تحرث أماني أبو رحمة حقلاً نقدياً شائكاً، فتبدو كمن يغرّد خارج السرب، نظراً إلى طزاجة أطروحاتها النقدية بالمقارنة مع سكونية المشهد عربياً. تضع أسئلة ما بعد الحداثة، وبعد ما بعد الحداثة، فوق طاولة التشريح، في رحلة تنقيبية صارمة باستدعائها مفاهيم جمالية جديدة تتكئ على كتابات نقّاد أوروبيين كبار مثل فريديرك جيمسون ولاكان وفوكو ودريدا وآخرين، للإجابة عن موقع ما بعد الحداثة في الثقافة العربية، بقصد ترميم المسافة بين ثقافتين، رغم التباين المعرفي بينهما.
أماني أبو رحمة: بعد ما بعد الحداثيين يتخذون من الحداثة وما بعد الحداثة على حدّ سواء مصدراً لأفكارهم

يأتي هذا الاهتمام بالدرجة الأولى من ثقل مرجعيات هذه الباحثة الفلسطينية التي درست التربية وعلم النفس، لتنعطف نحو التكنولوجيا الحيوية، بالإضافة إلى تعمّقها في دراسات الحداثة وما بعد النسوية. أنجزت مؤلفات وترجمات نوعية في هذه الحقول، مثل «نهايات ما بعد الحداثة» و«ما وراء القص» و«من الحداثة إلى ما بعد النسوية» و«الإنسان في ما بعد الحداثة». في حوارنا معها، تشير صاحبة «أفق يتباعد» إلى أنّ أبرز أسباب نهاية ما بعد الحداثة وتجاوزها، حسب الأطروحات الراهنة، هو استهلاك تقنياتها وجمالياتها، التي كانت تُعدّ طليعية ومغايرة وصادمة، من قبل الثقافة الشعبية ونمط الحياة اليومي ووسائل الإعلام والإعلان، إذ تحوّلت - في نهاية المطاف- إلى موضة أدت إلى فقدانها أهميتها الثقافية التي تمتّعت بها عند انطلاقتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وتستشهد بما قاله ريمون فيدرمان بأنّ «ما بعد الحداثة» قد لاقت حتفها على يد المجتمع الاستهلاكي وما بعد الصناعي الذي بشّرت به وسعت إلى خلقه، بالإضافة إلى أن «ما بعد الحداثة» لم تعد تمثل أو تعبر عن سياسات الاختلاف التي حظيت بمكانة محورية بارزة في فكر تلك الحركة. فالمجتمع المعاصر كان قد تحول بالكامل إلى مجتمع ما بعد حديث بسبب النزعة الاستهلاكية. هكذا أطاحت الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والكوارث الطبيعية، وما نتج عنها من هجرات جماعية وتغيّرات ديموغرافية كبيرة، والتطورات الهائلة في مجالات العلوم وتكنولوجيا الاتصالات، بركائز ما بعد الحداثة. وإذا بها تتحوّل إلى جزء من المشكلة نفسها، وليست وسيلة للحلول وتجاوز الأزمات. ونتيجة لكل تلك التداعيات، تنامى الشعور باليأس والإحباط مما بعد الحداثة، وبدأ السعي الاجتماعي والثقافي لتجاوزها والمضي قدماً نحو بعد ما بعد الحداثة. من ضفةٍ أخرى، تعتني أماني أبو رحمة في عزلتها الاضطرارية تحت ضغط جائحة الكورونا، بأسئلة «نهاية عصر النهايات» في متوالية تتعلّق بنهاية الإله ونهاية الذات ونهاية الأصالة ونهاية المعنى، وإذا بالمشهد يرتكز إلى ثلاثة أضلاع: مؤلف ميت، نصّ مائع وقارئ مسيطر

في كتابك «أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة»، تبدو أطروحاتك قفزة في الفراغ النقدي العربي الذي بالكاد يلامس تخوم الحداثة، وإلى حدٍّ ما الاشتباك مع أسئلة ما بعد الحداثة لجهة الإطاحة بالسرديات الكبرى، فما بالك بمصطلح مثل «بعد ما بعد الحداثة»، لنفكك هذا المصطلح أولاً؟
ــــ ترتبط «ما بعد الحداثة» بشكل وثيق جداً بــ «ما بعد البنيوية»، وهذا يعني ارتباطها بكتابات المفكرين الفرنسيين اللامعين مثل لاكان، ودريدا وفوكو ودولوز وليوتار وأتباعهم الكثر. وتُعد نظريات ما بعد البنيوية معقّدة للغاية في واقع الأمر، بل إنها تتناقض مع بعضها في الحجج الفردية، ولكنها جميعاً تشترك في الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء. وبمعنى آخر لا توجد علاقة طبيعية موحّدة بين الأشياء والعلامات. تفترض «ما بعد الحداثة» وجود تجزئة دائمة وتفكيك وإعادة بناء. الأمر الذي سهّل ظهور الأصوات المهمّشة والهشّة والمحرومة والمُستبعدة. أصبحت نظرية الفوضى عنصراً رئيسياً بشكل متزايد في تحليل ما بعد الحداثة. كما كان نيتشه، بدلاً من هيغل، ملهم المفكرين ما بعد الحداثيين. يعيد ما بعد الحداثيين تعريف أنفسهم باستمرار ويبحثون عن معان جديدة. إنهم مكتشفو المشاكل كما أنهم واضعو الحلول في الوقت نفسه. لذا، فإنهم يميلون إلى اختزال الحياة في جملة مشاكل وحلول. كما أنهم يرغبون في الانخراط في عمليات تفكير غير مسبوقة، ويستهينون بالمعرفة التي تطوّرت بشكل منتظم عبر العصور.
ونتيجة لذلك، فإن الإرهاق من فوضى ما بعد الحداثة، جنباً إلى جنب مع الرؤية الثقيلة لواقع عصي على الفهم، يجعل الناس «لا يقرون في أجسادهم، مع عدم وجود قاعدة آمنة يمكن من خلالها التفاوض على تحدي وإنكار الطبيعة الحقيقية للعالم». فكان على المنظّرين الجدد القول: كفى! لا يمكن تحمل الهذيان لفترة طويلة. إن كياناتنا الحية أضعف من أن تتحمّل هذه الجرعات الكبيرة من الغطرسة والبارانويا.
عموماً، كانت ما بعد الحداثة فترة انتقالية في البحث البشري عن المعنى، أذهلت العقل برؤيتها العنيدة للواقع العصي على الإدراك والحقيقة، والتي يتم استبدال مفهومها بالكامل بدلالة غير محدودة وفوضوية عائمة حرّة. هذا يقود المرء إلى حافة الجنون الفصامي، مع عدم وجود وسيلة للدخول الإجباري إلى الوجود، والذي يجب أن نكون جزءاً لا يتجزأ منه حتى نُدعى بشراً.
لهذا السبب، بدلاً من المحاولات غير المثمرة لتمثيل- العالم- كما هو، يسعى المرء إلى تمثيل -العالم – كما- ليس- هو، وتأثيثه عن قصد بالمعنى وبناء مبادئه الجديدة والمعدّلة بشكل إدماني. وهكذا، فإن الاحتفال والقبول المدرك للعالم المخلوق - كما -ليس- هو - مع كون الحقيقة الوحيدة المتاحة هي الحقيقة المركّبة بشكل توليفي للسرد البشري، كلّ ذلك أصبح أجندة للمرحلة التالية من ما بعد الحداثة. ومن ثم، تتخلى البشرية عن الحرية اللامحدودة التي توفرها ما بعد الحداثة لمصلحة نوع من القمع المثمر، والقيود المفروضة طواعية، أو لنقل الأطر، بلغة راؤول ايشلمان، أحد منظّري بعد ما بعد الحداثة، بالإضافة إلى سرديات الحياة الذاتية لبعد ما بعد الحداثة.
في الواقع، ظهرت الحاجة إلى نظرية جديدة منذ عقود. وهكذا، فإن جميع النقاد الرئيسيين لما بعد الحداثة، على سبيل المثال، ليندا هتشيون ويورغن هابرماس ودوغلاس كيلنر وستيفن بيست وإرنستو لاكلو وشانتال موف، قد توصلوا في نهاية المطاف إلى إدراك واضح لنقصها وتقييدها ومؤقتيّتها. يتفق معظم النقاد والمفكرين والباحثين على أن نهاية الحرب الباردة ــــ بانهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين وانهيار الحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية مع نهاية الثمانينيات من القرن العشرين ـــ كانت أحد أهم أسباب نهاية ما بعد الحداثة. لم تستطع ما بعد الحداثة تجاوز ذاتها وانكفأت على نفسها من خلال النزعة الانعكاسية الذاتية والنرجسية المفرطة والنوستالجيا التي حولت التاريخ إلى سلسلة من الذكريات المشتّتة وغير المترابطة. هكذا تحولت ما بعد الحداثة إلى سلعة تجارية يتم تسويقها وتوزيعها لغرض الربح المادي، من خلال وسائل الإعلام والجامعات ومراكز البحوث التي أنتجت أعداداً كبيرة جداً من الكتب حول هذه الظاهرة. وفي النهاية، أصبحت هناك مؤسسة كبيرة جداً في المجتمع تدعى ما بعد الحداثة. بدأت المواقف التهكمية التي كانت إحدى استراتيجيات ما بعد الحداثة للنيل من الواقع، والحقيقة في الستينيات. وبحلول التسعينيات اعتمدت تلك المواقف بطريقة أو بأخرى وعلى نطاق واسع من قبل الأكاديميين والكتاب وصنّاع السينما والفنانين. ولكن مع نهاية التسعينيات أصبحت تلك المواقف مبتذلة ومتوقّعة. وتزايد الاعتقاد بأن ما بعد الحداثة في طريقها نحو الأفول وكان السؤال المطروح بقوة هو: ما الذي يمكن أن يحل محلها؟

تقصدين أن بعد ما بعد الحداثة أتت بوصفها تسوية لفوضى العالم، وممراً إجبارياً للخروج من نصّ الأفول ما بعد الحداثي؟
يتمثّل الجانب الأساسي لعصر بعد ما بعد الحداثة في الانتشار الكامل للرأسمالية العالمية. إنها تمثل حقبة لا يوجد فيها ما هو «خارج» الرأسمالية. هذه هي الفترة التي لم تعد فيها الرأسمالية تنظر إلى الخارج بل إلى داخل مجالها، وبالتالي يكون توسّعها تكثيفاً وليس تمدداً. بدوره، يصف جيفري نيلون هذا بأنه العامل الأكثر أهمية الذي يحول الحقائق الاقتصادية لما بعد الحداثة إلى منطق ثقافي شامل. يمكن أن تساعدنا المقارنة مع وصف فريدريك جيمسون لما بعد الحداثة على أنها «المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» في فهم التحول مما بعد الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة. لأنه في تعريفه الحاسم لما بعد الحداثة، فإن الانتشار المتساوي للتوسع الرأسمالي هو الذي ينتج ممارسة ثقافية تساوي بشكل مطلق بين الفضاء والسطح؛ فهذا كل «ما لديك عندما تكتمل عملية التحديث وتذهب الطبيعة إلى الأبد». مع ذلك، يدّعي جيمسون أن هذا يفتح إمكانية «استهلاك التسليع المطلق كعملية». اكتملت هذه العملية الثانية (سواء على مستوى القبول العام لمنطق ما بعد الحداثة هذا، أو من حيث اكتمال الانتشار المعولم للرأسمالية). هذا هو اشتقاق بعد ما بعد الحداثة من أفكار جيمسون. في حالة الرأسمالية المعولمة بالكامل، يكون تكثيف الأسطح الموجودة بالفعل هو المهم. يتطلب هذا المنطق زيادة رأس المال لما هو موجود: من خلال العلامات التجارية وإنتاج فائض القيمة، بمضاعفة المعاني بدلاً من الأسطح. والوصف الاقتصادي لهذا هو «تكثيف التمويل. يصبح كيف يمكنك أن تضغط للحصول على المزيد من الأرباح من الأشياء التي لديك بالفعل؟ هو الممارسة الأساسية لهذا الاقتصاد الجديد المحفوف بالمخاطر». تماماً كما أن للوقائع الاقتصادية للرأسمالية المتأخرة ارتباطاتها بالإنتاج الثقافي لما بعد الحداثة، كذلك يلعب منطق التكثيف نفسه في الإنتاج الثقافي لفترة الرأسمالية المعولمة. إن المنطق المركزي للتكثيف (الذي حل محل توسع ما بعد الحداثة) هو الذي يوجه أشكال بعد ما بعد الحداثة. وتبعاً لذلك، ربما تكون أفضل طريقة لفهم ما يحدث هو القول بأنه على الرغم من أن ما بعد الحداثة لا تزال موجودة، إلا أنها لم تعد الفكر الرائد. إن ذروة ما بعد الحداثة قد انتهت، وعلى الرغم من أن آثارها الثقافية لا تزال موجودة، إلا أنها لم تعد مصدر الرؤى الأقوى لفهم العالم الذي نعيش فيه.

لكن ما الفروقات الجوهرية بين ما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة؟
ـــ أفكار بعد ما بعد الحداثة ليست انتقائية؛ فها هنا كل شيء متاح. لا تحوّل صريحاً ضرورياً، إنما أفكار كبيرة متضاربة ومتنوعة ومتداخلة تعزز منطق الفردية الهائلة. يمكننا القول إنّ بعد ما بعد الحداثيين يتخذون من الحداثة وما بعد الحداثة على حد سواء مصدراً لأفكارهم واستلهاماتهم من دون قيد أو شرط، ويقفون على مسافة نقدية واحدة من كلتا الحركتين. تغذي الحركتان ببراعة خيالنا والطريقة التي نناقشها ونبتدعها ونتفاعل معها بها. أصبحت ما بعد الحداثة «مجرد» أحد الألوان التي قد نستخدمها. (تستخدمها ليدي غاغا، على سبيل المثال، لكن أديل لا تفعل. يوظفها تاكاشي موراكامي ولكن جون كورين لا يفعل) أو لتبديل الاستعارة، مجرد أداة أخرى ضمن أدوات. لماذا؟ لأننا جميعاً أصبحنا أكثر ارتياحاً لفكرة حمل فكرتين لا يمكن التوفيق بينهما في رؤوسنا: إنه لا يوجد نظام للمعنى يمكن أن يحتكر الحقيقة، ولكن لا يزال يتعيّن علينا تقديم الحقيقة من خلال نظام المعنى الذي اخترناه. لذا فإن تحدي ما بعد الحداثة، على الرغم من أنها أقل قوة بالنسبة إلينا، هو أن نتعلم كيف نتعايش معها.
غير أن هناك فرقاً جوهرياً ثميناً يمكننا تحديده استناداً إلى التحليل المعطى في السؤال الأول. دعني أطلق عليه التحوّل من الابستمولوجيا إلى الأنطولوجيا أو أقله الجمع بينهما في عقدة لا تنفصم، وبتعبير آخر تجاوز ما بعد البنيوية أو الانعطافة اللغوية، والتوجه نحو المادة في ما بات يعرف بالمادية الجديدة، أو «الانعطافة المادية» أو الواقعية الجديدة، لن نهتم بالمسميات كما اتفقنا. ويرتبط ذلك كله بالموقف من العلم والفاعلية الذاتية التي همّشتها ما بعد الحداثة وأوكلت للسلطة واللغة والإيديولوجيا تشكيل ذاتياتنا بوصفنا موارد خاملة تنتظر التشكيل.
يتفق معظم النقاد والمفكرين والباحثين على أن نهاية الحرب الباردة كانت أحد أهم أسباب نهاية ما بعد الحداثة


في دراستك «نهاية عصر النهايات» تطرحين استراتيجيات جديدة للسرد، ما هي مقوّمات هذا التحوّل في عملية التخييل؟
ــــ تؤكد غالبية المنشورات النقدية أنّ تحولاً ملحوظاً في الأدب المعاصر قد حدث. غالباً ما يقع هذا التحوّل في مكان ما في التسعينيات. تعددت الأسباب المقترحة لتفسير هذا التوقيت؛ ومع ذلك، غالباً ما تبدو مفتعلة وتعسفية إلى حد ما. ولكن المؤكد أنّه بحلول عام 1989، بدا أن زوال ما بعد الحداثة، بالنسبة إلى معظم الناس، حتمي. وبحلول منتصف التسعينيات، كانت عبارة بعد (أو أبعد من ) ما بعد الحداثة موجودة على أغلفة عدد من الأعمال النقدية. غالباً ما تتم مناقشة الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر، التي مثّلت «إعادة توجيه نحو القيم الإنسانية الليبرالية التي فكّكتها ما بعد الحداثة» والتي أصبحت «أكثر وضوحاً بعد الحادي عشر من سبتمبر لأننا أصبحنا فجأة أكثر حساسية تجاهها». ولذلك، يبدو من الآمن افتراض أن التغيير في الأدب أصبح واضحاً بالفعل في التسعينيات، لكنّ العدد الهائل من الأسباب التي تمَّ طرحها في المنشورات ذات الصلة يشير إلى أنه قد لا يكون هناك سبب واحد يمكن أن يُنسب إلى هذا التحوّل. ومع ذلك، يشير بعض النقّاد إلى أنّ التغييرات كانت مرئية قبل هذا التاريخ ويمكن على أي حال أن تفسّر كنقطة تحوّل في التخييل الأميركي، وليس التخييل حول العالم...
على مستوى الكتابة الروائية، لاحظ النقّاد «تشبّع قراء ما بعد الحداثة بتمثيلها المفرط للحياة المجزّأة»، يتحدّث بعضهم حتى عن تراجع مبادئ ما بعد الحداثة. يرى آخرون أن ما بعد الحداثة أصبحت «مؤسسية وبرمجية»، نخبوية، وبالتالي فهي جزء من نظام أراد ما بعد الحداثيين تفكيكه في المقام الأول، فيما تسعى ما بعد بعد الحداثة إلى رد الاعتبار إلى المثل الميتافيزيقية والأخلاقية والجمالية.

أين يمكننا موضعة ما يسميه الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك «قواعد الحظيرة البشرية» في سياق بعد ما بعد الحداثة؟
ــ يمثل الفيلسوف الألماني الشهير بيتر سلوترديك توجهات بعد ما بعد حداثية مهمة. يشارك سلوترديك في ما بات يعرف بـ «الانعطافة نحو السياسات الحياتية» ونقاشات ما بعد الإنسانية والتنظيرات المهمة عن انهيار الحدود الذي بشّرت به ما بعد الحداثة: انهيار الحدود بين الإنسان والآلة والإنسان والحيوان والآلة والحيوان، ضمن انهيارات حدودية أُخرى بالطبع. وتحت مظلة هذا النقاش الساخن الذي يدور في كلّ المجالات وفي الإعلام والحياة اليومية، يمكن وضع سلوترديك في خانة منظّري الإنسانية العبورية. والإنسانية العبورية توجه ينضوي تحت مظلة ما بعد الإنسانية بشكل عام والتي تشمل، فضلاً عن الإنسانية العبورية، ما بعد الإنسانية النقدية، وضد الإنسانية، وما وراء الإنسانية، واللا-إنسانية وتوجهات المادية الجديدة المعاصرة. تُعرف الإنسانية العبورية بوصفها امتداداً للإنسانية الحداثية التي لا تقتصر على الأساليب التقليدية (على سبيل المثال التعليم)، من أجل تحسين حالة «الجنس البشري». البشر العبوريون هم، ببساطة، بشر انتقاليون يسيرون على «طريق التعالي». أناس يرون أنهم يؤدون بأجسادهم دور التجسير في العملية التطورية. قد تشمل علامات الإنسانية العبورية تكبير الجسم باستخدام الغرسات والتكاثر اللاجنسي والهوية الموزّعة. هؤلاء البشر يستعدون بنشاط ليصبحوا ما بعد البشر. كما توضح وثيقة الأسئلة الشائعة حول ما بعد الإنسانية، يمكن النظر إلى ما بعد الإنسان على أنه منحدر بشري تم تعزيزه تقنياً إلى درجة أنه لم يعد إنسانياً. القدرات العقلية والجسدية لما بعد الإنسان، بما في ذلك الذكاء والذاكرة والقوة والصحة وطول العمر، ستتجاوز جميعها بشكل كبير قدرات البشر الحاليين. نظراً إلى أن ما بعد البشر يمكن أن يكونوا اصطناعيين تماماً، فإن البعض ينظر إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي على أنها أول كائنات ما بعد الإنسان. إن احتمالية العيش بدون جسد كنماذج معلوماتية على شبكات الكمبيوتر فائقة السرعة هي من بين أهداف الإنسانية العبورية. شهدت هذه الآراء تعبيرات مثيرة للجدل من قبل الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك، فهو يرى أن الإنسانية الكلاسيكية هي محاولة «لتحسين» البشر من خلال القوة التحويلية للتعلم الإنساني. بعدما رأى أن المشروع الإنساني الكلاسيكي قد انهار الآن، تساءل: «ما الذي يمكن أن يروّض البشر عندما تفشل الإنسانية في أداء هذا الدور؟». وجادل بأنّ تحسين الجنس البشري يجب ألا يقتصر على التقنيات اللينة للتعليم والهندسة الاجتماعية. بدلاً من ذلك، فإن إمكانات العلوم الصعبة مثل الهندسة الوراثية وأشكال أخرى من البيولوجيا قد ورثت مهمة متابعة الكمال البشري، ويشير إلى أن البشر يعيشون في عادات، وليس في مناطق، وتالياً فإن تسليع الخدمات، يؤدي إلى تشييء الكائنات الحية لمصلحة الشركات العالمية والنخب المهيمنة. كما يؤدي تسليع الحياة البشرية وغير البشرية في الهندسة الحيوية واعتماد البشر على التقنيات، مدفوعاً بالربح المتعدد الجنسيات، إلى استغلال واستعباد أفراد المجتمع الأقل قوة. لذلك، في القرن الحادي والعشرين، قرن ما بعد الداروينية وما بعد الإنسانية، يجب النظر إلى الإنسانية العبورية بحذر أكبر. يمكن الآن «خلق» الحياة وتسويقها لخدمة مصالح بشرية محددة، ويرى كثيرون هذه التطورات على أنها أشكال جديدة من استعمار الحياة.

يشير بيتر سلوترديك إلى أن عملية «ترويض الوحشية» لن تتم، وإنما انتصرت «صناعة الرغوة» بمعنى أن الفرد اكتفى بفقاعة محدّدة داخل «رغوة التواصل»، إلى أي حدّ تعمل هذه الفكرة في عصر التواصل الاجتماعي، ثم جائحة كورونا ؟
ـــ في المجلد الثالث من «الكرات»، الذي يركز بشكل أساسي على الظروف المعاصرة للعيش في الغرب، يقدم سلوترديك نسخته الخاصة من فكرة أن الاستقلال الذاتي الفردي لم يعد مثالياً فلسفياً، ولكنه واقع ملموس. «تظهر الفردية عندما يقوم الناس بوصف أنفسهم بأنفسهم، لذلك يبدأون في المطالبة بحقوق الطبع والنشر لتاريخهم وآرائهم». هكذا يؤكد في كتاب محاورة قصيرة معه تحمل عنوان «الفحص الذاتي». ويواصل حديثه قائلاً إن هذه «الفردانية الجديدة» قد استُكملت في الوقت نفسه بـ «التصميم الفرداني: نحن الآن ندّعي أيضاً الحق في صورة مظهرنا». تقود الفردانية المعاصرة إلى حقيقة أساسية هي أن كل ذات هي ذات مزدوجة أو ذات مع شريك من ذاتها. غالباً ما يستخدم سلوترديك استعارة «فردانية -الشقة»، التي يناقشها بشكل خاص مطولاً في هذا المجلد، من أجل استحضار واقع اجتماعي لا نتشارك فيه سوى الجدران التي تفصل «مجالات الأنا» المجهّزة جيداً بعضها عن بعض. هذا الوضع من العزلة المشتركة مريح للغاية بفضل شبكات الاتصالات التي تربط كل شقة بأخرى غير معروفة أو معروفة. وهكذا يتحوّل المنزل إلى كبسولة ممتعة يعمل فيها الفرد أو الزوجان، مع أو بدون أطفال، كسادة تواصليين. يتحول المسكن إلى «منطقة مناعة»، و«إجراء دفاعي يتم من خلاله ترسيم حدود منطقة السلامة ضد المتطفّلين وغيرهم من جالبي الكوارث». أما المتحوّل الوحيد فهو رأس المال.

تحتل «السياسات الحياتية» جانباً مهماً من اشتغالاتك. لماذا السياسات الحياتية، وهل ما زال ميشال فوكو ذا صلة في هذا المجال رغم التطورات الهائلة في مجال التكنولوجيا الحيوية والتنظيرات الواسعة التي حدثت بعد وفاته في مجال السلطة والسياسات الحياتية؟
ــ في ما يتعلق باهتمامي بالسياسات الحياتية، فلأن المجال هو أحد أبرز اشتغالات الألفية الثالثة أو بعد ما بعد الحداثة إن شئت. عصرنا هو عصر التكنولوجيا الحيوية، مجال عملي واختصاصي الأكاديمي، والسياسات الحياتية هي الجانب الفلسفي لهذا التخصص. وفي عصر تضافر التخصصات الذي نعيشه اليوم، لا مجال لفصل العلوم عن الإنسانيات في أي حال من الأحوال. قلت إن عصرنا هو عصر التكنولوجيا الحياتية والشواهد على ذلك كثيرة، خذ مثلاً: زيادة براءات اختراع التكنولوجيا الحيوية ومختبرات الأبحاث الجينومية، وزيادة شركات التكنولوجيا الفائقة التي تحوّلت عن برمجيات الاتصالات إلى المعلوماتية الحيوية. وتطوير المناهج الجامعية بحيث تركز على مساقات التكنولوجيا الحيوية. وزيادة الاهتمام السياسي بالتكنولوجيا الحيوية وصنع السياسات واللوائح المتعلقة بممارستها ومنتجاتها. وتزايد المناقشات العامة حول أخلاقيات التكنولوجيا الحيوية. وتطور علوم البيولوجيا الصناعية. ما إذا كانت التكنولوجيا الحيوية تصنيفاً صالحاً لـهذا العصر الذي تستند فيه التكنولوجيا والابتكار الاجتماعي والاقتصادي والنمو والتنمية إلى التكنولوجيا الحيوية، أو مجرد خطوة على جسر انتقالي نحو ما بعد الإنسانية، قد لا يكون معروفاً لسنوات عديدة قادمة. على الرغم من أن هناك شيئاً واحداً مؤكداً، هو أننا مشاركون في هذا العصر الحالي، ونسير نحو المجهول بخطى ثابتة.
كانت الشرارة الأولى في عام 1998 عندما ظهرت الترجمة الإنكليزية لكتاب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين حيث يحلل عبارة ميشال فوكو التي غدت بؤرة اهتمام الدراسات السياسية الحياتية المعاصرة «حق الموت والسلطة على الحياة» في أول إصدار من سلسلته الإنسان المستباح التي تحمل عنوان «الإنسان المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية». وبعد تعليقات أغامبين المثيرة للجدل على عمل فوكو، تبعها في عام 2000 تعديل استفزازي لنظرية فوكو قام به كل من أنطونيو نيغري ومايكل هارت في الجزء الأول من ثلاثية بعنوان «الإمبراطورية». بعدها، حدث الانفجار وهاجر مصطلح السياسات الحياتية من الفلسفة إلى شواطئ ليست أبعد كثيراً: الإنثروبولوجيا والجغرافيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية واللاهوت والدراسات القانونية والبيوطيقا والميديا الرقمية والتاريخ وليس أخيراً، العمارة.

ما هي انشغالاتك النقدية اليوم؟
منذ بداية جائحة كورونا والأوقات الطويلة من الفراغ والحجر المنزلي وأنا أعمل على فكرة شرح التغييرات التي حدثت في عصرنا أو قل في العقد الأخير بتوظيف الفن والأعمال الفنية. بمعنى توضيح انتقالنا من ما بعد الحداثية إلى بعد ما بعد الحداثية والتركيز على الأعمال الفنية التي اختلفت جذرياً في بعض المجالات كفن الإنترنت وما بعد الإنترنت وفن التكنولوجيا الحياتية الدارج اليوم في عصر البيولوجيا والجينوم الذي نعيشه. وفي مجالات فنية أخرى جرى تكثيف الثيمات ما بعد الحداثية وأخذها إلى أقصاها، مما يتفق مع شرحي لمفهوم بعد ما بعد الحداثية في إجابة السؤال الأول، مثل تحويل الفن إلى سلعة والفنان النجم والمعارض بدل المتاحف والاستيلاء والانتحال والوسائطية والريمكس أو إعادة الإنتاج. أتوقع أن يكون عملاً مهماً، وأنا أعمل بجدية على إنجازه. أما العمل الثاني، فقد بدأت به منذ فترة قبل الجائحة وتوقفت مراراً، وأعتزم العودة إليه، وهو عن التحوّل من «الانعطافة اللغوية» بعد الحداثية إلى «الانعطافة المادية» بعد ما بعد الحداثية، سأتناول تطبيقات سردية وفنية أيضاً. أما في القريب العاجل، فسأواصل سلسلة «نهاية عصر النهايات» التي بدأتها على صفحتي على الفايسبوك، وقد أوسّعها لتكون لاحقاً كتاباً جديداً.