يقول لي صديقي حسن عائد أنّه يبحث عن نظارة كيارستمي في بغداد. ضحكت من كلّ قلبي، يا ترى كيف فكّر بذلك، ليتبيّن لي، كيف فكّرت بسذاجة، عندما أرسل لي مقالاً كتبه هو بعنوان «شيء ما تحت نظارة كيارستمي». لقد تحدّث عن رؤيته للأشياء، والتفاصيل بصورةٍ مختلفة، عندها فكّرت، أنّه يريد رؤية الأشياء هنا في بغداد بصورة مختلفة، هذه الرمزية، وما لها من تأويل محفّزة بشكلٍ ما، فلو كان هنا كيارستمي آخر، عراقي، ليكن حسن نفسه، وهذا مجرّد مثال ، لأني أعرف حبه وعشقه لهذا المخرج العالمي، تُرى كيف سنرى بغداد؟كيف سيختار فريمات عمله؟ وكيف سيرى الجمهور السينمائي ذلك؟ هل بقي أي شيء لبغداد تقول لنا من خلاله، أنها بغداد.
فوتوغراف لناظم رمزي (العراق، 1959)

ما الذي لم نقله في وصف حالتنا؟
أعرف أننا شعب ذو حضارة عريقة، حضارة ليست كأي حضارة أخرى، لها تأثيرها الكبير على التاريخ الإنساني، لكن ما نفع هذه المعطيات وتأثيرها علينا في الوقت الحاضر؟
ليكن، فالشرّ يعم، والخير خصاصة، وهذا الاقتصاد قاعدة.
من خلال هذا كله، كنت سأقول: إن كيارستمي سيختار الهامش، ليبرز صورته، ويجد ثيمة عمله، هنا ألف شخص يستطيع أن يكون بطل القصة. يقول كيارستمي عن السيارات: «إنها مكاني المفضل، مقعدان مريحان، وحوار في غاية الحميميّة بين شخصين».
وفقاً لذلك، سأتخيّل أن المحظوظ الأول في لقائه، بل اللّقطة الأولى له ستكون في التاكسي. أعرف أني الآن صرت أتحدّث عن كيارستمي الحقيقي، لا بد لي من ضم روحه إلى المشهد، ما زال لبغداد ذلك العبق الروحي إلى جانب العبث، إلى جانب كل شيء يجاور الموت من أجل الأمل والجمال، المهم، سيسير وراء طفلة تبيع الورد في إحدى التقاطعات بكاميراته، على الأكثر ستكون نوع «فوجي» يؤكّد لي ذلك صديقاي علي وحسن، سيرافقها إلى البيت، لا تهمّه الحياة التي أمامه، الهامش له مقاصد كبيرة في سينماه.
هل لهذا الفيلم خصوصيته؟
بكاميرا كيارستمي كل شيء له خصوصيته، لكن سنعرف من خلال عينه ما لم نعرفه، أو أننا سنرى من جانب آخر لم نكن نحسب له أي حساب، لأننا اعتدنا رؤية الخراب والموت فقط، ويحق لنا أن لا نلوم أنفسنا، فمن يرى الموتى، لا ينظر إلى الوردة بشكلٍ عادي أبداً، إلّا على أنها نوع من القداس الإلهي لأرواح هؤلاء الذي تركوا الأثر والإثر. لكن مع هذا كله، هنا أو هناك أو في أي مكان تقصده في أرض العراق، ثمة ملازمة للشعر، أعترف أنه ما كل شيء تعتريه الشاعرية كما يراد بالقصد، وهذا مطلب رهيب للرؤية.
يقول جبرا إبراهيم جبرا في روايته «صيادون في شارع ضيق»، وهي رواية سيرية، تدور أحداثها في بغداد: «عندما تصل إلى مدينة كبيرة، فإنك تكون مثاراً، ولن تفكر طويلاً بالفندق الذي ستنزل فيه لأن الشوارع تستصرخك لكي تمشي فيها، كما أنك تشعر بأن في المدينة جواً من التوقع كما لو أنها كانت، خلال هذه الأعوام كلها، تزين نفسها لتلقاك، تريد أن تهرع لتراها كلها في ساعة من ساعة من الزمن».
ستظل هذه المدينة، مهما اندثر حظها، ومهما لمنا كل شيء، ستظل ذات صيت بهي، بما لها وما عليها، وحلماً يراود كل من يسمع عنها. ذكرتني رواية جبرا بناظم رمزي، وقلت: تراها أي مقابلة ستكون بين فوتوغراف رمزي وكيارستمي، والأمر ليس متشابهاً، بالتأكيد له اختلافه، زمنٌ مختلف، أناس مختلفون، واقع آخر، لكن المقاربة هي ما سيسحر هنا، لقد صاد ناظم رمزي أشياء ساحرة، خلقت فكرة جميلة عن ذاك الزمن، اقتصاد في الظل والضوء، ترميم لما هو داخل الصورة، ومشهد يحسب له، إذاً هناك سحر رهيب لم يكتشف بعد في بغداد، سحر الفن وسحر شاعرية الأماكن.
لقد فكرت كثيراً بزيارة المشاهير إلى بغداد، وذكرت أكثر من شخصية أدبية، وأنا أراها تعيش هنا بيننا، تثرى كيف ستكون الأمور؟ كيف سيكتبون رواياتهم؟ ويخرجون أفلامهم؟ ماذا لو مرّ بورخيس على مكتبات بغداد، أو في شارع المتنبي بحثاً عن «ألف ليلة وليلة» كما ذكرت ذلك في كتابي «غرفة القارئ» أو في قصتي القصيرة جداً «بورخيس في المتنبي» كيف سيرى العالم بغداد وقتها؟
وخير دليل وشاهد أمامنا، زيارة البابا التي غيرت من نظرة العالم (ولو قليلاً) وجعلته يفكّر بسحر هذا المكان، الغائب سحره عن أهله، لا عن قصد بل بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم. عندما عنونت هذا النص بـ «كيارستمي في بغداد» أردت أن يكون معنى لهذه الصورة، أن تأخذ معناها السينمائي، كأن يكون فيلم كيارستمي المتخيل عن بغداد، بمثابة طريق قدوم إليها، أو طريق جديد لها. لأني على يقين من لقائه بأناس الهامش، الذين لهم قصصهم، فلهذه المدينة قصتها البسيطة والمعقدة في الآن نفسه، إذ يمكن لك أن ترى قصة سوريالية، وترى قصصاً أكثر من ذلك، المدن التي لا تستيقظ من الحرب بسهولة لها قصصها الخاصة بها، لها أساطيرها ووجعها الذي يسمّي إيمانه ويرسمه على وجوه العامة.
سأحب رؤيتك هنا يا كيارستمي، ولو كنت مجرّد روح، فأنتَ شريك جلساتنا أنا وحسن وعلي وكل من يعشقك مشاركاً الحديث عنك.
* بغداد/ العراق