لفتت الروائيّة والجامعية في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في سوسة آمنة الرميلي الانتباه بروايتها الجديدة «شط الأرواح» (دار محمد علي للنشر ـ تونس) التي طرحت مأساة الشباب التونسي والمغاربي والأفريقي الذي يلتهمه المتوسط كلّ عام، حالماً بالوصول إلى الضفة الأخرى. الرميلي، التي توِّجت بين الفائزات بالجائزة الوطنية «زبيدة بشير» لأفضل الكتابات النسائية التونسية لسنة 2020، إذ نالت «جائزة الإبداع الأدبي» عن روايتها، تعتبر أنّ التزام الكاتب بمشاغل الشارع التونسي يقع في صميم الكتابة. لقد كانت أعمالها المتتالية مثل «جمر وماء» و«الباقي» و«توجان» في صميم الالتزام بالقضايا الاجتماعية والسياسية والدفاع عن الحريات والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. مسارٌ انخرطت فيه آمنة الرميلي منذ السبعينات، زمن التحصيل الجامعي في مواجهة الآلة الأمنيّة للنّظام الذي لم يكن يسمح بمساحاتٍ كبيرةٍ لمعارضيه. بالتّوازي مع هواجس الكتابة ورهاناتها روايةً وشعراً (كتبت للأغنية والأوبرا)، تسهم آمنة الرميلي في الحركة النسوية، هي التي تعدّ من الأصوات البارزة في الحركة النسوية التونسية في الدفاع عن المساواة والتحديث. يعدّ كتابها «المرأة والمشروع الحداثي في فكر الطاهر الحداد» من أبرز الأعمال الأكاديمية التي أنصفت المصلح الاجتماعي الرائد الذي كان وراء «مجلة (قانون) الأحوال الشخصية» التي منعت تعدّد الزوجات وزواج الفتاة قبل سن 18 عاماً ترجمةً لأفكار الطاهر الحداد التي تحققت بعد الاستقلال بمبادرة من الزعيم الحبيب بورقيبة (1903-2000) لتكون سابقةً في العالمين العربي والإسلامي. في هذا الحوار، تتحدث آمنة الرميلي عن الرواية والشعر والمشروع التحديثي التونسي
روايتك «شطّ الأرواح» حقّقت نجاحاً كبيراً، ماذا أضافت إليك هذه التجربة؟
ـــ أسمّي كتابة الرواية «المغامرة المركّبة». مغامرة ذهنيّة نفسيّة في اللغة وباللغة، ولحظة طويلة ممتدّة في الزمن من البناء والتركيب والهدم وإعادة البناء. كتابة الرواية ليست فقط «حكاية» نرويها لقارئٍ كامن فينا أو موجودٍ خارجنا، وإنّما هي «هندسة حكائيّة» أو «تشكيل حدثيّ» شديد التعقيد له خارطة شروطٍ صعبة التنفيذ غالباً. على هذا «التشكيل الحدثي» أو تلك «الهندسة الحكائيّة» أن تكون منسجمة غير مشعّثة، وأن تقنع وتدهش في آن، وأن تكون مستحدثة لا تكرّر نصّاً سابقاً، ولكن عليها أيضاً أن تحدّث القارئ بما يعرف ويفهم ويقبل. وعلى الرواية أن تعلن من ناحية أولى عن ذات فرْد هي الذّات المنشئة، وعليها من ناحية أخرى أن تحمل علامات الانتماء الجمعيّ لتلك الذّات المنشئة وأن يجد فيها القارئ ذاته أيضاً. إنّها فعلاً «مغامرة مركّبة»، وأنا أعيش هذه «المغامرة المركّبة» مع كلّ رواية أكتبها، وأحاول قدر الإمكان أن أوازن بين خطوطها وألمّ شعثها وأربط شظاياها الكثيرة. لم تكن «شطّ الأرواح» سوى مناسبة أخرى لهذه «اللعبة» اللغوية الصعبة الخطِرة واللّذيذة في آن. وقد يكون أنّي أصبحت أكثر مناورةً في اللعبة اللغوية وأكثر جرأةً على اختلاق عوالم سردية ليست دائماً مستجيبة لتوقّعات القارئ. ومن هنا سرّ هذا النجاح الذي استقبلت به الرواية وطاقة الإدهاش التي حققتها لدى القارئ كما بلغني عبر القراءات المختصة ودخول الرواية بسرعة لم أتوقّعها إلى أيدي الباحثين في أكثر من مخبر جامعي في تونس. «شطّ الأرواح» هي روايتي التي تركت فيها حبال السرد تقودني حيثما شاءت أو شئتُ، فلامست مناطق مثيرة وتفاوضتُ مع كوامن القارئ ومخاوفه البعيدة، وحاولت أن أنقل إليه مخاوفي وغضبي ورُهابي وعقدي الواعية واللاواعية وأنا أحدّثه عن «الجثث» و«الأرواح» و«الأحياء الأموات» من خلال ظاهرة واقعية يعرفها القارئ التونسي والعربي والكوني هي «الهجرة غير الشرعية» أو «الحرْقة» كما نقول في تونس.

بدأت مسيرتك بالبحث في فكر الطاهر الحدّاد (1899 ــــ 1935)، كيف ترين دوره في مسار التحديث في تونس ؟
ـــ لولا الطاهر الحدّاد، لما كانت المرأة التونسية تحظى بهذه الوضعية التي تحظى بها على الأقلّ على مستوى القوانين التي تخصّ وضعها الاجتماعي والحقوقي والإنساني. يُردّ الفضل عادة في تحرّر المرأة التونسية من وضعها السابق إلى وضعها الحالي، إلى الزعيم الحبيب بورقيبة، لكن لولا مشروع الطاهر الحدّاد التحرّري، لما استطاع بورقيبة أن يفعل ما فعله. ولنقرّ بأنّ ما فعله بورقيبة أمر عظيم وتاريخيّ ورياديّ، فقد جعل أوّل دستور يُكتب في تونس بُعيْد الاستقلال (20 آذار/ مارس 1956) هو «مجلّة الأحوال الشخصية»، التي أعلنت يوم 13 آذار (أغسطس) 1956 ودخلت حيّز التنفيذ يوم 1 كانون الثاني (يناير) 1957، أي أنّها سبقت دستور البلاد الذي تمت صياغته سنة 1957.
كلّ هذه المكتسبات التي حقّقتها مجلّة الأحوال الشخصية للمرأة، كان الطاهر الحدّاد قد دعا إليها في كتابه الحدث «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الذي ظهر سنة 1930 وأثار أكبر خصومة فكرية اجتماعية في تاريخ تونس الحديث، وتعرّض الحدّاد بسببه لأنواع شتّى من العقوبات والعذابات، ورُمي بالتكفير، واتّهم بالعمالة للمستعمر الفرنسي، وطالته الإهانات من كلّ الجهات، وتعرّض للضرب والتنكيل في شوارع مدينة تونس العتيقة حيث درس في جامع الزيتونة وتخرّج ومارس القضاء الشرعي وحيث كان يسكن قبل أن يشرّده المتزمّتون. في «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، نادى الطاهر الحدّاد بالمساواة بين المرأة والرجل بما في ذلك الميراث، وهو ما لم تجرؤ عليه مجلة الأحوال الشخصية. ودعا إلى تعويض المحاكم الشرعية بمحاكم مدنية تحرّر قوانين الزواج والطلاق والحضانة والميراث من الأحكام الفقهية وإبدالها بأحكام وضعية تضمن للمرأة كرامتها، وتُخرجها من وضعية «الأنثى» إلى وضعية «المواطنة». من هنا كانت دعوة الحدّاد إلى إبطال تعدّد الزوجات وإلى المساواة التامة بين المرأة والرجل، وإلى اجتراح قوانين جديدة تنظّم العلاقة بينهما. صدمة التجديد والتحديث في تونس، تمّت مع ظهور كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، لذا لم يجد بورقيبة من معارضة تذكر أمام تنفيذ المشروع التحرّري في مجلة الأحوال الشخصية، وهو الزعيم القويّ المنتصر آنذاك. وكنت نشرتُ في 2012 كتاباً بحثيّاً بعنوان «المرأة والمشروع الحداثي في فكر الطاهر الحدّاد» أقتطف من مقدّمته هذه الفقرة وفاءً لروح الحدّاد العظيم: «سنة 1935، توفّي الطاهر الحدّاد وحيداً فقيراً مقهوراً، مظلوماً ظلماً لم يستطع جسده ولا نفسه تحمّله، ذهب الحدّاد في عزّ العمر، في السادسة والثلاثين من عمره وفي قلبه شيء من الحسرة وشيء من القهر وشيء من الحيرة، وكثير من الأسئلة والأمنيات كما جاء في «خواطره»، هو الذي وهب كلّ عمره القصير للنضال من أجل تونس، نضال سياسي نقابي فكري اجتماعي، لكنّه لم يفهم لمَ عامله مجتمعه وشعبه وحتى نخب ذلك الشعب بكلّ ذلك العنف والرفض والجحود، وبكلّ تلك الشراسة التي حرمته من العمل وجرّدته من شهادته العلمية الزّيتونية ومنعته من إجراء امتحانه في مدرسة الحقوق. عنف ورفض وجحود وشراسة اضطرّته إلى لزوم بيته وهجر مجالس الثقافة والحوار، وجعلته ينتبذ الناس ويعطي نفسه لوحدة وغربة قاتلتين مثل كثير من عظماء الإنسانية في التاريخ».

نقّاد كثيرون يعتبرون أنّ الرواية أصبحت فنّ العربية الأوّل، إلى أيّ حدّ يمكن تصديق ذلك؟
ـــ يقول جورج لوكاش متحدّثاً عن سحر الرواية ووظائفها: «الرّواية هي ملحمة عالم بلا آلهة». في قول لوكاش إشارة إلى أنّ الرواية بنت الملحمة، ومن هنا نعود إلى ما ذكرناه حين تحدّثنا عن «المغامرة المركّبة» تماماً كما في الملاحم. ولئن كان لوكاش يقصد كون الرواية هي ملحمة العصر الحديث أي عصر البورجوازيّة بالمفهوم الماركسي للكلمة، فإنّنا نحتفظ من كلامه بالمماثلة الدّالة بين الرواية والملحمة، يجمع بينهما القدرة الفائقة على التقاط اهتمام الجماهير الواسعة وسرعة الانتشار والرسوخ في الذاكرة الجمعية من ناحية، ويلتقيان من ناحية ثانية في ركوب الخيال واختلاق الأحداث ومحاولة السيطرة على الكون باللغة. وإذا ما كانت الرواية فنّاً جماهيرياً واسع الانتشار منذ القرن الثامن عشر لغاية اليوم، فإنّ ذلك يعود إلى قدرتها الفائقة على الانسراب إلى وعي الجمهور القارئ واستثارة رغباته القريبة والبعيدة، ومنحه زمناً آخر مختلفاً عن زمنه الواقعي الفيزيائي، ورميه في عالم جديد لم يعرفه قبل قراءة الرواية. يُضاف إلى كلّ هذا كون الرواية نصّاً كثير النوافذ مترامي الأذرع التعبيريّة، نصّاً أخطبوطيّاً يمكنه أن يجذب إلى مركزه الخرافة والأسطورة والتاريخ والشعر والرسم والسينما والمسرح، وكل ما أمكن من فنون القول والتعبير. يمكن القول والحال هذه إنّ الرواية شكل سرديّ «إمبرياليّ» له من الإمكانيات ما يجعله سيّد الفنون كلّها!
ولا تخرج الرواية العربية عن هذا المشهد الفنّي العالمي الذي تهيمن فيه الرواية هيمنةً مطلقة لغاية اليوم، ولا ندري إلى متى ستبقى هذه الهيمنة المطلقة وإن بدأنا نستشرف بعض ملامح التغيّر في حضرة النظام العولمي وسيطرة وسائل التواصل الرقمي على اهتمام الجماهير وبناء نظامها الداخلي وعياً ولاوعياً.
لولا مشروع الطاهر الحدّاد التحرّري، لما استطاع بورقيبة أن يفعل ما فعله


مصطلح «الأدب النّسوي» لا يزال متداولاً، هل تعتقدين أنّ هناك رواية أو الأصحّ كتابة نسوية؟
ـــ لنتّفق أوّلاً على وجود بعض الضبابية في الخطاب النقدي العربي حين نخوض في «الأدب النّسوي». ونرى أنّه من المفيد ــ للكتابة وللنّقد ــ أن نضبط الحدود المفهوميّة ونرسم مجالات استعمالها ونحن نتحدّث عن «الأدب النّسوي» كما جاء في السّؤال.
في الأوساط النقدية التونسية، نكاد نتّفق تقريباً على أنّ المفهوم الأدقّ هو «الأدب النسائي» أو «كتابة المرأة». ونكتفي بسوْق سببين يقفان وراء هذا الضبط المفهومي عند المعتنين بشأن الكتابة في تونس: السبب الأوّل يتعلّق بالصّفة بحدّ ذاتها «النّسوي» و«النّسائي»، حيث يوجد نوع من الإجماع على أنّ «الأدب النّسويّ» هو أدب تيمته الرئيسيّة المرأة ووضعيتها الاجتماعية والرمزية والنفسية وغيرها. أدب يتكلّم عن المرأة وعن معاناتها أو نجاحاتها، عن ظروفها الحافة التي تدفعها إلى النجاح أو تعرقلها، عن صورة المرأة في عين النظام الأبوي الذكوري. وهو أدب لا تكتبه المرأة فقط وإنّما يكتبه الرّجل أيضاً، وكم من القصص والروايات والأشعار والبحوث والدراسات كتبها رجال عن المرأة وعن قضاياها الخاصة والعامة. ومن هذه الناحية، لا يمكن أن نقصد بـ«الأدب النّسوي» أدباً تكتبه المرأة وإنما هو أدب مكتوب عن المرأة بقطع النّظر عن جنس من كتبه. أمّا السبب الثاني الذي يقف وراء حذر الأوساط النقدية من مفهوم «النّسويّ»، فهو تلك «الواو» التي تحيل في بعض معانيها حين تحضر في صياغة مفهوم ما، إلى نوع من «التّهجين» أو «الحكم على» أو حتى «الإقصاء» المعنوي لأنّ الذاكرة تستدعي مع صفة «النّسوي» صفات تهجينية أو سلبية أخرى مثل «الحداثويّ» و«الإسلامويّ»..
من هنا يجدر بنا الاستقرار على مفهوم «الأدب النسائي» أو «كتابة المرأة» في دلالة على نصّ كتبته امرأة، وخطّته ذات أنثويّة تنظر إلى الكون من زاوية مختلفة وتتدبّر اللغة بشكل مخصوص نابع من كونها امرأة، أي من كونها ذاتاً قادرة على تصريف اللغة تصريفاً مختلفاً عن تصريف الرجل إياها من دون أن يكون ذلك مدعاة إلى المفاضلة ولا إلى التراتيبية، فقط درجة الإبداع هي التي تفاضل وترتّب. إنّنا مطالبون اليوم في النقد العربي بنوع من الإجماع على مفهوم «الأدب النسائي» أو «كتابة المرأة» حتى نخرج من تلك القراءة القائمة على الحكم المسبق سواء عند القارئ الرجل أو عند القارئة المرأة حين يتعاملان مع نصّ الكاتبة المرأة بشبكة من الآراء الجاهزة كونها «كتابة أنثوية» لا تستمدّ خصائصها من «ذات مبدعة» هي الكاتبة وإنّما من «ذات اجتماعية» هي المرأة، ليكون الحكم بذلك داخلاً في الجنْدر خارجاً من العلم!

كتبتِ قصائد أو الأصحّ نصوص للأغنية والأوبرا، هل تصنّفين نفسك شاعرةً أم هذه مجرّد تجربة في سياق مسيرتك كاتبةً؟
ـــ أقرّ بأنّ الرّواية هي التي أخذتني إلى الشعر. كان ذلك وأنا أكتب روايتي «الباقي». كنت في صدد بناء مشهد حبّ بين شخصيتين من شخصيات الرواية، فإذا بكلام الشخصية يدفق بالشعر باللهجة التونسية. يسأل إبراهيم حبيبته: «تقول نحبّك؟ آشْ معناها تقول نحبّك؟!» لتتالى الجمل بلا توقّف: «تْفكِّرْ فيَّ؟ تِحلِمْ بيَّ؟ تْخَلّي عِينِكْ في عينيَّ؟ تِسْتـنّاني؟ تِـتْمنّاني؟ تُـدْخلْ بعضكْ كيفْ تْراني؟ تَحْلى دْموعكْ بينْ يديَّ؟ تِضْوي شمعة، تُرقصْ دمعة وأنا مْعاكْ؟ هـذي آشْ معناها نحبّك؟!..». وولدت على لسان الشخصية قصيدة متكاملة التقطها الفنان التونسي صلاح مصباح حين قرأ الرواية واستأذنني في تلحينها وغنائها، وكان الأمر كذلك. ثم كان اللقاء مع السوبرانو التونسية صاحبة الصوت المدهش يسرا زكري والملحّن السيمفوني جلّول عيّاد. أنجزنا مجموعة من الأغاني الأوبرالية قدّمت في تونس وخارجها. ولعلّ أهمّ العروض هو عرض «أوبرا حشّاد» الذي قدّمته يسرا زكري على مسرح بودابست عام 2018 بدعوة من سفيرة تونس في المجر السيدة إلهام عمّار في مناسبة ذكرى الاستقلال، وكان عرضاً متميّزاً أمام سفراء العالم. وأقرّ أيضاً بأنّ كتابة الأوبرا قد استهوتني، خاصة بعد اللقاء بالباحث في علم الموسيقى سمير الفرجاني، وقد أنجزنا عملين أوبراليين، أحدهما باللهجة التونسية هو «خيل سالم»، والثاني بالفصحى حظينا فيه بالتعامل مع صوت الفنّانة اللبنانية العالمية جاهدة وهبة ويحمل عنوان «شهرزاد». وقد عُرض في سوسة ثم في مدينة الثقافة في العاصمة ولاقى نجاحاً كبيراً. اليوم عندي ديوان شعري غنائي باللهجة التونسية يحمل عنوان «نْحبّكْ يا إنتِ»، وأُدعَى إلى الملتقيات وحتى المهرجانات لأقرأ أشعاري وأنشر قصائدي على صفحات الفايسبوك فتلاقي نجاحاً واسعاً. مع ذلك، لا أعتبر نفسي شاعرة بالتوصيف المفاهيمي للكلمة، فتلك درجة عالية لا يستحقّها إلا الذين كرّسوا تجربتهم في الكتابة وكامل مسيرتهم الإبداعية للشعر في الدرجة الأولى، ولست من هؤلاء حقيقة. نشاطي الأوّل هو الرواية والبحث الأكاديمي، والشعر نافذة أطلّ منها على حديقة سرية بين الحين والآخر.

منذ العام 2011، تسهمين في الشّأن العام، هل تعتقدين أنّ ذلك مهمّة أساسية عند الكاتب؟
ـــ إذا كان المقصود بالشأن العام هو الانخراط في قضايا البلد والخوض في مشاكله والالتزام بالدفاع عن الحقوق والحرّيات، فإنّ هذا الإسهام قد بدأ باكرا جدّاً مع الحركة الطلاّبية أساساً، والانتماء إلى الاتّحاد العام لطلبة تونس والمشاركة في نضالات الجامعة التونسية ضدّ القمع البوليسي والسياسي السائد آنذاك داخل الجامعة وخارجها. وكانت كتاباتي تعبيراً عن هذا الانتماء إلى قضايا بلدي. وأظنّ أنّ هذا هو دور الكتّاب في التاريخ، أن يتكلّموا بألسنة شعوبهم وأن يلتزموا قضاياهم، وأن يحرّكوا السّواكن ويهدموا الأصنام الذهنية والسياسية ويكونوا في الصف الأوّل ضدّ الفساد وضدّ القمع وضدّ الأفكار الرجعية. إن لم يكن هذا دور الكاتب في مجتمعه، فما هو؟ في روايتي الأولى «جمر... وماء» (2003)، كتبت عمّا يعانيه مهاجرونا «الشرعيون» من صنوف الغربة والعنصرية. وفي «الباقي» (2014)، كتبت عن فشل اليسار التونسي وأسباب فشله تحت حكم بن علي. وفي «توجان» (2016)، أثرت قضيّة «العطش» و«حرب الماء» في نوع من الاستشراف المخيف. وفي روايتي الأخيرة «شطّ الأرواح»، حاولت أن أخترق الموت والغرق والجثث الطافية على ماء المتوسّط من خلال الخوض في عالم الهجرة السرّية التي أعطتنا «مقبرة الغرباء» على شاطئ جرجيس في الجنوب التونسي، تدفن فيها جثث من يتقيؤهم البحر من المهاجرين غير الشرعيين. وقد حاولنا ــ قدر الإمكان ــ منذ انتصر الشعب التونسي على نظام بن علي البوليسي أن ندافع عن حلمنا القديم الجديد بتونس حرّة تقدّميّة حقوقيّة ذات اقتصاد عادل وثقافة وطنية وسنبقى في سبيلنا هذا. نفعل ذلك بالكتابة حيناً وبالنزول إلى الشارع أحياناً، لا خيار.

أنت من المنحازين لـ «الثورة»، كيف تقرئين اليوم ما حدث في تونس بعد عشر سنوات؟
ـــ ثورة 2011 أو انتفاضة الشعب التونسي لم تخلق من عدم ولا نزلت من السماء ولا أسقطت على الشعب التونسي من مراكز النفوذ العالمي، وإنّما هي تراكمات طويلة من الانتفاضات وسلاسل طويلة من الشهداء سقطوا في عهد بورقيبة وعهد بن علي، لا من أجل الوصول إلى السلطة أو الانقلاب على مكاسب الدولة الحديثة كما عند بعضهم، وإنّما من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان: انتفاضة النقابيين في كانون الثاني (يناير) 1978، انتفاضة الخبز في كانون الثاني 1984، انتفاضة الحوض المنجمي في 2008، انتفاضات مدعومة من الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمات والجمعيات الحقوقية القوية في تونس... ولا ننكر طبعاً أنّ مراكز القوى تلك تدخّلت بعد سقوط بن علي لتضع في الحكم مَن يرعى مصالحها، ولا يربك مخطّطاتها في الشرق وشمال إفريقيا، لتغدر بآمال الشعب التونسي وتدخله في دوّامة من الصراعات المقصودة، وتفتح البلد أمام العبث السياسي الذي قادته أحزاب غير وطنية وضعت تونس على شفا انهيار اقتصادي يدفع ثمنه الفقراء والمفقّرون طيلة عشر سنوات.
هذا الفشل الذي نعاينه صباحاً مساءً، ليس ناتجاً عمّا حقّقه الشعب التونسي سنة 2011 وإنّما عن الإرث السياسي المتعلق بالحكم في تونس، لا بورقيبة ولا بن علي، أعطيا فرصة للتداول على السلطة ولا لتجربة ديمقراطية سليمة في تونس. عشنا منذ 1956 إلى 2011 في نظام رئاسوي متوحّش يضع تحت كلكله كل السلطات، وهمّه سحق معارضيه والتنكيل بهم. ولولا قوّة المجتمع المدني في تونس بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، لما كانت انتفاضات 78 و84 و2008 و2011. والفشل يُعزا طيلة هذه العشرية إلى عقليّة الحكم الموروثة في تونس عن النظام السابق، مع فارق أنّ حكّام اليوم يدّعون الديمقراطية في العلن ويغتالون معارضيهم في السرّ. ولكن تونس الجديدة آتية لا محالة، تونس المساواة والحريات والعدالة والثقافة ولن تتأخّر. نضيف أنّ تونس مدينة لمجتمعها المدني بما تحقق فيها من حقوق وحريات وما يتحقّق اليوم وما سيتحقّق.

المعركة في تونس ضد أخوَنة البلاد متواصلة، كيف تقرئين 25 تموز (يوم أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة)؟
تنظيم الإخوان المسلمين كان تنظيماً سياسياً منذ ظهوره في مصر سنة 1928 كما تقرّ بذلك أدبياتهم التأسيسية. تنظيم همّه السلطة الشمولية التي لن تتحقّق إلاّ عن طريق تحريك الوازع الديني وإثارة المخاوف العقائدية لدى البسطاء. ولم يكن حزب «النهضة» الذي حكم تونس منذ 2011 لغاية 25 تموز (يوليو) 2021 في منأى عن هذا المفهوم للسلطة. منذ وصوله إلى الحكم، عملوا على ما يسمّونه بـ«التّمكين». أداتهم في ذلك التسرّب إلى كلّ مؤسسات الدولة، كبرى وصغرى، بوضع أتباعهم على رؤوس الإدارات والوزارات والولايات والمعتمديات. وفي سبيل تحقيق هذا «التمكين»، عطّلوا كلّ ما من شأنه ألاّ يخدم مصلحتهم وسقطوا في التحالفات المشبوهة مع لوبيات الفساد ومراكز النفوذ المالي داخل البلاد وخارجها كما جاء في تقارير دائرة الحسابات. ودخلوا في تجاذبات قوية مع رئيس الجمهورية، بخاصة من قبل أغلبيتهم في البرلمان، فتعطّلت دواليب الدولة وانهار اقتصاد البلد وتفاقمت أرقام البطالة مع ما حصل بسبب وباء كورونا حتى باتت البلاد على شفا الانهيار التام. فكانت الحركة التصحيحة التي قادها الشباب التونسي الذي نزل إلى الشوارع يوم 25 تموز والتقط قيس سعيد في ما يبدو الإشارة، فكانت قرارات 25 جويلية التي استقبلها الشعب التونسي بفرحة غامرة، ونزل إلى الشوارع احتفاء بتجميد برلمان لم نر منه إلا ما يخجل ويحبط. نرجو أن يكون قيس سعيد في مستوى انتظارات الشعب التونسي، وأن تكون تونس قد دخلت مرحلة جديدة تبعدنا قدر الإمكان عن رداءات العشر سنوات التي مضت، بما فيها من جرائم الاغتيالات وسرقات المال العام وهبوط مستوى السياسيين وخاصة «نواب الشعب».