قبل رايموند ويليامز (1921 ــــ 1988)، الناقد الثقافي البريطاني، كان التصوّر السائد بين المثقّفين البورجوازيّين يرى في الثقافة الرفيعة للأقليّة النخبويّة المحاصرة بالطّبقات الشعبيّة معقلاً أخيراً للقيم المتحضّرة في المجتمعات الغربيّة. وفق هؤلاء البرجوازيين دائماً، كانت هذه الثقافة تحاصرها قوى فوضوية ووحوش أطلقتها مرحلة الحداثة: التّصنيع الرّخيص ومجتمع البروليتاريا أو الطبقة العاملة. ويليامز، الذي يحتفل اليسار البريطاني بمئويّته هذا العام، كان يعتبر تلك النّظرة الفوقيّة للثقافة نِتاج قصر نظر وسوء تقييم: فلا عاقل ينكر قيمة منجزات الثورة الصناعيّة والمكاسب التي جلبتها للبشرية كالطاقة البخاريّة والكهرباء، لكنّ مثقّفي البرجوازيّة عجزوا عن التقاط الحقيقة الساطعة: العدو ليس الإنتاج الصناعي بحد ذاته، بل الرأسماليّة التي تدير ذلك الإنتاج وتحدّد أُطره ومساحاته. ووفق ذلك، رفض ويليامز بحرارة فكرة أن أدوات الإعلام الحديثة: التلفزيون، والإذاعة، والسينما قد أفسدت الجماهير وانحطّت بأذواقها، مجادلاً بأن ما أفسد الجماهير بالفعل كانت تجليّات الرأسماليّة: الانقسامات الطبقية الحادّة، وفجوة المدخول، والثروات الفلكيّة للأقليّة المرفّهة التي يحركها مبدأ وحيد: دافع تعظيم الربح، والمنافحة عن الملكية الخاصة.
أسّس ويليامز «المادية الثقافية» – على نسق المادة التاريخيّة - منهاجاً جديداً للتحليل النقدي للمنتج الثقافي، يجعل من الممارسة الثقافية جزءاً من عملية متدفّقة وديناميكيّة مزروعة في نسقٍ تاريخيّ. وفي إطار هذا المنهج، طوّر ويليامز عدداً من المفاهيم النظرية الدائمة: فقد حدّد «بنية الشعور» الإنساني في ما يتعلّق بتذوّق العمل الفنيّ بأنّه «فضاءُ التفاعل بين الوعي الجّمعي في حقبةٍ تاريخيّة معيّنة وتلك التجربة المتكاملة للعيش الفعلي بكل ما يترتب عليه». وأصرّ في جدالاته مع كبار النقّاد على استعادة الثقافة من شكلها النّخبوي المترفّع والمعتزل في أبراجٍ عاجيّة ودورها الترفيهيّ والذاتيّ إلى صيغة ممارسة حياتية اعتياديّة، ويوميّة، أقرب إلى أن تكون جماهيريّة على نحوٍ ما، يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها بشكلٍ مستمر كجزءٍ حيويّ من نضالنا اليوميّ لفهم بيئتنا ومحاولة تفسيرها وإعادة توصيفها حتّى «نتمكّن من العيش فيها بنجاحٍ أكبر»، ويمكن بالتالي للمجموعات البشريّة أن تطوّر ــ وتعيش ــ «طريقة متكاملة لممارسة الحياة»، من دون حتميّة العبوديّة التامّة للأوضاع القائمة الموروثة.
رسم ويليامز توتراً بين ثلاث قوى تتقاطع في تطوير المنتج الثقافي في مجتمعٍ معيّن: الموروثة (العناصر التقليديّة التي تراكمت سابقاً في إطار عمليّة تاريخيّة)، والمهيمنة (المرتبطة بمصدر السلطة وتستهدف لعب دورٍ فاعل في صياغة الوعي)، والصّاعدة (الإبداعيّة والمتحدّية للأوضاع القائمة). هكذا لم تعد الطبقة العاملة مجرّد ضحيّة تتلقى الثقافة وتستهلكها لمصلحة ديمومة الهيمنة التي عادةً لا تتعارض بشكلٍ سافر مع الموروث، بل قد تعيد توظيفه، وإنما قوّة فاعلة يمكنها استهلاك المنتج الثقافيّ بغير الغاية التي أرادها منتجوه، وإعادة استخدامه في مجالٍ آخر وبطريقةٍ أخرى، وإبداع نماذج مختلفة منه. وفي تفكيك التوتر الناتج عن تقاطع تلك القوى، يمكن نقد المنتج الثقافي وموضعته في الإطار الكلّي للعمليّة الثقافيّة المستمرة في المجتمع.
تفكير ويليامز الجديد بشأن الثقافة الذي كان مفصلياً في تأسيس ما يعرف اليوم بالدراسات الثقافيّة، لم يستهدف مقارعة الفكر البورجوازي فحسب، بل شنّ حرباً على نوع من ماركسية ميكانيكيّة مبتذلة خفّضت من مكانة الثقافة إلى مجرّد اشتقاقٍ فرعي لنمط الإنتاج الاقتصادي لمجتمع ما. وعلى غرار الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي في نظريته عن الهيمنة الثقافيّة، اعتبر ويليامز الثقافة مجالاً أساسياً في الحياة المجتمعيّة «يتم فيه التعبير عن السلطة، وتمظهراتها في الواقع، والوقت عينه منازعتها ومواجهتها».
لم يعد فهمنا للثقافة بعد ويليامز كما كان قبله. لقد ترك بصماته واضحةً على جيلٍ كاملٍ من المنظّرين الثقافيين من أمثال إدوارد سعيد، وستيورات هول، وجولييت ميتشيل. الثقافة لم تعد مقتصرةً على محاضرات «جامعة كامبريدج» أو مقتنيات المتاحف أو مسرحيّات شكسبير. لقد بتنا نراها في كلّ موضع نشاط إنساني: من الأغاني الشعبيّة إلى طريقة البناء، ومن التلفزيون إلى الأزياء، ومن الصحافة الشعبيّة إلى المنظّمات العماليّة الأهليّة (كالنقابات). وفي الاحتفال بمئوية ويليامز اليوم، اعترافٌ خجول ــ ومتأخرٌ ربمّا ــ بمساهمته الهائلة والاستثنائيّة والجميلة في تشكيل الفكر والنقد المعاصرين.