لم يكن انتصار القهوة سهلاً أبداً.فقد بدأت طريقها كمشروب ديني، ثم حصلت تعقيدات سدّت طريقها، وجعلتها حراماً في لحظات محدّدة. وكان الصوفيّون أوّل من شرب القهوة. بذا، فهي اختراع صوفي. وكانوا يشربونها لتساعدهم على السهر من أجل أذكارهم الليليّة. ويمكن القول إنها كانت عندهم، وبشكل من الأشكال، بديلاً من الخمرة المحرّمة. لذلك كانت طقوس تداولها عندهم أشبه بطقوس تداول الخمرة. لقد رأوا فيها خمرة مباحة حلّ
شربها.
من أجل ذلك، فالاسم (قهوة) يعني في اللغة: الخمرة: «القهوة: الخمر، يُقال إنها سميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام، أي تذهب بشهوته» (لسان العرب). ولهذا قال أبو محجن الثقفي عندما حبس لشربه القهوة: «وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشعر على لساني فأصف القهوة وتداخلني أريحيّة فألتذّ بمدحي إيّاها. فلذلك حبسني لأنني قلت:
إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة
تروي عظامي في الممات جذورها
ولا تدفنني في فلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها» (المسعودي، مروج الذهب).
بالتالي فالقهوة هي «قهوة البن»، أي «خمرة البن». وأغلب الظن أنّ الصوفيين هم من سمّوا شراب البن قهوة، أي خمرة. وهذه التسمية، إضافة إلى طقوس تداولها المشابهة لطقوس تداول الخمرة، ربما كانت هي السبب الذي أدى إلى حظرها.
ويُخبرنا الجزيري، نقلاً عن غيره أنّ أول من شرب القهوة رجل يُدعى جمال الدين الذبحاني:
«إنّ الأخبار قد وردت علينا بمصر أوائل هذا القرن [القرن العاشر الهجري] بأنه قد شاع في اليمن شراب يُقال له: القهوة، تستعمله مشايخ الصوفيّة وغيرهم للاستعانة به على السهر في الأذكار. قال: ثم بلغنا بعد ذلك بمدة أن ظهورها باليمن كان على يد الشيخ جمل الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني. وهو عالم مشهور بالولاية والفتوى، وكانت وفاته سنة خمس وسبعين وثمانمائة، ونحن الآن في عام ست وتسعين وتسعمائة» (الجزيري، عمدة الصفوة في حل القهوة).
لكن هذا قول واحد. فالجزيري نفسه يُضيف: «وقال فخر الدين بن بكر بن أبي يزيد المكي: إن الذي اشتهر وبلغ حد التواتر: أن أوَّل من أنشأها بأرض اليمن العارف علي بن عمر الشاذلي». ويُقال إنّ القهوة كانت تُدعى في الجزائر باسم «الشاذلية»، ولست أدري إن كان هذا نسبة إلى الشاذلي المذكور في المقتبس أو لا.
رأى الصوفيّون فيها خمرةً مباحة حلّ شربها


وقد وصلت القهوة إلى مصر بعد وقت لا بأس به. وقد جلبها اليمنيون إلى هناك: «قال العلاَّمة ابن عبد الغفار: إنها ظهرت في حارة الجامع الأزهر المعمور بذكر الله تعالى في العشر الأول من هذا القرن [العاشر]، وكانت تشرب في نفس الجامع برواق اليمن، يشربها اليمانيون، ومن يسكن معهم في رواقهم من أهل الحرم الشريفين، وكانت المستعمل لها الفقراء المشتغلون بالرواتب من الأذكار والمديح على طريقتهم المذكورة. وكانوا يشربونها كل ليلة اثنين وجمعة يضعونها في ماجور كبير من الفخار الأحمر، ويغترف منها النقيب بسكرجة صغيرة، ويسقيهم الأيمن، فالأيمن مع ذكرهم المعتاد عليها، وهو غالباً «لا إله إلا الله الملك الحق المبين». وكان يشربها معهم موافقة لهم من يحضر الرواتب من العوام، وغيرهم. قال: وكنا ممّن يحضر معهم، وشربناها معهم، فوجدناها في إذهاب النعاس والكسل كما قالوا: بحيث إنها تسهرنا ليالي لا نحصيها إلى أن نصلي الصبح مع الجماعة من غير تكلّف، وكان يشربها معهم من أهل الجامع من أصحابنا وغيرهم خلق لا نحصيهم، ولم يزل الحال على ذلك. وشُربت كثيراً في حارة الجامع الأزهر، وبيعت بها جهراً في عدة مواضع، ولم يتعرض أحد مع طول المدة لشرابها، ولا أنكر شربها، لا لذاتها ولا لوصف خارج عنها» (عمدة الصفوة في حل القهوة).
وفي أواخر عهد السلطان قانصوه الغوري، حرّم شرب القهوة بالطريقة التي تُشرب فيها: «وأما القهوة فقد بلغنا أن أناساً يشربونها على هيئة شرب الخمر، ويخلطون فيها المسكر، ويغنّون عليها بآلة، ويرقصون ويسكرون. ومعلوم أن ماء زمزم إذا شرب على هذه الهيئة كان حراماً. فليُمنعْ شُرّابُها من التظاهر بشربِها والدّوران في الأسواق» (عمدة الصفوة في حل القهوة).
وكما هو واضح، فقد كان قرار الغوري موجّهاً لطقوس شرب القهوة التي تقلّد طقوس شرب الخمرة. وجملة الجزيري: «ومعلوم أن ماء زمزم إذا شُرب على هذه الهيئة كان حراماً» تدل بقوة على أن الطقوس هي سبب المنع الأساسي. مع ذلك، فقد أدى هذا القرار إلى تشدد من قبل بعض الفقهاء الذين أفتوا بتحريم شربها. وهكذا أضيفت القهوة إلى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام التي حرّمها الدين.
على أي حال، فقد مرّ قرن أو قرن ونصف من الزمان منذ أن بدأ شربها في اليمن قبل أن يجري قبولها، وقبل أن تتوقف مطاردتها باعتبارها شيئاً مشكوكاً فيه. فقد كانت تحظر، ثم تباح عملياً، أو يتوقفون عن مطاردتها، ثم تعاد مطاردتها، وهكذا.
ثم تدريجاً، تحولت القهوة من مشروب ديني إلى مشروب علماني. والآن لا أحد يتذكر أنّ الدين كان في جذر مشروب القهوة.
أكثر من ذلك، فإن جنسية من اخترع شربها، نُسيت. فبعدما كانت يمنية- عربية، أعطاها الأوروبيون جنسية تركية، فصار اسمها «القهوة التركية».
وفي القرن السابع عشر، كانت القهوة قد أصبحت سلعة استراتيجية مليئة بالألغاز. لذا أرسلت حملات عسكرية أوروبية وبعثات مخابراتية إلى اليمن لمعرفة سرّ القهوة العربية، وسر زراعتها. وكان هناك اعتقاد في أوروبا أنّ العرب يخفون طريقة زراعة هذا المحصول الخطير كي يظل بيدهم احتكاره. لذا فقد كان الحصول على شجرتها واستزراعها ضمن سياسات كبرى الدول الأوروبية.
أما الآن، فقدْ فقدَ العرب القهوة تماماً. بعدما صارت «قهوة تركية» لم يعودوا يزرعونها، فهي بالكاد تُزرع في اليمن. بالطبع ما زالت تدعى في بعض البقع، وخاصة البدوية، «عدنية» نسبة إلى عدن في اليمن. لكن أرض القهوة صارت أميركا اللاتينية وأفريقيا. أما نحن فصرنا مستوردين لها.
بقي لنا منها فقط اسمها «القهوة» الذي صارت اسماً عالمياً. وبقيت أيضاً القهوة المرّة البدوية (القهوة السادة المخمرة). لقد أفلتت القهوة من أيدينا كما أفلتت أشياء كثيرة. استغنينا بالنفط المدمّر عن كل شيء.

* شاعر فلسطيني