تقول إيزابيل الليندي: «على المرأة أن تبذل جهداً مضاعفاً ثلاث مرّات عن الرجل كي تحصل على نصف الاحترام. كلّفني الأمر 30 عاماً من الكتابة، و20 كتاباً». يدعونا قول الروائية التشيلية إلى التساؤل: كيف يُمكن للمرأة أنْ تؤسِّس فكرها الخاص، وتدافع عنه في المُجتمعات العربية، التي ما زالتْ تُنكِر عليها أبسط حقوقها، وتحديداً في الأماكن التي تُعتبر فيها التقاليد والسُلطة الذكورية سيّدة الحكم؟ انطلاقاً من هذه الفكرة وأفكار أخرى، تأخذنا مريم يوسفي في باكورتها الروائية «أبي الجبل» (دار ضمّة ـــ الجزائر ـــ 2021، نالتْ عنه «جائزة علي معاشي للمبدعين الشباب») إلى إعادة طرح هذا التساؤل عن طريق «صبرينة» بطلة عملها. نحن أمام نصٍّ ما بعد حداثي، تدور أحداثه في عمارة عبّرت عنها مريم بجملة ذات مضامين قوية، إذ تقول: «أنا الطابق الأرضي للعمارة... العمارة ذات الواجهة الواحدة، كامرأة طمسوا ثديها».

تشبّه العمارة/ المكان، بالمرأة التي طمسوا ثديها، للتعبير عن المرأة التي تُحاول مواجهة كلّ ما يحدث من هشاشة فِطرية، وهشاشة غرَسَها المُجتمع فيها، بالوقوف والصمود مجدداً كعمارة بواجهة واحدة، ما جعلها تستخدم المكان المتجسّد في العمارة، بكلّ ما فيها. حتّى السلالم ترى أنّ لها ذاكرة هي الأخرى: «للسلالم أيضاً ذاكرة»، ما يرسّخ لدى القارئ، فكرة المكان بدءاً من منظوره الخاص البيت، السلالم، العمارة، وصولاً إلى المدينة من منظورها العام الشوارع، الحارات.
وها هي الروائية والكاتبة الجزائرية الشابة تختار مدينةً، ليستْ ككلّ المُدن. إنّها بوسعادة، مُلهمة كبار الفنانين والمستشرقين، هذه المدينة التّي أحبّها إتيان دينيه ودُفن فيها. فالكاتبة تتحدّث عنها بلسان «صبرينة»: «يقول أبي إنّه لا يمكن لفنّان أن يعرف بوسعادة ويتمكّن من تجاوزها بسهولة». وبدلاً من أنْ يُضيف هؤلاء إلى تراث المدينة، فإنها هي التي تقدمهم للعالم كما فعلتْ مع دينيه، إذْ لم تكن بوسعادة بالنسبة إليه ورشة مفتوحة فحسب، إنما أيضاً مَعبراً لذاته وهويته.
ويبدو أنّ لصبرينة أيضاً ما تقوله عن هذه المدينة التي ارتكز إليها النصّ، ليستقيم بُنيانه. إذ تقول: «إلى جانب أبي وأمي، كانت بوسعادة الطرف الثالث الذي شقّ مسارات داخل وعيي».
فيا ترى ما علاقة المدينة بشخوص الرواية؟
انطلقت الكاتبة من الفضاء الخاص، ليجد القارئ نفسه في الفضاء العام. من خلال هذين الفضاءين، قدّمت مريم قراءتها في شخوص الرواية، هواجسهم، انفعالاتهم، أحلامهم المبتورة. ولعلّ المرأة، كانت أكثرهم حُضوراً، فهي دوماً مَن تأخذُ نصيب الأسدِ من كلّ ما يدعو إلى التقليل من شأنها بدءاً مِن العائلة وصولاً إلى المجتمع. نرى ذلك في خال صبرينة التي أراد هذا المجتمع تزويجها رغماً عنها. ولأنّها أخبرتِ العريس الأكبر سِنّاً منها، بأنها تُريد أنْ تواصل دراستها، أشفقَ عليها وتركَها، إذ أنّ خالها أوهَمه في البداية أنّها لا تدرس. الغريب في حقيقة الأمر كان أرحم عليها من القريب (الخال).
تشبّه العمارة/ المكان، بالمرأة التي طمسوا ثديها


بعد هذه الحادثة، تخلّى الخال عن العائلة إلى الأبد، لتجدَ نفسها ووالدتها، في مواجهة المُجتمع الذي بطبيعة الحال لن يقابلها بالأحضان، بلْ سيُكشّر عن أنيابه وأحياناً يخترعُ أنياباً جديدة ليغرسها في أجساد النساء الضعيفات.
نكتشف مع صبرينة نسوة أخريات، ولكلّ امرأة حكاية مختلفة، فيما قد تختلف درجات تعاطف القارئ مع كل واحدة. الكاتبة نقلتْ هنا واقعاً لا زيف فيه يحدث في المُجتمعات المسكونة بـ «العيب والعار»، لكنّها لا تخاف ضميرها، إذ إنها تمارس كلّ شيءٍ خفية، غير أنّها في العَلن تحاول أنْ تبدو كأنّها منبع الفضيلة. ربطتِ الكاتبة أب صبرينة بالجبل، وببوسعادة في توليفة جميلة، يتعقّب القارئ من خلالها عبق التاريخ القادم من بوسعادة. تقول صبرينة: «من أعالي جبل كردادة، تبدو بوسعادة كطفلة مزهوة مُدلّلة.. يلفّ خاصرتها الجبل العظيم بكلّ ما أوتي ساعداه من بأس، تعانقُ عيناي ألوان المدينة التّي سكبها دينيه في ألواحه وأنا على يمين أبي مُلتحفة ببرنوسة، أستنشقُ رائحة الوبر، ويوخز شفتيّ زغبه.. متدثرين على أنغام مذياعه الصغير».
عمارة أبي الجبل، لم تكن قطّ عمارة ذات واجهة واحدة منسيّة في بوسعادة، وإنّما هي عمارة لمجتمع أحادي التفكير، يرى الأشياء من أفق رؤيته الضيّق، مُهملاً باقي الزوايا.
إنها تعبير مصغّر عن تفكير بعض العوائل العربية تجاه المرأة ونظرتها الدونية لها. وفي المُقابل يحمل نصّ «أبي الجبل»، ضوء نور لا يمكن أن يبهت أبداً، يبدو واضحاً من خلال العلاقة القوية والصادقة التي كانتْ تربطُ صبرينة بوالدها، والّذي كانت لا تراه إلاّ قويّاً مثل الجبل.
نصِّ «أبي الجبل» جيد من حيثُ الشّكل الأدبي الذي قُدّم به، ومن اللّغة ورسائل الرواية. تبقى بعض الهفَوات التي يمكنُ أن تتداركها الكاتبة مستقبلاً، فمريم يوسفي تمتلك الحِرفة، وهذا شرطٌ مهمّ جداً في الكتابة، إلى جانب القراءة. فإمّا أن تكون كاتباً أو لا تكون، ومريم يوسفي كاتبة.