«أعترف بأنني أتنكّب من موقعي كشاعر مهمّة صعبة، هي أقرب إلى المجازفة غير الآمنة، منها إلى أي شيء آخر. والصعوبة هنا ناجمة عن التباين الواسع بين لغة الشعر ولغة النقد، حيث تتّصل الأولى بالكثافة والترميز والتوهّج القلبي والضربات الخاطفة للإلهام، فيما تعمل الثانية على البرهنة والتفكيك والثراء المعرفي والحضور الكامل للعقل. وحين يتصدّى الشاعر لمهمة النقد، فهو لا ينشقّ عن لغته الأصلية فحسب، بل ينشقّ على ذاته أيضاً ليصبح الرائي والمرئي، السهم والدريئة، الوجه والمرآة في آنٍ واحد». من ثنائية الجمع الصعب بين لغة الشعر ولغة النقد، والتوليفة الصعبة بين توهّج القلب وثراء المعرفة، ينطلق الشاعر اللبناني شوقي بزيع في كتابه الجديد «مسارات الحداثة: قراءة في تجارب الشعراء المؤسسين» الصادر حديثاً (٢٠٢١) ضمن مشروع مشترك بين «دار مسكيلياني» (تونس) و«دار الرافدين» (بيروت/ بغداد). إحالة بزيع منبع الشعر إلى «توهّج القلب» وموضعتها جدلياً مع المعرفة، تذكّر بتعريف مباشر للشعر من قبل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا على أنه «وحش القلب»: «تستطيع القصيدة أن تتدحرج مثل كرة، ولكنّها تفعل ذلك لكي تبثّ إشاراتها القوية نحو الخارج. بوسعها ولا ريب أن تتأمّل اللغة أو أن تقول شعراً، بيد أنها لا ترجع قَط إلى نفسها، وهي لا تتحرّك أبداً من تلقاء نفسها مثل تلك الأسلحة التي تحمل الموت.


حدثُها يقطع دائماً أو يُِفسد المعرفة المطلقة، والكائن القريب من الذات داخل غنائية الذات. «وحش القلب» هذا لا يُقرّ له قرار، لأنّه يتيه «هذيان أو نزوات»، يضع نفسه تحت رحمة الحظّ أو الصّدفة، ويترك نفسه بالأحرى ليُجرح ويتمزّق بما من شأنه أن يدهسه». وبعد أن يُقرّ صاحب «أغنيات حب على نهر الليطاني» في المقدمة بالإمكانية ولو الصعبة للجمع بين الشعر - طفل البرّية الضائع - والنقد، وبخاصة أن الأخير يُعاني فجوة لا تني الأجيال الشعرية العربية المتلاحقة تشتكي من وجودها، وقبل أن ينتقل إلى المقاربات والتأويلات النقدية لبعض رُوّاد الحداثة ومؤسّسيها، فقد أحسن الخيار بالتمهيد لهؤلاء الروّاد في مقدمة مسهبة امتدت على عشرين محوراً عرض من خلالها للحداثة مصطلحاً وتعريفاً ومفهوماً ملتبساً وقابلاً بشكل دائم للتأويل والاجتهاد وإعادة النظر، والمقابلة بين الأنموذج الغربي للحداثة الشاملة في عصر التنوير بين القرنين السابع عشر والثامن عشر وما قابله عربياً في وقت متأخّر... لينتهي بتعريف مختصر يحدّد هذه الحداثة كعملية إبداعية مستمرّة من الكتابة والمحو، أو الغَزْل ونقضه: «إن الحداثة في عمقها عملية متواصلة من التحوّل والنقض وإعادة التأسيس. وهي بالتالي ليست أرضاً مقدّسة أو وثناً للعبادة، بل مغامرة دائمة وفضاء مفتوح وأساليب متجاورة لا يجبّ بعضها بعضاً، ولذلك فإن ما نحن إزاءه ليس حداثة واحدة بل حداثات مختلفة، وليس لغة واحدة بل لغات» لينتقل بزيع من تعريف الحداثة ككل إلى تعريف الكتابة الحداثوية: «إن كل كتابة هي مراكمة وإضافة إلى ما سبق، وليست بدءاً من الصفر». ولعلّ مقولة سان جون بيرس الشهيرة «لكلّ منا بحره الخاص» تعني في ما تعنيه أنّ لكل شاعر إيقاعه وحساسيّته وطريقته في استخدام اللغة ومقاربة الأشياء. من خلال «البحر الخاص» والذائقة الشعرية الخاصة بصاحب «قمصان يوسف» و«الحياة كما لم تحدث»، يستعرض الشاعر أجيالاً متعاقبة من صانعي الحداثة الشعرية العربية يربو عددهم على العشرين، مقدماً الأسباب التي جعلت هؤلاء الشعراء لا غيرهم ضمن بحره الخاص «إن اختيار الشعراء المتناولين بالقراءة في هذا الكتاب لم يكن وليد الصدفة أو الاستنساب المزاجي، بل بسبب الدور الطليعي والمؤثر الذي لعبوه، ولو بتفاوت ملحوظ، في نقل الشعرية العربية من طور إلى طور في دفع الذائقة الجمعية للانقلاب على معاييرها السابقة. ولأن للحداثة مسارات عدة، فقد حرصت على تناول النماذج المتنوعة التي يشغل كلّ منها جزءاً متفاوت المساحة والأهمية من الشعر العربي الحديث».
يستهلّ شوقي بزيع تجارب الرواد من سعيد عقل بمثاليته المتعالية التي تدفعه إلى استبدال «سفليّة» الحياة باللغة المتعالية، إذ يستبعد من الشعر كل ما يراه غير لائق بمنمنماته المصنوعة بإتقان، ولو افترق عن الحداثة في إلمامها باليومي والعابر والنافل، لينتقل من بعدها إلى تجربة نزار قباني وأبعادها المفتوحة على التحرّر والمدينيّة وتجاوز الخطوط الحمر بين الجنسين وانبثاق هذه التجربة من الواقع ولحم الحياة الحيّ. تبرز تجربة العراقي بدر شاكر السياب كتعبير عن «المنعطفات الكبرى» في رفد الشعر العربي الحديث بلهب جديد وحساسية مختلفة، وتفجير اللغة والخروج الجذري على القواعد المألوفة، والأهم شعرية العصب الجامح كما يُسميه صاحب «فراشات لابتسامة بوذا» والتوالد التلقائي لورود الأعماق.
في الفصل الذي أفرده بزيع لنازك الملائكة، يسلّط الضوء على إسهاماتها في «تأنيث القصيدة» من خلال رفدها بنبرة عالية من الحزن، مستعيراً مصطلح الناقد عبد الله الغذامي، وكذلك تليينها للّغة والتخفيف من فظاظتها الذكورية وإن غيّبت الشاعرة أنوثتها الفعلية وراء كمّ هائل من المثاليات والمفاهيم الاجتماعية الضاغطة.
في تناول تجربة عبد الوهاب البياتي، تتجلّى التوليفة الصعبة بين الالتزام العقائدي من جهة، حيث يكون الشعر أسير الأشكال الرتيبة والسطور المتقاربة والمسجعة، وإشراقات الروح من جهة ثانية حيث يظهر التطور جلياً في انعتاق الأسلوب من ضغط الفكرة وتحرره من القيود التي تمنع نموه الداخلي وتكثيف صورته ورشاقة عبارته. تبدو حصة العراق وازنة في «مسارات الحداثة»، إذ لا ينسى بزيع أن يمرّ على الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري في مقاربة الأسئلة العميقة لعلاقة الإنسان بالوجود، وتخليص الشعر من الرطانة التعبيرية والترهل الإنشائي رغم الحيف الذي لحق بالشاعر ودوره الريادي لأسباب شتّى، فأُسقط اسمه من قائمة رواد الحداثة الثلاثة (الملائكة والسياب والبياتي). وكذلك يتناول بفصل تجربة الشاعر الراحل مؤخراً سعدي يوسف ومعجمه الذي اتسع لمروحة واسعة من الإيقاعات الثريّة التي تراوح بين الانسياب الغنائي البسيط والأوزان المتداخلة والمركبة، إضافة إلى الفولكلور الشعبي واللغة اليومية الدارجة والبعد التشكيلي والسينمائي في تظهير الصور، رغم إدراج ملاحظتين تتعلّق أوّلاهما بغياب مرجعية ثقافية عن هذا الشعر أبعد من الحياة كما يكابدها صاحب هذا الشعر بنفسه، والأخرى اختلال التوازن أحياناً بين الشروط الجمالية والفنية للنصوص ووظيفتها السياسية والتبشيرية. كما يعرّج بزيع على مظفّر النواب في خصوصية تجربته الفريدة من الانتشاء الصوفي بالوجود إلى الهجاء السافر والتطريب الصوتي وانتزاع الشعر من غربته الحداثية وإعادته إلى دوره الطبيعي في الدفاع عن قضايا الشعوب الفقيرة والمظلومة والمستعبدة. وكذلك يتناول الكتاب تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي يسمّيه بزيع «شاعر المكان المنفي والأزمنة المطمورة»، وهو الذي تمكن من قتل الأب الرمزي المتمثل في السياب تحديداً، ليقترف فعل التمرد والمغامرة الشكلية والتثاقف الحر مع حركة الشعر في العالم. وآخر شعراء الرافدين ممن يتناولهم الكتاب هو سركون بولص، شاعر الغربة والتمزّق بين عالمين والانسحاب من المواجهة غير العادلة مع الوجود للإقامة على أرض السخرية والعبث واللامبالاة.
شوقي أبي شقرا صيّاد الدهشة وشاعر العبث الطفولي


من شعراء سوريا ولبنان، يسلط الكتاب على أهم الأسماء التي لمع نجمها في مجلة «شعر» في خمسينيات القرن الماضي، ليختطّ من بعدها كل اسم لنفسه مساراً خاصاً، من أنسي الحاج بلغته التي «تخرج من مناجمها بريئة وطازجة ومثقلة بالمعرفة وشديدة التوهج، ومع أنها تحمل نبرة فلسفية ونبوية واضحة لكنها ليست لغة لتربية الآخرين وتبشيرهم وتلقينهم دروساً في الأخلاق لأن محورها الأهم هو الحرية»، إلى أدونيس حيث تبدو التجربة نظرة إلى الشعر بوصفه مساءلة للوجود ومشروعاً لتغيير العالم واستيلاداً للذات من رحم المكابدات الداخلية والصراع مع اللغة، وتجربة خليل حاوي الغاضبة في أفكارها القياميّة المتّصلة بالموت والانبعاث والبحث عن الخصب والبراءة الأولى والمعجم الشعري الناري الذي تكثر فيه مفردات الكبريت والملح والعفن والتنين وغيرها، مروراً بتجربة محمد الماغوط حيث كما قال الماغوط نفسه في إحدى مقابلاته «الشعر نوع من الحيوانات البرية. الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه. وأنا رفضت تدجين الشعر وتركته كما هو حرّاً». يتناول بزيع كذلك تجارب شوقي أبي شقرا كصياد للدهشة وشاعر للعبث الطفولي، وعصام محفوظ في عراكه الصعب مع الشعر ومعاييره المتشددة في النقد التي لم يكن يطبقها على ما يكتبه شعراً، فخسره الشعر وربحه المسرح، ويوسف الخال «بطريرك الحداثة» الذي اصطدم بجدار اللغة كما يصفه الفصل المخصص لتجربته في «شعر» وخارجها، وأخيراً توفيق صايغ في عراكه الضاري مع اللغة والحياة. ولكي تكتمل الحداثة بكافة أجنحتها، كان لا بد من تناول تجربة محمود درويش الفريدة في تنقيبها عن فلسطين الأعماق، والتعايش المستحيل بين القتيل والقاتل، وانتقالها من الأرض المحتلّة إلى العالم بأسره ومراحل تطورها واحتكاكها بالتجربة النضالية وعدولها في السنوات الأخيرة عن الخطاب الجماهيري المباشر واللغة الملحمية نحو منطقة أكثر فردية ورمزية والتصاقاً بالشاعر وهواجسه في الحياة والزمن والحب والغياب. كما لا ينسى بزيع أن يتناول التجارب الحداثوية المصرية من صلاح عبد الصبور حيث لا يبدو الشعر أداة لتجميل العالم والتستر على ما فيه من تشوهات وأضاليل فحسب، بل يعمد إلى استكناه حقيقة الأشياء وقراءة وجهتها ومآلاتها، وتجربة أحمد عبد المعطي حجازي حيث الحرص على المواءمة والتوازن بين الصوت والمعنى والغوص العميق في التساؤلات الوجودية والفلسفية، مستفيداً من هجرته إلى باريس لفترة طويلة واحتكاكه بثقافة الغرب ومدارسه، من دون إغفال تجارب محمد عفيفي مطر «شاعر الطمي والأساطير السلالية واللاوعي الجمعي»، وأمل دنقل الذي يشبه عرّافة تستنطق التراث في توهّج اللغة الماكرة، والشاعر السوداني محمد الفيتوري في التزامها بقضايا العالم الثالث والدفاع عن قيم الحرية والعدالة وربطها بحركات مقاومة الاستعمار. وقد خلا الكتاب من استعراض تجارب من المغرب العربي كان يمكن أن تجعل البانوراما العربية الحداثوية كاملة الأبعاد.
في «مسارات الحداثة»، نتعرّف على البعد النقدي لأحد أبرز الشعراء على الساحة اللبنانية والعربية اليوم والمتوّج السنة الفائتة بـ «جائزة محمود درويش» والذي لا تزال عنده الكتابة بكافة أشكالها مرادفاً للشغف. شغف يتجلّى حتى المقالات النقدية حيث لا يمكن الفصل بين عقل الشاعر وقلبه، فيدخلنا إلى ملعب ذائقته ورموزه وبحره الخاص حيث كما يقول بزيع في إحدى قصائده «على الحدّ بين الكتابة والمحو/ ينتظر الشاعر الشعر/ محلولكاً مثل أرملة في الحداد/ ومنفصماً كالمرايا/ ومستوحشاً كمسيح بلا مريمات/ وحيداً/ سوى من تدفّق نيرانه/ يتخفّى عن الناس/ كي يتبارى عن ملعب من رموز».