على رغم المكانة المركزية التي تحتلها أعمال الروائي الفرنسي رومان غاري على الخريطة الأدبية العالمية والفرنسية، فإن هذه الأعمال لم تحظَ باهتمام دور النشر والمترجمين العرب. غاري (1914-1980) هو الكاتب الوحيد الذي فاز بجائزة غونكور للرواية مرتين، أولاهما عن روايته «جذور في السماء» عام 1956، والثانية عام 1975 عن رائعته «الحياة أمامك» أو «بؤساء بلفيل» التي كتبها تحت اسم مستعار هو «اميل أجار»، لخوضه حينها معارك أدبية ضارية مع بعض الأوساط النقدية الفرنسية التي كانت تشكك في جودة نتاجه الروائي. بعد أربعة أيام من الإعلان عن الجائزة، يطلب غاري من قريبه بول بافلوفيتش أن يلعب دور أجار أمام وسائل الإعلام، بينما توضح المحامية جزيل حليمي أن الأخير يرفض الجائزة لأسباب خاصة تتعلق بالطمأنينة والهروب من الأضواء والشهرة، فتنتقد الصحف الكبرى هذا الموقف وتتمسك لجنة غونكور بخيارها، إذ أن «الجائزة قد أعطيت لكتاب قبل مؤلفه»، ولن يُكتشف سرّ مؤلفها الحقيقي، رومان غاري، إلا بعد موته عام 1980. بشرى سارة زفّتها «منشورات الجمل» حول صدور «بؤساء بلفيل» قريباً بترجمة اللبناني صالح الأشمر ضمن مشروع ترجمة أعمال غاري، وينفرد ملحق «كلمات» بنشر فصل منها قبيل صدورها.

في المنزل أخذت تحشو نفسها بالمهدّئات وقضت السهرة محدّقة إلى الأمام مباشرة بابتسامة سعيدة لأنها لا تشعر بشيء. لم تعطني أبداً من هذه المنبّهات. كانت امرأة أفضل من أي شخص آخر ويمكنني أن أوضح هذا المثال هنا بالذات. إذا أخذتم مثلاً السيدة صوفي التي كانت تدير هي أيضاً بيتاً سريّاً لأبناء العاهرات في شارع سوركوف، أو تلك التي تدعى الكونتيسة، لأنها أرملة كونت، في باريس، فقد كانتا تأخذان حتى عشرة أطفال أحياناً في أثناء النهار وأول ما تفعلانه هو حشوهم بالمهدّئات.
السيدة روزا عرفت ذلك من مصدر موثوق به عن طريق برتغالية إفريقية كانت تكدّ في الترياندري وسحبت طفلها من عند الكونتيسة وهو لا يقوى على الوقوف بفعل المهدّئات. وكثيراً ما كان يقع، وعندما توقفه يسقط من جديد وكان يمكن اللعب معه على هذا النحو لساعات. لكن مع السيدة روزا كان الأمر مختلفاً كل الاختلاف. حين نكون مهتاجين أو لدينا في النهار أطفال مضطربون بشكل خطير، لأن مثل هذا موجود، كانت هي التي تحشو نفسها بالمهدّئات. عندئذ يمكننا الصراخ أو التضارب وما كان هذا ليصل إلى كاحلها. كنت أنا مَن يقع عليه فرض النظام وكان ذلك يعجبني كثيراً لأنه يجعلني متفوّقاً. وفي هذه الأثناء تكون السيدة روزا جالسة في كنبتها وعلى بطنها ضفدعة من الصوف داخلها قنينة ماء ساخن ورأسها مائل قليلاً وتنظر إلينا بابتسامة جميلة، بل إنها في بعض الأحيان تلوّح لنا بيدها وكأننا قطار عابر، في تلك اللحظات لم يكن هناك شيء يمكن أن نتعلّمه وكنت أنا من يتولّى القيادة للحيلولة دون حرق الستائر وهي أول شيء نحرقه ونحن صغار.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحرّك السيدة روزا وهي تحت تأثير المهدّئات هو قرع الجرس. كان لديها خوف فظيع من الألمان. تلك قصة قديمة مذكورة في كل الجرائد ولا أريد الدخول في التفاصيل لكن السيدة روزا ما زالت تعيشها. في بعض الأحيان كانت تعتقد أن الأمر ما زال سارياً، خصوصاً في منتصف الليل. كانت شخصاً يعيش على ذكرياته. تتساءلون ما إذا كان الأمر سخيفاً تماماً في أيامنا هذه، حين مات كل شيء ودُفن، لكن اليهود متعلقون جداً خصوصاً عندما أُبيدوا، وهؤلاء هم الذين يعودون أكثر من غيرهم. لطالما حدّثتني عن النازيين والأس. أس1. وأشعر ببعض الأسف لأنني ولِدت بعد فوات الأوان لمعرفة النازيين، مع الأسلحة والأمتعة، لأننا على الأقلّ كنا عرفنا السبب والآن لا نعرف.
آخر كوميديا كانت ذلك الخوف الذي ينتاب السيدة روزا من رنين جرس الباب. وأفضل وقت لذلك هو في الصباح الباكر والنهار ما زال يتسلّل على رؤوس أصابعه. الألمان ينهضون باكراً ويفضّلون الصباح الباكر على أي وقت آخر من النهار. كان من بيننا واحد ينهض ويخرج إلى الممرّ ويضغط على الجرس، ضغطة طويلة ليحدث ذلك على الفور. وكم كنا نتلوّى من الضحك! يجب رؤية ذلك. آنذاك كان وزن السيدة روزا خمسة وتسعين كيلوغراماً ونيّفاً، أي نعم، فكانت تتدفق من سريرها كالمجنونة وتهبط نصف طابق قبل أن تتوقّف. أما نحن فنكون راقدين ونتظاهر بأننا نيام، وعندما ترى أن ذلك لم يكن من النازيين كانت تغضب غضباً رهيباً وتنعتنا بأبناء العاهرة، وهو ما لا تفعله أبداً بدون سبب. كانت تبقى مذهولة بعض الوقت مع بكرات الشعر على آخر ما تبقّى على رأسها، وتعتقد للوهلة الأولى أنها كانت تحلم ولم يُقرع الجرس على الإطلاق ولم يأت الرنين من الخارج. لكن كان من بيننا على الدوام تقريباً من ينفجر ضاحكاً وحين تدرك أنها كانت ضحية تطلق العِنان لغضبها وتشرع في البكاء.
أنا أعتقد أن اليهود أناس مثل الآخرين ولكن لا يجب أن نلومهم.
في معظم الأحيان لم يكن علينا حتى النهوض للضغط على الجرس لأن السيدة روزا كانت تفعل ذلك بنفسها. كانت تستيقظ فجأة ودفعة واحدة، تنتصب على مؤخّرتها التي كانت أكبر مما يمكنني أن أخبركم، وتصغي، ثم تقفز من السرير، وتضع وشاحها البنفسجي الذي تحبّه وتهرع إلى الخارج. لم تكن حتى تنظر إن كان هناك أحد لأن صوت الجرس كان يصدر من داخلها وهذا هو الأسوأ. أحياناً كانت تهبط بضع درجات أو طابقاً فقط وأحياناً تنزل إلى القبو كما في المرّة الأولى حين حصل لي الشرف.
في البداية اعتقدتُ أنها كانت تخبّئ كنزاً في القبو وأيقظها الخوف من اللصوص. ولطالما حلمتُ أنا بالعثور على كنز مخبّأ في مكان ما حيث يكون بمنأى عن الجميع ويمكنني العثور عليه متى احتجت إليه. في اعتقادي إن أفضل كنز من نوعه هو الذي يكون لك وبكل أمان.
كنت قد رصدت المكان الذي خبّأت فيه السيدة روزا مفتاح القبو فأخذته وذهبت لرؤية ما فيه، لم أرَ شيئاً سوى أثاث ومَبولة وعلب سردين وشموع، وأشياء كثيرة كما لو أن المكان مخصص لإقامة شخص ما. أضأت شمعة وأنعمت النظر لكن لم أرَ إلّا جدراناً بحجارة مسنّنة. وفي تلك اللحظة سمعت ضجة فقفزت في الهواء ولم يكن هناك سوى السيدة روزا. كانت واقفة على باب المدخل ورأتني. لم تكن غاضبة بل على العكس بدت وكأنها تشعر بالذنب كما لو كان عليها هي أن تعتذر.
• لا ينبغي أن تخبر أحداً، مومو، أعطني هذا.
مدّت يدها وأخذت مني المفتاح.
• سيدة روزا ما هذا المكان هنا؟ لماذا تأتين إليه، وأحياناً في منتصف الليل؟ ما هذا؟
عدّلت نظارتها قليلاً وابتسمت.
• إنه مسكني الثانوي، مومو، هيّا، تعال.
نفخت على الشمعة فأطفأتها وأخذت بيدي ثم صعدنا ثانية. بعد ذلك جلست على كنبتها واضعة يدها على قلبها لأنها لم تكن قادرة على صعود الطوابق الستة دون أن تموت.
• أَقسم لي أنك لن تتحدّث عن ذلك أبداً، مومو.
• أُقسم لك، سيدة روزا.
• خَيَريم؟
هذا يعني تمّ القسم عندهم.
• خَيَريم.
عندئذ تمتمت وهي تنظر فوقي، كما لو كانت تنظر من وراء ومن أمام:
• ذاك جُحري اليهودي، مومو.
• آه جيّد، تمام.
• هل تفهم؟
• كلا، لكن لا يهمّ، أنا معتاد.
• ذاك هو المكان الذي أختبئ فيه عندما أشعر بالخوف، مومو.
• الخوف مِمَّ، سيدة روزا.
• ليس من الضروري أن يكون لدينا أسباب للخوف، مومو.
لم أنسَ ذلك أبداً لأنه أصدق شيء سمعته على الإطلاق.