إنها رحلة الباحث والمؤرّخ العراقي فاضل الربيعي في البحث في «المؤطر» من الأساطير التي استخدمها التوراتيون -والتوراتيون الجدد لاحقاً- في خلق أساطير حول الديانة اليهودية قد لا يكون هناك مصدرٌ أو أساسٌ حقيقي بنيويٌ لها. إنه مؤلفه الثاني من مجلّده الثاني حول الأساطير «التوراتية اليهودية» وليس «التوراتية الإسرائيلية». في كتابه «الألغاز الكبرى في اليهودية: إسرائيل المتخيّلة: مساهمة في تصحيح التاريخ الرسمي لمملكة إسرائيل القديمة» (دار رياض نجيب الريس)، يطرح الكاتب العراقي «الرحّالة» إشكاليات حول التوراة وطريقة تفسيرها، وتقديمها وشرحها، مرتكزاً على نصوص التوراة «اليهودية» المعروفة باسم «التناخ» (أي توراة الأنبياء والكتبة)، إنها محاولة لا تزال مستمرّة منذ كتابه الأوّل حول الموضوع «الشيطان والعرش» (2007). قبل أي شيء، قد يعتقد البعض بأنّ «الألغاز الكبرى في اليهودية» ليس كتاباً مخصصاً للجميع؛ لكن الكاتب يشير إلى «أنّ فهم النص التوراتي ممكنٌ بسهولة فقط، لو أننا اعتمدنا طريقة مغايرة في قراءته، أي في إعادة تأويله، وأن إزالة الغموض عنه ممكنة أيضاً، فقط من خلال تهشيم منظومة القراءة الاستشراقية التي هيمنت عليه».

إنها حكاية المنطقة، بأساطيرها المحكية، التي استطاع «أحبار اليهود» تغييرها واللعب عليها وتقديمها على شكلِ قصةٍ «يروونها كما يحبّون». يأتي الكتاب مقسّماً إلى فصولٍ ستّة، وملحقٌ للنقوش، وقبلها مدخلٌ أشبه بمقدّمة من الكاتب يوضح سبب وصول أبحاثه إلى هذا الكتاب وماهيته ومحاولة سبر المسألة بين يديه. وهناك مدخلٌ ثانٍ بعنوان «حول التلاعب بتاريخ اليمن» يحكي فيه عن التزوير الكبير الذي حلَّ بتاريخ اليمن، كبلد وكتاريخ؛ حين «وضع –يقصد اليمن- ضمن تاريخ فلسطين وجغرافيتها. وبالطبع من جانب علماء الآثار والمؤرخين التوراتيين الإستشراقيين، وعلى خطاهم بعض علماء الآثار المؤرخين العرب».
يبدأ الكاتب من مقدمته «بهدم» واحدة من أهم الأساطير الصهيونية المعتادة: «مملكة إسرائيل القويّة الموحّدة»، قائلاً: «إن قصة وجود «مملكة إسرائيلية موحّدة» قامت ذات يوم من التاريخ في أرض فلسطين بعد انهيار مصر والممالك المتحالفة معها، ثم انقسمت وتفككت إلى مملكتين متصارعتين، قصة استشراقية لاهوتية مُلفقة لا أساس لها في التاريخ ولا في النص العبري. إن تاريخ مصر القديم لا يعرف أيّ شيء عن هذه الواقعة التوراتية. بكلام آخر: تقوم كل قصة «وجود مملكة إسرائيلية موحدة في فلسطين» على فرضية تأويلية/ استشراقية ذات طابع لاهوتي خالص، تزعم أن الإسرائيليين استولوا على «أرض كنعان» بما هي جزء من «أرض مصر»، وأقاموا «مملكة» في فلسطين. هذه أكذوبة لا أساس لها في التاريخ المكتوب. الصحيح أن التوراة تتحدث عن «مملكة مصريم»، لا عن مصر البلد العربي. هذه القصة، كما ذكرنا آنفاً، لا أساس لها في النص العبري من التوراة، ولا في التاريخ المصري؛ إذْ لم تعرف مصر في تاريخها المكتوب واقعة من هذا النوع، ولم يحدث قط أن كانت هناك قبيلة بدوية صغيرة حالفها الحظ، وتمكنت من انتزاع ممالك متحالفة مع مصر وإلى جوارها، ثم انتهى الأمر بسقوط مصر نفسها في قبضة هذه القبيلة. ولا ريب أنَّ الجملة التي يختم فيها هذه الفقرة: «هذه حكاية خرافية من تلفيق اللاهوتيين المهووسين بقصص التوراة» هي بوابة البحث/ الكتاب؛ فهذا النص المأخوذ من مقدّمة الكتاب يضع القارئ أمام نوعٍ جديد من الباحثين العرب الذي لا يقبلون بالرواية الإسرائيلية فحسب، بل يسوقون الأدلّة والمنطق كحجّة مناقشة وبيان.
يشير إلى أنَّ شمشون هو بطل شعبي يدعى «يدعئيل بن رب شمس»


يأتي الفصل الأوّل بعنوان «أين وقعت صراعات القضاة ومعاركهم». والقضاة (شوفطيم بالعبرية) هنا أشبه بالمنقذين لشعبهم، فالقاضي بحسب «سفر القضاة» يأتي من النص التوراتي: «وأقام الرب قضاة فخلصوهم من أيدي ناهبيهم» (قض 16:2). إذاً القاضي هنا عبارة عن «قائد ومخلّص». يغوص المؤلف أكثر في فكرة أين قام هؤلاء «القضاة» الذين كان من بينهم الشخصية التوراتية الشهيرة يشوع بن نون الذي «تمكن الكاهن الأعظم من هزيمة أعداء بني إسرائيل. وبعد الانتصار وزع أراضي الأعداء على أسباط إسرائيل من الشماليين والجنوبيين. إننا لا نعرف أي تاريخ حقيقي لهذا الحدث طبقاً لما يقوله النص التوراتي، إذ لا وجود لأي دليل لغوي أو أثري (أركيولوجي) في فلسطين». يقارن الكاتب بين «النص التوراتي» المكتوب والمفسّر وبين الواقع التاريخي للمنطقة، مستخدماً نصوصاً كما هي من «التناخ»، وشارحاً ماهيتها، ومعناها. الفصل الثاني يأتي استكمالاً للفكرة الأولى، إذ يشير الكاتب إلى أنه سيفكك «سفر القضاة» إلى «وحدات» صغيرة، ليسهل على القارئ غير المتخصص فهمه. يعود الكاتب لطرق باب الجغرافيا، من خلال حديثه عن القرى والمناطق والمدن اليمنية التي «جرت فيها هذه الأحداث» (وفق أبحاثه) لا على أرض فلسطين والمناطق المجاورة لها. يشير إلى «جبل لبنان» (لبنن) وهي منطقة في محافظة إب، موضحاً أنّ الاسم يكتب «لبنن» مثلما كتبت صنعاء سابقاً «صنعن»، وعرب «عربن» وهكذا؛ أو «الفلستينيين-فلشتيم». وهي أيضاً من محافظتي إب وتعز في منطقتين تدعيان «الفليسي» و«المفاليس»، وهي مصدر مركب من ذات الكلمة والفكرة. يمر الكاتب بعدها على التزوير الذي غاص في التاريخ العربي مثل حكاية ملك آرامي يدعى «كوشان» احتل كامل سورية واجتاحها. هنا يؤكد الباحث بأنه «لم يتواجد أبداً»، فتاريخ سورية لم يعرف شخصاً بهذا الاسم قط. في الفصل الثالث، يعود الكاتب إلى تفاصيل «القصص» من خلال حديثه عن الصراع مع المديانيين، مؤكداً أنّ «القصة» لا تزال تحدث في اليمن: «بعد وفاة القاضية-الكاهنة دبورة، ثم وفاة القاضي الكاهن بارق، كان على القبائل اليهودية الجنوبية (الحِمْيَريّة) أن تنتظر وقتاً طويلاً لتعثر على مخلّصها، ولكنها كانت – في هذا الوقت- قد أصبحت تحت رحمة قبائل وثنية في قطاع «مديان»/ ميدان ضمن ما يعرف اليوم بمحافظة تعز». لاحقاً ينتقي الكاتب نصاً من «التناخ» شارحاً بعده: «نفهم من هذا النص، أن بني إسرائيل طاردوا «الميدانيين» حتى مقاطعة «سكوت» وهي من مقاطعة محافظة تعز اليوم في مديرية «ماوية»». الفصل الخامس، قد يجده معظم القرّاء الأمتع والأكثر تشويقاً، إذ إن الباحث العراقي يتناول قصة يعرفها الجميع تقريباً: «قصة شمشون الجبّار» وتهديمه الهيكل المزعوم، وصاحب نظرية «عليّ وعلى أعدائي» وخيانته من قبل «دليلة». يفتت الربيعي نظريات معظم المؤرخين «الإسرائيليين والاستشراقيين والكثير من العرب» حين يشير إلى أنَّ شمشون هو بطل شعبي يدعى «يدعئيل بن رب شمس» وهو «خرج على السبئيين في شبوة وجمع قبائل خولان وبني كلب وقبيلة يام، وانتصر في سلسلة معارك. إلا أن السبئيين تمكنوا في وقت قصير من صد هجماته وأحرقوا المدينة بالكامل قبل انسحابهم». ويستخدم الباحث نصوصاً للتأكيد بأنّ «رب شمس» هو ذاته شمشون، مشيراً إلى أنّه «يمكن فهم أصل أسطورة شمشون وفقط ضمن تاريخ سبأ. المثير للدهشة أن فترة حكم هذا الملك تتوافق كلياً مع التاريخ الذي حددناه لكتابة هذا السفر 240-200 قبل الميلاد». هذا «الشمشون» المخلّص ــ بحسب الرواية ــ يبدأ بالتحرّك في منطقتي «صرعة» ثم «اشتاول» وهذا يعني بحسب الجغرافيا أنه «زحف مما يعرف اليوم بمديرية حشيش، وتوغّل في صرعة نحو وصاب العالي في ذمار، ليتجه بعد ذلك صوب إب». وهذه كلّها مناطق يمنية واضحة المعالم، ومعروفة جداً. طبعاً يربط الكاتب الاسم أي «رب شمس» بالتسمية التي أخذها العرب لاحقاً «عبد شمس»، باعتبار أنَّ «رب شمس» شخصية «مقدّسة» عند اليهود بصفته «ثائراً» و«مقاوماً» ضد أعداء و«ممالك أقوى منه بكثير». أما في الفصل الأخير، فيتناول الكاتب «الصراع مع بن يامن»، ويشرح أنّ بن يامن بحسب التوراة هو «أحد الأسباط» تصارع مع القبيلة (أي بني إسرائيل)، فلماذا كان هذا الصراع؟ يوضح: «في الواقع، دار هذا الصراع بين القبيلة والسبط، أي القبيلة وفرع من فروعها، على خلفية صراع ديني بين الإله يهوه الذي هو إله القبيلة الصغيرة، والإله المقه الذي هو إله المدينة الأكبر والأقوى. لقد تنافس الإلهان، اليهودي يهوه، والسبئي المقه، على المكانة الدينية في مجتمع قبائل انهارت أحلامها كلياً».
كتاب جريء يحتاج للقراءة أكثر من مرة لهضم المعلومات الدقيقة التي تتطلّب تركيزاً كاملاً لإدراك كليتها حتى لا يضيع القارئ، على الرغم من محاولة فاضل الربيعي أن يكون كتابه سهلاً وللجميع. نقطة أخرى تحسب له أنه كتابٌ مهم للمكتبة العربية يسهم في تعرية وكشف الزيف الصهيوني الذي امتد لا على التاريخ فحسب، بل على الجغرافيا أيضاً.