تجلسان على الشّرفة مساءً. ترتجف يدُ سلمى وهي تصبّ القهوة، تتوقّف لتأخذَ نفساً عميقاً قبل أن تعطي الفنجانَ لوالدتِها بحذر. يطولُ الصّمتُ إلى حدّ أنّ من قد يراقبهما سيُخيّل إليه أنّهما جلستا كي تصغيا إلى صوتِ الهواء.ينبعثُ صوتُ والدتِها دخيلاً على السّكون:
— ما بدنا نسمع عبد الوهاب؟
— بلى.
تنهضُ سلمى وتُحضر المسجّلة الصّغيرة. تتحرّك أغنيةُ «الجندول» في الفضاءِ حركةً دورانيّةً عمرها عشرات السّنوات. تصغيان إلى عبد الوهاب وهو يغنّي: «أنا من ضيّع في الأوهام عمرَه». تنظرُ إلى والدتِها فتجدها مغمضةَ العينين وجائلةً في عالمٍ تعرف سلمى عنه الكثير.
تعرف أنّ أمّها ضيّعت شبابَها في الأوهام مع رجلٍ لم يحبَّها يوماً، وتركها أمّاً ورحل من دون أن يهتمَّ لأمرِها. ربّت الوَحدة والخيبة، وبعدَها ربّتها هي حتى كبرَت، فقاسمتها حزنَها وجلساتِها المسائيّة.
جورج براك: زوجُ طيرٍ (طباعة حجرية، 1960)

عندما تفكّر سلمى في حالتِهما كلَّ هذه السّنوات، ترتسم في مخيّلتِها صورةُ طائرَين رأتهما يوماً يتحادثان على سلك الكهرباء، ثمّ حلّقا معاً بعيداً وعادا إلى السلك معاً من جديد. كانا طائرَين رماديَّين حزينَين بعيونٍ مدوّرة ونظراتٍ ساذجة تعتاش على الأمل.
يأتيها سؤالُ أمِّها ليكسرَ الصّمتَ من جديد:
— بتحبّيه يا سلمى؟
— قلتلّك ما بعرف.
■ ■ ■

إنّها المرّة الثّانية التي يزوران فيها الطّبيب خلال أسبوعٍ واحد. تضع سلمى أكياس الأدوية على الطّاولة. تخرج إلى الشّرفة وتجلس بجانب والدتِها. تلتفتُ السيّدة الستينيّة إليها ويرتجف صوتُها: — ورجيني لشوف. كنتِ عم تبكي؟
— لازم ترتاحي يا ماما، ولازم تاخدي الأدوية بانتظام.
— إذا بشوفك عم تبكي ما رح آخد شي. تتحسّس يدَي والدتِها المعروقتَين براحتَيها. تشعر بالدم الجائل في أوردتِها يرسم أنهاراً وزوارقَ تحمل طفولتَها وتحميها من الضّياع. نبضها يغنّي بصوتٍ واهنٍ يشبه الصوتَ الذي كانت تروي به حكايات ما قبل النّوم ولكنّه أضعف لحناً. تنظر في وجهِها فتعثر في تقاسيمِه على مدينةٍ حزينة تشبه تلك التي تطلّ عليهما من الشّرفة. تتذكّر السّنين الفائتة بحنينٍ. مرّ زمنٌ طويلٌ على آخر مرّة شعرَت فيها بالأصواتِ والحركة. أصبحت المدينةُ باهتةً وعمّ الشّحوب الأمكنةَ. تنظرُ في عينَي والدتِها فتجدهما غائرتَين وساهمتَين. تتمنّى لو تستطيع أن تبكي وتستجديَها: «إن تغيّرَت ملامحُ الدّنيا فلا تغيّري ملامحَكِ».
تعود إلى التّفكير في الطّائرَين الرماديَّين. لا تريدُ أن يطيرَ أحدهما بل أن يبقيا هكذا دائماً يحطّان مساءً على الشّرفة يتحادثان ويستمعان إلى «الجندول». تكزّ على أسنانِها كي تحبسَ الدّمعَ في عينَيها ولكنّه يخونُها ويشرح ما لم تتمكّن من شرحِه.
■ ■ ■

— بتحبّيه يا سلمى؟
— رايحة جبلك الدوا.
تدخل إلى المطبخ، تُشعل النّور وتجلس وحيدةً. تفكّر في جواد الذي تعلم أنّها تحبّه جداً. تعرّفت عليه عندما استلمت الوظيفةَ الجديدة وأصبح شريكَها في العمل. كانا يقضيان أغلبَ وقتهما معاً واعتادت أن تتحدّث عنه أمامَ أمِّها. اعترف لها بحبّه صراحةً في الوقت الذي بدأت فيه أزمةُ والدتِها الصّحيّة بالظهور.
تجلسان كلَّ مساءٍ على الشّرفة ويتكرّر السّؤال من دون إجابةٍ واضحة منها. تعلم سلمى أنّ والدتَها خائفةٌ يدفعها خوفُها إلى الأسئلة الكثيرة. تريد أن تتأكّد أنّه لا يشبه زوجَها في شيء وأنّ هذا المشهدَ الثنائيّ المنقوص الذي اعتادتا عليه طوال هذه السّنين لن يتكرّر في حياةِ ابنتِها، ولكنّها لم تدرك أنّ سلمى كانت أكثرَ منها خوفاً، وأنّ خوفها دفعها إلى الامتناع عن الإجابة.
تخافُ سلمى على الطائرَين الرماديَّين، وتشعر بأنّ أحدَهما بات مكسورَ الجناح ويتّكئ بقوّة على الآخر وبأنّ السلك لن يحتمل أكثرَ من اثنين بعد اليوم.
تعودُ إلى الشّرفة فتلاحظ أنّ أمّها أصبحت أكثر انكماشاً في كرسيّها، وأنّ ظهرَها بات أكثر تقوّساً. تُناولها الدّواءَ فيصِلها الصّوتُ المرتجف:
— بعرف إنّك بتحبّيه.
— صار وقت نسمع عبد الوهاب.
تحضرُ المسجّلة وتستأنف الأغنيةُ الدّورانَ.
* اللاذقيّة/ سوريا