كان على دينغ شياو هوا (1953) أن تنتهي عاملة في مصنع أو خيّاطة كما هي مهنتها الأخيرة، ولن نسمع بها على الإطلاق. لكنها التفتت إلى الكتابة بعد الثلاثين من عمرها، وهي مثقلة بتاريخ من المحن التي طاردت عائلتها. كان والدها رئيساً لتحرير صحيفة محليّة اتهمه الحزب الشيوعي الصيني بأنّه مرتد، فاضطهده بعنف كواحد من آلاف ضحايا الثورة الثقافية. كانت الطفلة دينغ التي اضطرت إلى هجر المدرسة الابتدائية، من حصة الجدّة. في حضنها أنصتت لحكاياتها عن السحر وطرد الأرواح. بعد موت الجدّة، اكتشفت عمق الهاوية التي تنتظر عائلتها، فهي لم تنس مشهد والدها مدفوعاً إلى شاحنة ضخمة وقد عُلّقت في عنقه لافتة تحمل عبارة الاتهام، لينتهي وحيداً في سكن منعزل يدعى «زريبة البقر»! هكذا اتجهت إلى الكتابة للخروج من النفق المظلم الذي خيّم على حياتها، واختارت اسماً مستعاراً لتوقيع كتبها «تسان شيّيه» (ذوبان الثلج).

بدت النصوص الذاتية التي كانت تكتبها يومياً بمثابة نسف وتمرّد على التقاليد، برفضها اتباع الحشد مثل سربٍ من النحل. وإذا بها تؤسس لكتابة طليعية مضادة وعابرة للحدود واللغات بمزيج من ثقافات متباينة تتأرجح بين بلاغة كالفينو، ومتاهات بورخيس، وكابوسية كافكا، وروحانيات الجدّة. كتابة «تشبه إلى حد كبير النزول السريع من فوق جبل في قلب العتمة؛ حيث تجد عندها الطاقة الدافعة بكل سهولة، لكنك لا تعرف أين تتجه بالضبط».
هذه الخلائط السردية تنطوي على خبرة حياتية تنعكس على هيئة مرايا من الألغاز والغموض والهذيان، و«صناعة المتاهات»، كما تحتشد بألوان الطبيعة والغرائبية، في سرد تلقائي تمليه مخيّلة محتشدة بالوقائع. روايتها الأخيرة «الحب في القرن الجديد» التي نقلتها إلى لغة الضاد يارا المصري عن اللغة الصينية مباشرة («دار سرد» و«دار ممدوح عدوان») فرصة استثنائية في اكتشاف كتابة متفردة وجريئة وخشنة في تقليب وحراثة تربة المجتمع الصيني اليوم، من خلال تتبع مصائر شخصيات تتبادل الأدوار في الحكي، بحثاً عن حياة مختلفة، وحالات حب مستحيلة محمولة على شهوانية عالية، وسعي محموم إلى حرية مطلقة في تعبيرات الجسد، وتطوير معنى الجمال الحسّي والروحي، وتفعيل عمل الحواس بأعلى طاقتها نحو اللذّة، والهيجان العاطفي، والحدود الضبابية بين اليقظة والنوم، والغوص في أسرار القاع. في حوارٍ معها عن روايتها هذه، تروي صاحبة «شارع البهارات الخمسة»، و«غرفة فوق التل»، بأنها كتبت الرواية طوال عام كامل «أكتب كل يوم ساعة واحدة فقط، وأقلّ من ألف رمز. كما أنني أكتب بخط اليد ولا استخدم الكومبيوتر، أكتب من دون تصوّرات مسبقة، فثمة قوة مظلمة تتحرك داخلي، وتقود جسدي. لذلك لم أفكّر في أي بداية أو نهاية، كل شيء كان تلقائياً، ولهذا لا أحد يستطيع تقليد أسلوب كتابتي». وتتابع: «ما أكتبه بطبيعة الحال هو شعر، وتهشيم أبواب العذاب لتحرير الروح السجينة». وحسب الناقدة إيلين مايلز «إن تسان شيييه تمشي على الحد الفاصل والحاسم بين الحقيقة والخيال والأسطورة والواقع، بين السياسة واللامنطق».