لا يستطيع التحرك. يداه وقدماه كما لو مغلولتان. لا يستطيع النطق ولا يتحكم في رأسه الذي يتمايل كورقة وحيدة في غصن، ولذلك إذا أردت أن تحمله عليك أن تسند رأسه الصغير إلى صدرك وتثبته بيدك. إنه ابن أخي ذو العامين ونصف، الذي حملته هذا المساء بين ساعدي، وكلما كنت أقوم بالدوران حول نفسي، كان يبتسم. كل هذا الألم يا صلاح الدين وتبتسم ابتسامتك السماوية التي جعلت حزني يخجل ويذهب إلى مكان آخر ريثما يسنح الليل ليعود ويستفرد بشاعر صار كلما فتح كلمة وجد معناها لاذعاً مثل لوز مُر.
■ ■ ■

حسب التقديم لفيلم «حصان تورينو» الذي أخرجه فيلسوف السينما الهنغاري بيلا تار، فإن نيتشه بعد أن عانق الحصان الذي جلده صاحبه، بكى. وبعدما انتهت اللقطة التاريخية، عاد الفيلسوف إلى بيته بمساعدة جاره وهناك جلس هادئاً ومخبولاً ليومين ثم ختم قائلاً لأمه: «أمي، أنا أحمق». بعد سنة تقريباً، مات نيتشه ووري التراب تاركاً خلفه إلهه الميت حياً في العالم.
يقول بيلا تار بخصوص توقفه عن الإخراج: «ماذا بوسعي أن أخرج بعد فيلم «حصان تورينو؟». وله الحق في قول ذلك. الفيلم يحكي عن الحصان ومالكه وابنته في قرية تجاور تورينو. ستمر حوالي ست وعشرون دقيقة قبل أن تنطق البنت أول جملة في الفيلم: «إنه جاهز»، في إشارة للأب ذي اليد اليمنى المشلولة كي ينهض ويأكل البطاطس المسلوقة بيده اليسرى. لا وجود لقصة تبدأ لتتوتر شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي الفيلم بحلّ. لا. بيلا تار ليس من هذا النوع، هو الذي أراد أن يكون فيلسوفاً ليغيّر العالم، فوجد نفسه مخرج أفلام كما يقول، ويضيف: «إن ما يقودني وما يهمني في السينما هو كرامة الإنسان. وأول شيء أفكر فيه قبل الإخراج هو ألا أكذب». ولذلك فأمام أفلامه، يشعر الواحد بأنه يشاهد الحياة من نافذة وليس عبر شاشة. ثمة الكثير لقوله بخصوص بيلا تار وأسلوبه لكني أشعر بالتعب، فأنا صرت أكتب وأفكر تقريباً بالطريقة التي يأكل بها مالك الحصان الفلسفي البطاطس المسلوقة، وبعدما أكمل أطرح السؤال التالي: ماذا بوسعي أن أفعل؟
■ ■ ■

ما دمت تعرف أن لا أحد في هذا العالم بوسعه إنقاذ روحك سوى كلماتك، فلتكتب إذن كما لو أنك تتحسس الظلام في غرفة انقطعت عنها الكهرباء فجأة. بالتأكيد هي غرفة استثنائية وميتافيزيقية، وبالمنطق ستكتب أن العمارة التي تقطن بها كلّها تعاني من المشكلة ذاتها، غير أن الليل على أشده، وكل جيرانك نائمون كحلازين على جذوع الأشجار. منطقياً أيضاً، لن تطلب مساعدة أحد، ولن يكون بمستطاعك النزول من قمة جبل الأحزان الذي أنت فيه لتصل إلى حارس العمارة الذي لن يساعدك لأنه ثمل قرب ماضيه. لا تبرح الغرفة واكتب متحسّساً الظلام. لا بد أن ثمة شعلة ما وئيدة في مكان ما. تذكر فقط، دون أن توقظ كل الماضي، واحذر أن ترتطم بقلبك. احذر أيضاً أن تصدم قدمك بجرح جديد ما زال لم يندمل بعد. تذكر أين وضعت الولاعة الأخيرة التي اشتريتها والتي، لسوء الحظ، هي الأخرى سوداء. قد تكون قرب الوسادة. لا. مرّر يدك فوق ندمك. وجدتها. طيب الآن، السجائر في جيبك. أضرم الكلمة..
■ ■ ■

إنه هو. همنغواي. الشيخ، هذه المرة، ليس والبحر، بل والرصيف. ماذا يفعل همنغواي هنا في آخر العالم؟ ثمة من سيجيب، إنها الحياة حين تجنّ وتبدأ في تمزيق الجرائد ورمي القناني من نافذة بيتها القديم. ثمة من سيقول إنها فعلة طفل. وجد صورة همنغواي في مجلة، قصّها ووضعها في دفتره، وطبعاً كانت النتيجة حين انتهى الموسم الدراسي، هي التخلص من تركة المدرسة وهكذا ظل همنغواي يزحف على بطنه إلى أن وصل إلى رصيف الأمان وصول سمكة الشيخ في روايته. ثمة احتمالات أخرى ومن بينها أن قراري بالخروج من البيت بعد ثلاثة أيام من العزلة، واختياري طريقاً آخر غير الطريق، وانتعالي حذاءً أسود دون تلميعه، كان مخططاً له من قبل غير قبلي، كي أنهي شيئاً أو أبدأ شيئاً آخر. والحقيقة أني حين عدت إلى أفكار تلك الثلاثة أيام، وجدت أن من بين المرشحين الذين فكرت في التصويت لهم كان الموت، بسبب برنامجه الانتخابي الصادق وكان أيضاً النسيان، ولو أنه كان مرشحاً مغموراً، وبرنامجه بالكاد تبينته، وكانت أيضاً الشمس، المرشحة الجميلة التي أفرحتني بشعارها: «الشمس تشرق أيضاً».
■ ■ ■

حسب علم الأرصاد الجوية، فإن الخريف قد بدأ مشواره الأربعاء الفائت، وبالتالي فهو يبلغ إلى حد الآن خمسة أيام. في مساء هذا اليوم، الأحد، أرسل الخريف إشارة بالغة الوضوح. كانت إشارته عبارة عن زوبعة جعلت الغبار يتسيد المدينة لدقائق ليست قليلة. هذه الإشارة كانت أيضاً إشعاراً للأشجار كي تهيئ نفسياً أوراقها للسقوط، ولذلك كانت تتمايل وتبدو بميلانها كأنها تطلب مهلة. كنت محظوظاً بسقوط قطرة مطر من تلك القطرات النادرة التي سقطت. أخمن أنها لم تتجاوز العشر. ربما تلك القطرة هي أيضاً إشارة كي أتذكر شيئاً أو كي أستفيق من صيفي القديم ذي الأربعين عاماً. في هذا المساء، لم يسقط الخريف أوراق الأشجار، بل أسقط أكياس بلاستيك وأوراق انتخابات ذابلة على الطريق المؤدية إلى الغد.
■ ■ ■

من فضلك أيّها الواقع، دعني أمر، فقطاري في انتظاري لأركب وأسافر إلى كلمة قديمة وعدتها بالزيارة. لذلك مرة أخرى، لا تكن وقحاً كما في المرة السابقة التي تسبّبت خلالها في تأخيري عن الذهاب إلى كلمة كانت في أشد الحاجة إلي. لا تظن أيها الواقع أني ضعيف بكوني مؤدباً، فقط أنا أتجنب الشجار معك، لأن ذلك يعني فقدان الكثير من الكلمات التي أحتاجها لبناء جسوري اليومية. أما إذا أردت معرفة قصة الشجار، فيكفي أن تلقي نظرة على صدري ومعصم يدي حيث كل ندبة هي قبر كلمة ماتت بشرف دفاعاً عن باقي كلماتي. لم يعد يهمني أيها الواقع أن تفهم ما ترمي إليه شقائق النعمان في نظرتي. ابرح مكانك أو لا تبرحه، لا يهم. أفسح الطريق.
■ ■ ■

الخاتم فقط. الخاتم الذي تم إهداؤه إليّ من طرف روح جميلة. الخاتم فقط، حين رأيته في فيلم من إخراج جيم جارموش أحد المخرجين القلائل الذين أفضل مشاهدة أفلامهم بشغف وبحب كبير. لا داعي لأن نتحدث عن جيم الشاعر والمغرّد خارج سرب هوليود وشركات الإنتاج المعروفة. لا داعي لأن نسهب في الحديث عن تصوراته وتفضيله دائماً للاستعانة بممثلين، دأبنا على مشاهدتهم ثانويين أو ذوي أسماء غير رنانة. ثم لا داعي لأن نعرف أن جيم لا يحب أن يصعد قمة الجبل ليعلن عن أحاسيسه، ويحب أن يخرج فيلماً لأجل شخص واحد سيراً على منوال مدرسة نيويورك للشعر: «الكتابة لأجل شخص واحد». سأترك الحديث عن جيم جارموش، وسأعود إلى الخاتم الذي رأيته في أصبع ممثل مغربي مثل دورا في أحد أفلامه only lovers left alive. دهشت للتشابه، وتحدثت بصوت مرتفع مع نفسي، وعلى هذه الطريقة حدثت فصول كثيرة من حياتي ولا أعتقد أن الأمر سيتوقف، وهذا شيء يفرحني ويجعل الشعر يساورني دائماً. طيب ماذا عن الخاتم؟ الخاتم الهدية الذي رأيته يمثل دوراً ثانوياً في إصبع، جعلني أذهب إلى جارموش الإنسان، وليس المخرج، وبالصدفة، أجد أنّ لديه صديقاً، اسمه أكي كوريسماكي. ظل الأمر عادياً إلى أن أخطأ إصبعي في الضغط على رابط ما جعلني أمام أفيش فيلم عنوانه «رجل بلا ماض». كان العنوان كافياً لي كي أسقط في غرام الفيلم. أوووووه. إنه فيلم شاهدته منذ 16 عاماً. لطالما بحثت عنه، وكنت خاطئاً بظني أنه فيلم تشيكي. لا أعرف لم ظننته كذلك؟ شاهدت الفيلم في قناة «دوزيم» سنة 2005، مستفيداً من ذوق الفنان الكبير نور الدين الصايل رحمه الله، الذي كانت لمسته واضحة جداً بجعله «دوزيم» تتدفق بأجمل الأفلام العالمية. نور الدين الذي سئلتُ بمناسبة وبلا مناسبة عن قرابتي به بحكم أنّ لدينا الكنية ذاتها. كنت أجيب أننا من عائلة واحدة. عائلة الفن السابع.
- هل أنت ممثل؟
— بكل تأكيد.
- لم نرك في فيلم من قبل
— ها أنت الآن تراني في هذا الفيلم الذي نحن فيه. ثمة من يضحك، وثمة من يبدي إعجابه وثمة، وهم كُثْرٌ، من لا يبدي أي شيء سوى نفسه. لم يكن لدي خاتم في تلك السنوات، التي كنت أمثل فيها أدواري التي لاقت فشلاً ذريعاً، ليس بسبب فقداني للموهبة، بل لأسباب كثيرة، على رأسها: غياب الإنتاج، غياب الطبيعة، وضعف لغة الحوار والسيناريو، بالإضافة إلى استوديو المجتمع الذي كان لا يصلح للحياة فبالأحرى أن يصلح للعب أدوار.
جارموش أدى بي إلى الخاتم والخاتم أخذ بيدي إلى أكي كوريسماكي، وكوريسماكي بفيلمه «رجل بلا ماض» ذهب بي إلى نور الدين الصايل ونور الدين الصايل سافر بي إلى الماضي والماضي وضعني على كرسي في قاعة سينما، أطفأ المصابيح وشرع في عرض الحياة التي...
* آسفي/المغرب