يفتتحُ الكاتب السّوري الزميل خليل صويلح كتابه السّيريّ «نزهة الغراب» (دار نينوى) بعبارةٍ موحية: «لا نخرجُ من المكتبة إلا لنعود إليها، تباً لهذا المرض المزمن!» لغاية استعادة آثار الكتب الأولى، والمؤلّفاتِ التي أسهمت في تشكيلِ شخصيّته الرّوائية. يُطلِع القارئُ على أسرارهِ السردية، وكيفية تبلور مفاهيمه الأدبيّة والقرائية حيث توارت جينات الكتابة في السحر الخفي للقراءة. مكاشفاتٌ ذاتية. نبشٌ وفتك، بعنوانٍ ذي رمزية دلالية، مشيراً إلى قصة الطوفان، لغرابٍ اختار التلهّي بجيفٍ متفسخةٍ أثناء بحثه عن النجاة، وحمامةٍ حلّقت عالياً عبر رحابة الكنوز الأدبية.من هم الغربان؟ «حذراً من شيخوخة الحواس في التقاط الرائحة» هكذا يصرّ صاحب ضدّ المكتبة، في مطلع كتابهِ، على هجاءِ ما درجَ من الكتابة اليوم. يحذّر من خطورة السّطحية على ذائقة القارئ، ناقداً ما يُكتب على منابر التواصل الاجتماعي باسم الأدب، متسائلاً عن ماهية الغربان؟ هل هم من يُصدرون الكتب ولم يسبق لهم أن قرأوا كتاباً واحداً؟ وما هي المعايير التي تنصف الجد من الحماقة، والكتابةَ من الهزل؟ تختلف طرق العرض تبعاً لوسيلة الإضاءة المتاحة للكاتب، من مصباح كاز في صحراءٍ نائية، إلى لمبةٍ توسطت سقف غرفة مستأجرة وسط العاصمة، انتهاءً بشاشة كومبيوتر. وخلافاً لمفهوم السيرة الذاتية، يصحّ نسب الكتاب كسيرةٍ قرائية ترصد حيوات من أمعنوا في بلورة لذة التلقّي، وتلمّسوا مسالكَ الدروب المعتمة في القراءة، باستدعاء ذواكرَ عبقرية أسّست للكتابة العربية والعالمية. كتبٌ خلخلت السائد والمألوف، وأخرى صدرت مثل ضجيج خافت، فكان مصيرها المقبرة. عناوينٌ أدارت الرأس وأوقفت الذاكرة، وأخرى يستغرب كيف نتحمل حماقات كتّابها؟ هل لسطوة أسمائهم؟ أم لهشاشة القارئ المتمرّن؟ يبحث عن ضياع الإقناع، ومصير الدهشةِ اللغويةِ، ومآل البلاغة. برحلةٍ بدأها من صحراء مهملة ومثقلة بالدم.


يتنقّل الكاتب بين نصوصٍ مدهشة عبرت فضاء النشر وحلّقت، إلى أخرى تسلّلت بلا رقابة، ودون محاكمة صارمة. ينسف رفوفاً من المكتبات العربية، وينفض الغبار عن أخرى. يعدِّلُ بوصلة القارئ المحترف، ناصباً الفخاخ، مورّطاً الجهلاء بالانزلاق إلى مستنقعات كتابية لا تصلح إلا لذائقة البعوض. يبرز المكان الأول بجلوّ. البيئة وتفصيلات الأمكنة وتأثير المادة على أعمالٍ حافظت على حيويّتها، صورٌ شعريةٌ تعود لأمكنةٍ أثرَت نصوص كتّابها. نظرةٌ باشلاريّةٌ إزاء تعلّقِ العمل الفني بعناصر المكان، وجمالياتٍ حمَلها كونٌ أول، كونٌ حقيقي يتلمّس مواطن الجمال في الكتابة... إلى حيواتٍ وانكسارات. فحصٌ لجراح شعراء مهمشين ونصوصٌ خرجت لتروي قلقهم الوجودي. مآزق حروبٍ أرّخت لكتابة الألم، وأدباءٌ منفيون وكتّاب مستبعدون، إلى رحابة أسّست لسياقات كتابية، فصاغت كتابة جيل بأكمله، بدءاً بالكشف عن منشأ اللذة، فالقراءة هربٌ من الواقع، وتوارٍ بعيداً عن الأقران، وغرقٌ في عالم سحريّ لأناسٍ مجهولين وعوالمَ مبهمة. من الدميري إلى الجاحظ والأندلسي، لباديةٍ أنبتت من بين دروبها الوعرة مترجماً كبيراً كصالح علماني.
من ارتحال سركون بولص إلى ليالي بورخيس اللانهائية

عن العناوين الأولى التي شكلت ذائقة المشاء الفكري كيليطو، لسيرة غالب هلسا وروائيّيه، لسينمائي كاتب، وجوّابي مدن رحّالة. عزلة دعد حداد وآلامها، وأناشيد إنشاد أنسي الحاج. قراءةٌ تمشي رافعة رأسها عالياً بقلم عبد السلام بنعبد عالي. من ارتحال سركون بولص، وهامش محمد سيدة إلى ليالي بورخيس اللانهائية، يتنقل ورّاقُ الحب بين كل ما هو ذاتيّ، ومهمل، ومنسي. يفتح ثغرةً في جدران النصوص الميتة، ويزيد من رقعة الضوء على نفائس الكتب، مؤثثاً لفضائل العزلة على كُتّابٍ، ومساوئها على آخرين، بقافلة «لاءات» ساخطة، رافضة لكل ما هو سطحي ومبتذل. يحرس المعنى، ويستثمر الأسلاف لجهاتٍ ثقافية ومعرفية، رافداً رحلة السرد بإلهام جادّ، بعيد عن كونه رسالة نقدية، بل بصورة خطاب معرفي متكامل.
في «نزهة الغراب»، محاولة جادة لإنقاذ النصوص المحكمة. تساؤلاتٌ حول نجاعة السبل لانتشال النص المتين من قلب غوغاء النشر والثقافة الغارقة في الأجواء الزائفة، لقاءَ شخصياتٍ تمنح الطمأنينة والمتع الجوالة. تخرج إلينا معتقلاتٌ قاسية، وشيوعيون عصاة. قديسون وروحانيون. مكاشفاتٌ بلا أدنى دريئة لمن رحلوا غير مكترثين بآثارهم. هكذا تتدفق الذاكرة بجسارة، في نسقٍ من التاريخ الثقافي حيث سيطر الاستبداد، ناقلاً الملاحمَ بعيداً عن الأمجاد والبطولات إلى طغاة مبدعين بالنسف والنبذ. فقراتٌ تتجاوز خصوصية الذوات، وموتى انتهوا بجوار مكتباتهم! يستمرّ الكاتب في تفكيك جميع أشكال القصّ والسّرد، متجهاً إلى آثامٍ تُرتكب باسم الترجمة الحرفية، ولغاتٍ منحت الهوية لبلدانها أكثر مما فعلته سياساتها، ليختم بحكاياتٍ عالقة عن أسماء عبثت بالتاريخ، فهدمت مكتباتٍ ودمرت كتباً ثمينة. كنوزٌ رموها في قلب النار ببلادة عبيدٍ تعساء. منتهياً بخطابٍ حازم، وحقيقة ملزمة، أن لا نجاة لنصوص اليوم، ولا حياة تُرتجى سوى لتلكَ التي خرج بها مبدعوها بعرقِ السهر، ونزيف الدم، وتنقيب الباحث التواق للمعرفة.

* كاتبة سورية