لا يغادر الكاتب الفرنسي «الأكثر مبيعاً» هذه المرة أيضاً ملعبه المفضّل وهو التشويق والحبكة البوليسية. كما كانت روايته السابقة «حياة الكاتب السرية» مفعمة بعبق مكانه الأثير وهو اللغز، فإنّه يواصل تلك اللعبة في روايته الجديدة «الحياة رواية» (2020) الصادرة ترجمتها حديثاً عن «دار نوفل». لكنّ المختلف ربما أنه يطرح هذه المرة سؤالاً قد يبدو جديداً في عالمه الروائي والأدبي: إلى أيّ مدى تتقاطع الحياة مع الكتابة والخيال مع الواقع؟

لا تبدو الإجابة سهلة على غيوم ميسو، الكاتب الفرنسي الذي ترجم إلى أربعين لغة، وحقّق شهرة كبيرة وهو لا يزال في الخامسة والأربعين، وهو يصدر كتاباً كل سنة. فقد اعتبرت الناقدة ساندرين باجوس أنّ روايته الجديدة «قصة ميكافيللية مبهجة» وأنّ ميسو يوقّع واحدة من أفضل رواياته. لكنّ القارئ وهو يقرأ بشوق ليعرف نهاية القصة، يمرّ على أسئلة جميلة عن علاقة الحياة بالكتابة وبالابن والابنة. فالقصة تبدأ باختفاء ابنة فلورا كانواي وهي روائية أميركية، في لعبة الغمّيضة مع أمها. لا نعرف سبب الاختفاء، لكننا نعلم أن هناك جريمة تُرتكب، ولغزاً تتكشّف خيوطه مع اقتراب النهاية. وبالرغم من أن لا دليل على الاختطاف، لكنّ اللغز يبقى عصياً على التفسير، وتعجز الشرطة عن التقاط أي أثر لكاري. هذا المناخ البوليسي تخفّ حدته في ما بعد عندما نصادف تلك العلاقة بين كاتب فرنسي هو رومان أوزوروسكي وشخصياته الروائية، أي علاقته بفلورا كانواي وقصتها مع ابنتها التي لم يكمل كتابتها. هنا نكتشف أن غيوم ميسو يلعب لعبة خطرة. إنه يبدأ من الخيال ليجعلنا نكتشف الواقع ونلتقي بالكاتب في ما بعد، ونعلم أنه يعيش أسئلة شخصياته، بل يتماهى أحياناً مع بطلته فلورا في علاقته بابنه ثيو، الذي تريد زوجته التي أصبحت طليقته انتزاعه منه. يُبقي ميسو أبطاله باحثين عن حلّ للغز. يفعل ذلك باسم بطله الرئيسي رومان أوزوروسكي، الذي يترك نهاية قصته غامضة وغير واضحة. فهو أيضاً ساديّ، ورغم أنه يلتقي بفلورا ويناقشها لكنه يرفض أن يجعلها تعلم سرّ اختفاء ابنتها. يجعلنا ميسو نتابع ذلك بشوق لمعرفة النهاية، ونشعر أننا في روايتين متوازيتين واحدة حقيقية وأخرى متخيّلة. نتوه في البداية بينهما، لندرك أن الشخصيات الروائية ليست متوهّمة، وأنها ربما كانت حقيقية يوماً ما، ولماذا لا تختار حقاً ما تريد؟ وكيف يخلق شخص وحيد كل ذلك؟
يقول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا في إشارة إلى الوجود: «كل ذلك مطبوع بأحرف صغيرة في كتاب يتفكّك غلافه». وهنا تبدو الحياة الوجودية كأنها كتاب ضخم. الشخصيات الروائية تدافع عن وجودها، وأحياناً تفشل في ذلك، فتنتحر كما فعلت فلورا. الرواية هنا تفترض أن الروائي ليس كما في روايته السابقة «حياة الكاتب السرية»، أي شخص منعزل ووحيد ينسحب إلى مكان بعيد، فها هو في عزلته يلتقي بأشخاص كثيرين يشبهونه كثيراً ويختلفون معه كثيراً أيضاً. في «الحياة رواية»، يبدو أن اللقاء بين فلورا كانوي وأوزوروسكي دلالة على أنّ عالم الكاتب زاخر بما يشبهه وهو الآخر ولو كان متخيّلاً أحياناً. أسئلة أخرى تطالعنا ونحن نقرأ الرواية وهي: هل يعيش الكاتب من أجل خلق نهاية ما لقصصه؟ هل ترغمه الحياة على كتابة تلك النهايات؟ ولماذا تكون هناك نهاية بتلك القسوة؟
وُصف العمل بأنّه «قصة ميكافيللية مبهجة»


ميسو، الذي قرأ كثيراً لأغاثا كريستي، يقول عن كتابته لهذه الرواية: «أردت أن أكتب عن علاقتي بابني، عن تجربتي ككاتب. القراء حفّزوني لأفتح الصندوق الأسود للكتابة». وهنا يجعلنا نطل عليه من خلال رومان أوزوروسكي الذي يشبهه كثيراً لأنه كاتب وفي عمره ونجاحه. لكننا نُفاجأ بأنّ ميسو لا يصف الأشياء إلا من خلال القصة التي يكتبها، ومدى علاقته بابنه وبشخصياته الروائية، فالعلاقات تهمّه كثيراً وتشكل جزءاً من طقوسه الكتابية أيضاً. فها هي فلورا تتوسّله كي يستمر في الكتابة، لتعرف مصير ابنتها. ولأنه لم يفعل، لم تستطع فلورا العيش وسط فاجعة ابنتها ومن دون حل لغز اختفائها، فانتحرت.
يبدو أن الخيط الرفيع بين الخيال والواقع، وما جعلنا نفقده، هو ما أعطى الرواية جمالية خاصة. شعرنا لوهلة أنّ العالم هشّ سيختفي في لحظات كما يحدث في الخيال، وكما يحدث في الواقع أيضاً. فكاري تختفي ولورا تنتحر بإرادتها، وثيو يختفي. ما هو واضح هو العلاقة القوية بين هذه الشخصيات، رغم هشاشتها بين الخيال والواقع. هذا ما أعطى للرواية لوناً خاصاً مختلفاً عن روايات ميسو البوليسية التي لم يترك فيها بصمته ولا التوابل التي يضيفها دائماً للتشويق. فالنهاية هنا مهمة للغاية قد توصل المرء إلى وضع نهاية لقصته بنفسه، ويجعلنا ميسو نعتقد أنها لعبة علينا أن نقرّرها، فلا رواية بنهايات مفتوحة. إنها مغلقة بإحكام إلى درجة أننا نفكر بغلقها إذا تسنى لنا الأمر تماماً كما فعلت فلورا.
يحاول الروائي الفرنسي الإجابة على سؤال: من يسبق من؟ الحياة أم الرواية؟ يفعل ذلك برسمه تفاصيل في الحياة والرواية تتماهى مع بعضها. وهذا هو السؤال الذي يجيب عليه بطريقة واسعة ومفتوحة، بل إنّه يشرّع لنا نوافذ للتفكير، خصوصاً أنه يجعل الشخصيات في الرواية والحياة تلتقي، لتناقش فكرتها عن الحب الذي يجعله ميسو هذه المرة أبوياً بين رومان وثيو وفلورا وكاري.