عن «دار التنوير»، صدر أخيراً كتاب جديد للباحث والأكاديمي التونسي محمد الحداد بعنوان «الدولة العالقة: مأزق المواطَنة والحكم المدني في المجتمعات الإسلامية» اعتبر فيه أن الدولة الدينية التي تدعو لها التيارات الإسلامية، سواء المتطرفة مثل «داعش» أو الحركات الإخوانية «المعتدلة»، ليست إلا نسفاً لمفهوم الدولة الوطنية. ويوضح الحداد أن الدولة الدينية هي نسف للتراكم الحضاري والمدني، ومحاولة لتأسيس مجتمعات متخيّلة تعدّ انقلاباً على الدولة المدنية التي تحترم حق المواطنة. يقول: «هذا الكتاب محاولة في تحليل مأزق تاريخي وحضاري، وهو في الآن ذاته، سعي إلى نفخ روح التفاؤل من جديد لدى الشباب الذي أعلن إرادة الحياة، وإعادة دور الثقافة المحاصرة بالعنف والدجل والجشع وتخاريف الشيوخ».

يتناول الباحث في هذا الكتاب مفاهيم الدولة المدنية والدينية ومفهوم المواطنة عبر التاريخ من اليونان وفلاسفتها في تمثلاتهم للدولة مروراً بالرومان، وصولاً إلى العرب المسلمين والعصر الحديث في أوروبا. ويعتبر الحداد أنّ «توظيف الدين في هذا المجال، قد فاق ضرراً كل التوظيفات الأيديولوجية الأخرى، فقداسة الدين في نفسية الإنسان العربي تجعله كثيراً ما يقع بسهولة في فخ المغالطات، والخلط بين الانتماء الديني والانتماء السياسي».
اعتبر الكتاب أنّ المجتمعات العربية والإسلامية عرفت ثلاث محاولات تاريخية لتأسيس الدولة الحديثة الأولى كانت مع نشأة حركة الإصلاح في القرن الثامن عشر من خلال الدور الريادي ـــ كما سماه الحداد ــــ الذي قام به رافع الطهطاوي. المحاولة الثانية كانت مع حركات التحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية. وفي هذا السياق، يرى محمد الحداد أنّ الدولة الوطنية لم تنتبه لضرورة الإصلاح الديني. ومن هذا الفراغ تسلّلت الأصولية الدينية «فتحوّل الفقه إلى شريعة، والمحافظة الدينية إلى حاكمية، والقانون إلى حكم بما لم ينزل الله، والحكومة إلى طاغوت». ويرى الحداد أنّ ذلك جاء نتيجة سوء تقدير من قبل زعماء حركات الاستقلال في التعاطي مع موضوع الدين الذين لم ينظروا إليه كموضوع أولوية. وفي مقابل ذلك، اهتمّ هؤلاء بفكرة التقدم واعتبروه مساراً لا يقبل التراجع. لذلك، فبمجرد ضعف الأنظمة بعد ما يُعرف بـ «الربيع العربي»، تسلّل الإسلاميون وتصدّروا المشهد. لكنّ سقوطهم كان سريعاً لـ «أنهم لا يحملون مشروع دولة بديلة».
وأشار إلى أن ما حصل في الدول العربية من صعود الإسلاميين إلى الحكم بعد ثورات قادها الشباب الحالم بالكرامة والحرية والعمل هو «فضيحة حضارية بكل المقاييس». إذ إنّ «الربيع العربي» بشّر بالحرية، لكنّه «شبّ في أغلال التوظيف الديني للسياسة وتعميم الطائفية والتكفير والعنف، وهرم قبل وقته باستيلاء القوى المحافظة عليه وفتح المجتمعات العربية على كل أنواع الوصاية المحلية والأجنبية».
ورأى محمد الحداد أن دولة الاستقلال قامت على حلم تحديث المجتمع وعلى أسس قومية أو وطنية، لكنها أهملت المسألة الدينية واعتبرتها محسومة، وهو الباب الذي دخلت منه الحركات الإسلامية لتغيير نمط المجتمع وطبيعة الدولة.
ويتساءل الباحث عن إمكانية بناء دولة مختلفة، مناقشاً أطروحة أستاذ القانون الأميركي نوح فيلدمان «سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها» وكتاب برنارد بادي «الدولتان الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الاسلام». واعتبر أنّ الكتابين يمثلان صياغة لنظرية الدولتين «أي تعارض شكل الدولة في المجتمعات الغربية وفي المجتمعات الإسلامية».
المجتمعات العربية والإسلامية عرفت ثلاث محاولات تاريخية لتأسيس الدولة الحديثة الأولى


وتوزّع الكتاب بين ستة أبواب وهي: «دولة المواطنة والإصلاح الديني»، و«تأصيل المواطنة والإسلام الأصولي»، و«نسف المواطنة ونقد نظرية الدولتين»، و«العولمة السائبة»، و«وهم نهاية الدولة»، و«الاستقطاب الطائفي وحرية المعتقد».
وفي كل باب من هذه الأبواب، تناول الحداد الذي يشغل منصب أستاذ كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان منذ 2005، مجموعة من القضايا مثل مأزق الدولة الوطنية، وإمكانيات التجديد والقراءة المواطنية في المصطلحات القرآنية، والإصلاح الديني، وتأصيل المواطنة، وابن خلدون والإصلاح الديني، والإسلام الأصولي ونسف المواطنة، والأصولية الدينية. كما اهتمّ بالثورة الإيرانية من خلال برتران بادي، والثورات العربية من خلال نوح فيلدمان. وخصّص باباً لأنسنة العولمة، ونقد مقاربة فوكوياما وهنتنغتون، إلى جانب حرية السوق ضد اقتصاد التوحش ونمط التنمية وغير ذلك من مواضيع متصلة بالعلاقة بأزمة المواطنة في المجتمعات العربية الإسلامية.
هذا الكتاب يطرح قضية مركزية في الثقافة العربية تتعلق بالديمقراطية التي تشترط وعياً عميقاً بالمواطنة، وهو ما لا يتوافر في المجتمعات العربية الإسلامية التي ما زال يحكمها التمثل الديني، خصوصاً بعد ما عُرف بالربيع العربي الذي صعدت من خلاله الحركات الإسلامية المعادية للديمقراطية والمواطنة والدولة الوطنية إلى الحكم. وهو ما اعتبره محمد الحداد ما يرقى إلى مستوى الفضيحة والخيبة التي حطّمت أحلام الشباب الحالم.
ويطرح الحداد في كتابه جذور الأزمة المفاهمية بين العرب والمسلمين حول الدولة، فيقول: «ومن الملاحظ أن الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية كان يُنظر إليها في العصور القديمة على أنها القبيلة الأقوى ويقع التعامل معها على هذا الأساس، بالطاعة توجساً من قوتها وبالتمرد عند الشعور بضعفها». واعتبر أنّ الاستعمار لعب دوراً قوياً في نشأة الشعور الوطني. ويؤكد الحداد أن «الدولة» تنظيم حضاري وسيرورة من سيرورات الوضع الإنساني. ويفسّر هنا مفهوم الدولة العالقة بقوله: «عبارة الدولة العالقة التي نقترح ونعتمد في هذا الكتاب، تسعى إلى إبراز أصل الداء، فالدولة العالقة يمكن أن تنجح في توفير الأساسيات، فتوفر الأمن وتشتري السلم الاجتماعية». ويعتبر أنّ أزمة الدولة لن تجد حلاً في غياب الوفاق الاجتماعي، وهذا لن يتحقق إلا بالتأكيد على الطبيعة المدنية للدولة والرد على أطروحة الدولتين التي يدافع عنها منظرون غربيون في العلوم السياسية على حد قوله.
يعتبر هذا الكتاب من أبرز ما صدر خلال السنوات العشر الأخيرة التي تراجعت فيها مفاهيم الدولة المدنية على حساب دعوات الدولة الدينية التي تدعو إليها التيارات الدينية في العراق واليمن وسوريا وليبيا وتونس التي كانت من أبرز النماذج التحديثية في العالم العربي قبل أن يصعد الإسلاميون إلى الحكم في أواخر 2011 ليفرضوا وضعاً جديداً يقاوم التيارات التحديثية من أجل التخفيف منه، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق المرأة والحريات الخاصة.
وهذا الكتاب يشكّل حلقة جديدة من سلسلة كتب لمحمد الحداد في السياق المعرفي نفسه الذي اختاره، علماً أنّه أصدر سابقاً مجموعة من الأعمال مثل «جمال الدين الأفغاني: صفحات مجهولة من حياته» (بيروت ـ 1997)، و«حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي» (بيروت ـ 2002)، و«محمد عبده: قراءة جديدة في الإصلاح الديني» (بيروت ـــ 2003)... وها هو يطرح في هذا الكتاب الدولة المدنية العالقة في العالمَين العربي والإسلامي بسبب تأويل الدين والإسلام السياسي وغياب ثقافة المواطنة. أمر أعاق المشروع التحديثي والإصلاحي الذي طرحته النخب العربية منذ القرن الثامن عشر، لكنّ المشروع كان هشاً من جهة، ومن جهة أخرى عطلته تيارات الإسلام السياسي وغياب التنمية وتجاهل الأنظمة العربية لقضية الإصلاح الديني.
كتاب ممتع يطرح قضية تشغل النخب العربية، خصوصاً منذ عشر سنوات بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم في تونس وليبيا ومصر، وهم فشلوا في تجربتهم في حكمها في زمن قياسي في الوقت الذي ما زالت فيه النخبة التونسية تصارع من أجل الحدّ من نفوذ الإسلاميين في الفضاء العام والحفاظ على مدنية الدولة وثقافة المواطنة.