الرواية النوع الأدبي الأقدر على الرّبط بين علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والسياسة، إذْ إنّها مرآة الإنسان التي يرى مِن خلالها حقيقته، خاصّة إذا ما انطلقت من ذلك التزاوج الذكي بين التاريخ والجغرافيا، والمكان الذي عبّر عنه الروائي المصري طارق إمام في روايته «ماكيت القاهرة» (منشورات المتوسط، إيطاليا، 2021) بأنّه وحده مَن ينجو في الأخير بكلّ ما يحمله من حقائق: «لا أحد في عالمنا يضمن نجاته سوى المدينة»، فهو مَن يقوم على «إحياء الذاكرة الفردية لأصحابه». يقول الراوي: «في مدينة كالقاهرة لن تعثر على شيءٍ، مهما تطلّعت لأعلى». تُرى، ما هي الأسئلة التي يريد الروائي طرحها انطلاقاً من المكان المُعبّر عنه في العنوان؟ وما هي رؤيته روائياً للقاهرة؟ينطلق طارق إمام مِن عوالم مختلفة، بأسماء غريبة لشخصيات أكثر غرابة، ربّما لم يعتَد القارئ العربي عليها، حتّى طريقة عرض الأحداث ربما لن تكون كما يريدها، أو لنقل ليسَ كما ألف أنْ يقرأ. لكن القارئ العارف سيدرك أنّ هذا العالم وهذه المدينة موجودة، هي التي سعى الكاتب بكلّ هواجس المبدع وقلق الفنان إلى منحها شكلها الروائي المُربك وحضورها المُختلف في ذهن المتلقي. هناك أيضاً لغة الرواية القوية، وفرَادَتها في خلق شخصيات مشوّهة داخل المدينة، بحيث تتجاوز الرواية كصنعة، لتعبّر في الأخير عن قلق الروائي، إذ يقول: «البيوت لا تخلق ساكنيها، إنها تخلق أشباحها أيضاً».


يشعر القارئ أنّ شخصيات الرواية، مُرعبة، قريبة من عالم الأشباح. كما أنّ جلّ الأحداث تدور تقريباً في البيت، فهو يقوم على «إحياء الذاكرة الفردية لأصحابه». انطلاقاً مِن الذاكرة الفردية، تبرزُ معالم تلك المدينة المتخيلة التي نلمس لها وجوداً في الواقع: «أصبحَ الخيال يواجه الواقع». وانطلاقاً من هذه المواجهة، تتضح للقارئ تلك الخيوط التي تُتيح له فهم النص في إطاره الإبداعي وربطه بأسئلة الهوية.
في الرواية تعبيرٌ بليغ يرى أنّ «اللغة كلها مجاز للعالم، فلا توجد لغة تساوي الواقع». هنا يريد القول لأن الفنّ بشكلٍ عام، أو الرواية بشكلٍ خاص، مهما كانت قريبة من الواقع، إلّا أنّ لاشيء قادراً على أن يكون كما هو، ولربما لهذا وُجدتِ الرواية ووُجد الفن لينقذ العالم على حد تعبير دوستويفسكي. أيضاً تبرز لنا تساؤلات الرواية: «أليس كل ما ندعوه أصليّاً هو في جوهره محاكاة أيضاً لتصوّرٍ موجود سلفاً في ذهن صاحبه؟»، ما يدفع للقول بأنّ «ماكيت القاهرة» لا يمكن أنْ تحصر ضمن زمان بعينه، بل هي مفتوحة على كل الأزمنة، وقادرة على استيعاب كلّ الاحتمالات. في الرواية، قول يعبّر فيه الكاتب بشكل دقيق عن حالة الفقد، التي وإن كانت من الماضي، إلّا أنها تشكّل لكثيرين الحاضر والماضي معاً: «الحاضر هو كلّ ما ليس بوسعنا تجاوزه، أيّاً كان زمنه. كلّ فقدٍ هو حاضر... ما يجعلُ الحاضر الوحيد بالنسبة إلى أناس كثيرين، هو ماضيهم نفسه». تقرأ «ماكيت القاهرة» وأنتَ مندمج كليّاً مع شخوصها الذين يحملون إمّا تشوهات، أو نقائص. فكرة النجاة بالنسبة إلى الكاتب، لن يصبح لها قيمة إذا ما اختفى ما ننجو منه متسائلاً: «ماذا تعني النجاة إذا اختفى ما ننجو منه؟» في حين يقرن الحياة الواقعية بالمعجزة: «تبدأ الحياة الواقعية لكلّ شخصٍ مِن معجزة ما»، فهو يرى أن لا حياة من دون معجزات، أن نقاوم فداحة ما يحدث الآن جراء كورونا وما حدث طيلة الحجر الصحي هو معجزة حقيقية. يروي من خلال شخوصه ما يتجاوز عالمهم، إلى ما يعانيه الإنسان بشكلٍ عام من واقع هشٍّ يحاول التغلب عليه :«لقد أنقذَتْه هذه الذكرى أيضاً من جنون آخر، من هشاشة، كان لها أن تطيح به خارج أيّ تماسك يُبقيه حيّاً أمام الآخرين».
قوة الوصف تكاد تكون واقعية جداً


في رواية «ماكيت القاهرة»، لا يمكنك معرفة الأسماء الحقيقية للأشخاص ولا ربطهم بزمان معين، حتى إنّه أتى بأسماء حقيقية غيّر لنا تصوّرنا عنها بابتكار واقع متخيّل يوازي الواقع الحقيقي لكنه لا يشبهه، فكان الفن حاضراً فيها بقوة للتعبير عن كلّ ما يريد الفنّ معالجته والتطرق إليه أدبيّاً بدءاً بالثورات التي غيّرت ملامح الأشخاص والمُدن. نرى ذلك في «بلياردو» والد «أوريجا» الذي فقد عينه في حوادث 2011. وطبعاً، تطرّقت الرواية إلى الوضع العام الذي وصل إليه المثقّف العربي. كلّ هذا في رواية استطاعت أن تكون ماكيتاً مُصغراً لما يمكن أن تكون عليه المدينة والرواية أيضاً. وحده الأدب ينتصر بشكله الإبداعي المُختلف وطريقة إدارة الشخصيات في رواية لا تنطلق من زمن معين ولا من شخصية بعينها، بل تذهب إلى ما يشبه الأحجية، أو لعلّ هذا الرسم الجديد للماكيت، هو ما سيمنح الرواية قوّتهاً بدءاً بشخصياتها المبتورة، الخائفة من كلّ شيء، حتّى من حياتها نفسها: «وهكذا أدركت نود مبكراً أنها لا تخشى ما يستحيل تصديقه، وأنّ الخوف، الخوف الحقيقي، الخوف القاتل، مختبئ في كل ما تراه يومياً بوصفه حياتها». قوة الوصف عند طارق إمام تكاد تكون واقعية جداً، لكن فرادة ما يكتبه، تكمن في أنه يكسر لك الصورة الواقعية عن الأشياء، ما يجعلك تقف مستمتعاً ومنتبهاً لواقع الرواية نفسه. مثلاً يأتيك بشخصية اللاعب زين الدين زيدان والمغنية نانسي عجرم، ليبني من خلالهما التصور الروائي، وليس تصور الواقع، فهو ينتصر للفن الروائي، كما يجب أن يكون، فلا جدوى من معرفة واقع نعرفه. عبّر طارق إمام في العمل عن شخصيات تبحث عن هويتها داخل المدينة، لكن بالكاد تنتبه تلك المدينة لها. وفي الوقت ذاته تحاول هذه الشخصيات أن تتصالح مع كلّ شيء عن طريق الفنّ برغم قسوته: «الفنّ في جوهره شيءٌ قاسٍ، فهو قادرٌ على جعلكَ تنهار لسقوط ذبابة في كوب، ولا تعبأ بنزول جثمان إلى مقبرته، وكم من فيلم أو رواية أو لوحة، كان فيها صمتُ بناية من الخرسانة أهمّ من كلمات شخص من لحم ودم».
نحن أمام عمل فنّي يُحلل أدبيّاً الواقع بواقع أعمق، وبرؤية مجردة ومختلفة اعتمدها الكاتب في التعامل مع القضايا البسيطة والمعقدة. إضافة إلى ذلك، هو يحمل رؤية مثالية مشبعة بفلسفة أفلاطون الجمالية، بحيث يرى أن الأجسام المختلفة في الطبيعة ليست سوى محاكاة لما هي عليه في الأصل.. هناك في العالم الأعلى الأصلي الخالي من الزيف، إذ يعبر عن رؤية نيتشه للفن «لقد أعطي لنا الفن كي يمنع عنا الموت من الحقيقة». في «ماكيت القاهرة»، أبرز طارق إمام وظيفة الفن الذي يعطي المعنى الغائب في الوجود.