بل إنها تكاد تقول لنا: أنا روزنامة، وأنا أتحدث بلغة الأرقام، فهل تفهمونني؟ وإذا صحّ أنها روزنامة حقاً، فهي تعكس أقدم محاولة للسيطرة على الزمن نعرفها في التاريخ.
ويفترض أن لغة الأرقام، أي الروزنامات، هي الأسهل نسبياً. بذا يفترض أن يكون مدخلنا لحل ألغاز الرسمة عبر هذه الروزنامة. لكن هذه الروزنامة تبدو مراوغة وشديدة التعقيد. وهي تتبدّى للعين بطريقتين اثنتين. في الطريقة الأولى تظهر بأنها مكوّنة من ثلاث قطع:
1- قطعة عمودية إلى اليمين مكوّنة من أربعة خطوط، في كل خط أربع نقاط. لكن في الأعلى، هناك نقطتان أبرزهما المصمّم خارج النظام الرباعي. وإجمالي عدد النقاط في القطعة من دونهما هو 44 نقطة. أما مع النقطتين، فنكوّن 46 نقطة.
روزنامة كهف لاباسيجا

2- قطعة وسطى مكوّنة من 8 صفوف، في كل صف 6 نقاط. لكن الخط الأعلى يحوي نقطة بارزة زائدة إلى اليسار تجعله يحوي 9 نقاط. ولا بد من أن المصمم جعلها تبرز قصداً. والقطعة مكوّنة من 49 نقطة. وإذا أبعدنا النقطة البارزة فهي 48 نقطة.
3- قطعة ثالثة منحنية تهبط إلى الأسفل مكوّنة من أربعة خطوط. ورغم أن عدد النقاط في هذه الخطوط ليس متساوياً، فقد عمد المصمم إلى ترتيب النقاط بحيث تبدو السطور متساوية. لم يجعل خطاً أطول من خط، ولم يُبرز نقطة خارج الصف. وعدد النقاط في هذه القطعة 54 نقطة. إذاً، فلدينا الأرقام التالية: 46 ( 44+2)، 49 (48+1)، 54= 149. ولو أبعدنا النقاط الثلاث التي برزت عن غيرها في الروزنامة، فسيكون لدينا 146 نقطة.
وفي الطريقة الثانية، تظهر الرسمة على أنها مشكّلة من خمسة خطوط أفعوانية متموّجة.

وفي حضن الخطوط الأفعوانية، هناك خطان أفقيان من النقاط: واحد مكوّن من تسع نقاط، وآخر مكوّن من ثماني نقاط.
على أي حال، من شبه المؤكد، أو المؤكد، أننا مع روزنامة، وأن الرقمين المركزيين في هذه الروزنامة هما: 146 و 149. وعلينا أن نتعامل مع هذه الأرقام وأن نفهمها لكي نفهم كيف تعامل البشر مع الزمن قبل 65 ألف سنة.
وقد عالجت في كتابي القادم «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية ومعتقداتها» نص النياندرتال هذا، وفككت معنى الروزنامة كما أظن. لكنني أتحدث عن هذا قبل صدور الكتاب الذي يفترض أن يصدر أوائل السنة المقبلة.
* شاعر فلسطيني