معروفةٌ قصّة ذي القرنين ورحلته إلى أرض قوم مأجوج ويأجوج في القرآن. وبناءً على القصة، فقد أنشأ ذو القرنين هناك سدّاً بطلب من أهل المنطقة، مُنع من خلاله يأجوج ومأجوج من الخروج وإفساد الكون. بالطّبع، جرت محاولات لا تتوقّف لفهم معنى يأجوج ومأجوج (جوج وماجوج في التوارة). وما زالت هذه المحاولات تتواصل، من دون أن تصل إلى حلٍّ مُرض. أمّا أنا، فأعتقد أنّهما يمثّلان الماء السّفلي في الكون. لذا، جرى بناء السدّ لحصر هذا الماء، ومنعه من أن يكتسح بطوفانه الكون. بذا، فقصّة يأجوج ومأجوج يجب أن تُضاف إلى قصّة الطوفان: طوفان نوح وطوفان أوتونبشتيم. وقد أفصّل في هذا عبر مقالٍ لاحق. فالمجال هنا لا
يتّسع.
« يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» لزكريا القزويني (1203–1283)

وأدناه هي الآيات التي تعرض للقصّة:
«حتّى إذا بلغ بين السّدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً. قالوا يا ذا القرنين إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، فهل نجعل لك خُرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً. قال ما مكّنّي فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً. آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصّدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً» (سورة الكهف 93-98).
وما أودّ أن أشير إليه هنا هو أن ثمّة كلماتٌ غامضةٌ في الآيات القرآنية التي تعرض القّصة. فهناك على الأخصّ كلمة «السّدين» وكلمة «الصّدفين». وبناءً على الآيات، فقد أقام ذو القرنين سدّاً منيعاً بين الصّدفين، أي الجبلين أو بين رأسيهما، بعدما ساوى بينهما، بناءً على طلب أهل المكان.
لكنّ المشكلة أن السّدود كانت موجودة قبل وصول ذي القرنين، كما تبيّن الآية رقم 93: «حتّى إذا بلغ بين السّدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً» (الكهف 93-95).
وكما نرى فهناك سدّان وليس سداً واحداً فقط. وقد بلغ ذو القرنين ما بينهما. وقد أربك وجود هذين السّدين المفسرين مما اضطرهم إلى جعل السّد بمعنى الجبل في الآيات بمعنى: «حَكَى الزَّجَّاجُ: مَا كَانَ مَسْدُوداً خِلْقَةً، فَهُوَ سُدٌّ، وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ، فَهُوَ سَدٌّ... والسَّدُّ والسُّدّ: الْجَبَلُ وَالْحَاجِزُ» (لسان العرب). وهكذا فقد يكون السد حاجزاً أو جبلاً. وفي هذه الحال فهو الجبل. وهذا اقتراحٌ ليس من السّهل قبوله بالطّبع. فقد وضع للتّغلب على غموض الآية.
ولحلّ المعضلة، يمكن لي أن أقترح أنّ تصحيفاً ما حدث في الآيات هو الذي أوصل إلى ثلاثة سدود دفعة واحدة. واعتقادي أن التّصحيف مزدوج:
التّصحيف الأوّل: حصل في كلمة «السدّين». فالأصل فيها هو الصُّدين: «حتى إذا بلغ بين الصدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً».
والصّد هو الجبل أو جانب الوادي: «الصُّدَّانِ: جانِبا الوادي، الواحد صَدٌّ» (ابن فارس، مقاييس اللّغة). يُضيف لسان العرب: «الصَّدَّان: ناحيتا الشِّعْب أَو الجبل أو الوادي، الواحد صَدٌّ... والصَّدُّ الجانب» (لسان العرب). يزيد ابن جني: «والصد جانب الجبل والوادي والشعب» (ابن جني، الخصائص). ويؤكّد القاموس المحيط: والصَّدُّ، ويضم: الجَبَلُ، وناحِيَةُ الوادِي. والصُّدَّانِ، بالضم: شَرْخا الفَرْقِ [فرق الرأس]» (القاموس المحيط).
ثمّة كلمات غامضة في الآيات القرآنية التي تعرض القصة


إذن، فالأصل كان يتحدّث عن «صدّين»، لا «سدّين»، أي عن جبلين متقابلين، أو جانبي واد، أو شرخيه. ويكون الوادي في العادة بين جبلين، أو شرخي جبلٍ واحد.
التّصحيف الثاني: وقع في كلمة «الصّدفين». وهذه الكلمة أيضاً تصحيف آخر لكلمة «الصدّين» ذاتها. بذا فقد صحفت كلمة «الصّدين» مرّتين: مرّة على شكل «السدّين»، وأخرى على شكل (الصّدفين). في التّصحيف الأوّل جعلت الصّاد سيناً (السّدين)، وفي التّصحيف الثاني أضيفت فاء زائدة إلى الكلمة (الصدفين).
انطلاقاً من هذا، فذو القرنين صنع الرّدم - السدّ عن طريق تسوية ما بين الصدّين، أي الجبلين المتقابلين، أو ضفّتَي الوادي المتقابلين، أو شرخيه. ويبدو أنّه فعل ذلك بأن أحرق طين البناء بالنار، أي شواه، حتى تصلّب وتقسّى، ثم صبّ عليه صهير الحديد حتى يزداد متانة وصلابة. وهذا الشي بالنار يشبه ما فعله هامان لفرعون. فقط طلب فرعون منه أن يشوي له الطين ويبني به برجاً: «وقال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلّي أطلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه من الكاذبين» (سورة القصص 38).
إذن، فقد كان هناك حركتان لذي القرنين:
الأولى: في الحركة الأولى بلغ بين الصّدين، فطلب منه أهل المنطقة أن يبني لهم سدّاً يحميهم من مخاطر يأجوج ومأجوج.
الثانية: في الحركة الثانية ساوى بين الصدفين، وأنشأ لهم الرّدم، أي السدّ.
انطلاقاً من هذا فالآيات في الأصل تقول هكذا:
«حتّى إذا بلغ بين الصّدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً. قالوا يا ذا القرنين إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خُرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً. قال ما مكّنّي فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً. آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصّفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً. فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً» (سورة الكهف 93-98).
بناءً عليه، أنا أعتقد أنّ «الصّدفين» كلمةٌ وُضعت في القاموس انطلاقاً من التّصحيف لا غير. لقد خلقها التّصحيف، ولم تكن موجودة قبله. كما أعتقد أن السدّ جُعلت بمعنى الجبل انطلاقاً من التّصحيف أيضاً. والله أعلم منّي ومنكم.
* شاعر فلسطيني