تُرَكِّز دور النشر العربية في كتبها المترجَمة على الرواية، باعتبارها الأكثر شعبيّةً. يندر أن نقرأ ترجماتٍ لديوان شعرٍ أو مسرحية أو مجموعة قصصية، بينما تظل أجناسٌ أدبيةٌ أخرى كالسِّيَر والمذكّرات وأدب الرحلات أو المراسلات غائبةً عن خياراتها، إلا إذا كانت تخصّ أحد مشاهير الكُتّاب.كسرت «دار ممدوح عدوان» هذا العُرف بترجمتها كتاب «84 شارع تشيرنغ كروس» لكاتبة السِّيَر والسيناريو وكتب الأطفال الأميركية هيلين هانف، من خلال المترجِمة دلال نصرالله.
الكتاب عبارة عن مراسلاتٍ بين هانف التي تعيش وحيدةً في شقة صغيرة في نيويورك تقرأ وتكتب، وبين مكتبةٍ لندنيّةٍ تدعى مكتبة «ماركس وشركاه» تقع في العنوان المذكور، الذي صار عنواناً للكتاب، حيث يتولّى موظف المكتبة فرانك دويل منذ البداية الردَّ على رسائلها وتأمين طلباتها من الكتب «الواقعية»، هي التي تظلُّ تؤكّد أنها لا تحبُّ القصص الخيالية.

إنَّه كتابٌ «خفيف»، لا يتطلّب تركيزاً خاصاً لقراءته. يمكن فعل ذلك في وسائل النقل العام، وخلال استراحات العمل، أو انتظار نضوج الغداء، بالإضافة إلى أنَّه يمنح القارئ تلك اللذّة الخبيثة المصاحبة للتلصّص، كأنَّه وقع على صندوق رسائل في قبو، أو سطا على حقيبة ساعي بريد.
بدل الخروج واجتياز عدة شوارع إلى المكتبة القريبة، تُفضّل الكاتبة الحصول على كتبها بالبريد عبر المحيط الأطلسي، مستفيدةً من الانخفاض الكبير في قيمة العملة البريطانية بعد الحرب مقارنة بنظيرتها الأميركية، بسبب تعرّض المملكة المتحدة بشكلٍ مباشرٍ للآثار المدمّرة للحرب العالمية الثانية، في مقابل بقاء الولايات المتحدة في منجى منها بسبب بُعدها الجغرافي، الأمر الذي جعل ثمن الكتب مع أجور شحنها زهيدةً على هانف.
كان الناس مع بداية المراسلات إذاً (سنة 1949) خارجين للتوّ من الحرب. ثمّة من يبيعون كتبهم للحصول على المال، من ضمن ما يمكنهم الاستغناء عنه، مما يُصنّف على أنه ليس أساسياً، خاصة في الجزيرة الغارقة في الركام والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، حيث كانت توزّع حصصٌ غذائية مقنّنة على المواطنين لأن أصنافاً كثيرةً من الطعام مفقودةٌ من السوق. لكن في المقابل، كان هناك من يشترون الكتب أيضاً للخروج من خلالها من الأوضاع الراهنة ذاتها، وقد وظّف السيد ماركس وشركاؤه 6 موظفين ليستطيعوا تلبية الطلبات المتزايدة للزبائن المعتادين والسيّاح الوافدين.
كان الناس مع بداية المراسلات (سنة 1949) خارجين للتوّ من الحرب


لا يشتمل الكتاب على جميع الرسائل المتبادلة على امتداد تلك السنوات كلها بالطبع (حتى سنة 1969). كما أنَّ تلك الرسائل لم تقتصر على هانف ودويل، إذ دخل أشخاصٌ آخرون على خط المراسلات، كسيسلي زميلة فرانك في العمل، التي أرادت أن تشكر هيلين على اللحوم والبيض والمعلّبات التي ترسلها إليهم، ونورا زوجة فرانك التي تضعها في صورة تقدّم ابنتيهما في صفوفهما الدراسية وحياتهما العملية، وجارة آل دويل العجوز التي طرّزت لهيلين مفرشاً للمائدة أهدوه لها، وصديقة هيلين التي كانت عيناها داخل مكتبة «ماركس وشركاه»، فهيلين لم تزُر لندن رغم رغبتها وتخطيطها لذلك مرات عدة بسبب عدم توافر المال لديها في البداية، ولضيق وقتها بعد تقدم أعمالها.
تمرّ الرسائل على المتغيّرات الحاصلة خلال سنوات المراسلة، تذكر الموظفين الذين تركوا المكتبة وانتقلوا إلى أماكن أخرى، والأشخاص الذين ماتوا كالشريكين الأساسيين في المكتبة، وفرانك دويل نفسه في أواخر سنة 1968، بعدما قضى 40 عاماً في العمل داخل المكتبة، والذي تُهدي الكاتبة كتابها لذكراه، بعدما أصدرته في السنة التالية لتوقّف المراسلات، وقد لاقى شعبيةً وصار أشهر إصدارات هانف. كما تمَّ تحويله إلى فيلم في عام 1987، من بطولة أنطوني هوبكنز وآن بانكروفت.
المكتبة ماتت أيضاً. رغم نجاتها من حربين عالميتين بكل ويلاتهما، وما تبعهما من ظروفٍ صعبةٍ على كلّ المستويات، فإنها لم تنجُ من ظروفٍ مشابهةٍ لاحقةٍ لا علاقة لها بالحروب، نالت من صناعات معيّنة أكثر من غيرها، وفي طليعتها كل ما يتعلّق بالورق.
في يومٍ لندني اعتيادي، غائمٍ وماطرٍ، من أوائل عام 2013، وفي مقطع موجود على يوتيوب، تقف شابةٌ من أصل هندي على الرصيف المقابل لـِ «84 شارع تشيرينغ كروس»، وتصور العقار ذا الواجهتين الزجاجيتين اللتين تفصلانه عن الرصيف الحجري. خلف الواجهتين المضبَّبتين، يقوم الآن مطعم صغير، يمكن لزبائنه، إذا ما رفعوا أعينهم عن هواتفهم، أن يروا خيالات الناس المسرعين إلى أعمالهم في الخارج تتقدّمهم الشاشات المضيئة لهواتفهم.