ترجمة وتقديم عبد الهادي سعدون
نادراً ما نجد ترجماتٍ عربيةٍ متكاملة عن الشعر الإسباني المعاصر، باستثناء الترجمات المتعدّدة لشعراء معروفين مثل لوركا وألبرتي وماتشادو، ولكن نقل جديد مختلف لأسماء شعرية معاصرة وبمنتخبات شاملة ولأكثر من صوتٍ شعري، تكاد المكتبة العربية تفتقر له.
من المعروف أنّ الشعر الإسباني المعاصر لم ينتشر ويخرج عالمياً سوى في السنوات العشرين الماضية، وبالأخص بعد انتهاء حكم فرانكو، وأسبابه عديدة لا مجال لذكرها، غير أنني ملزمٌ بالتأكيد على المناخ الثقافي الجديد وفُرص الإطلاع على نموذج الآداب العالمية الأخرى، وهي الفرص التي ساعدت على شيوع التجديد والتجريب في الأدب الإسباني، وإن جاء متأخراً عن الآداب الأوروبية، والمتوسطية على وجه الخصوص. المتتبع لحركة الشعر الإسباني المعاصر يلمس تنوعاً تجريبياً وتداخلاً ضمنياً بين الأساليب والرؤى الشعرية وطرق نقلها وتفصيلها، حتى إن الجيل الأدبي الواحد (أو ما يصنف على هذا الأساس) يرتبط بتنوع الأصوات واختلافها بالتجربة الشخصية والإطلاع والتأثّر سواءً الداخلي أو الخارجي.
أنطوني تَاپْيِيسْ: تحيا كاتالونيا (زيت وفحم على قماش، 2010)

نلاحظ كذلك بأن أغلب الشعراء الإسبان، كانت تحدوهم رغبة للّحاق والمواصلة على الأقل مع النموذج القريب، ونعني به الشعر الأميركي اللاتيني (لغوياً على الأقل، الإسبانية كمحدّد مشترك)، وكذلك محاولة التفرد والتميّز عن النموذج الأوروبي الآخر (تواجداً جغرافياً)، الذي شكّل بتنوّعه ونماذجه الرئيسية بؤرة جذبٍ تقليدي أحياناً، ومتابعة وتداخلٌ تام في أحيان أخرى. من هنا نرى أنّ الشعر الإسباني المعاصر (ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية) قد مثّل بقدرٍ وآخر، التجربة الإسبانية العريقة ابتداءً بنماذج شعراء القرن الوسيط حتى موجات الحداثة في القرن التاسع عشر، من دون أن يلغوا كثيراً مسألة التّداخل والتجريب والمعاينة مع النموذج الشعري العالمي. وهكذا في انتقاء نماذج تامة منذ الأربعينات إلى اليوم، ستجعلنا نقرأ مختلف المدارس والأساليب من الرومانتيكي حتى السوريالي إلى آخر موجات التجريب، رجوعاً إلى شعر الحياة أو اليومي كما يُطلق على آخر نماذجه الشعرية، بشهادة أوكتافيو باث نفسه.
نواصل هنا عبر هذه المنتخبات ترجمة ما يلحق هذه الأجيال، أي ما يطلق عليه بجيل الثمانينات حتى آخر الأسماء الشابة التي برزت قبل نهاية القرن العشرين، مما سيكون لنا بانوراما متكاملة لأهم الأصوات الشعرية التي كوّنت وما تزال خريطة الشّعرية المعاصرة في إسبانيا. حاولنا هنا، كما عليه في كتبنا المترجمة السابقة، أن نمنح للجغرافيّة الإسبانية حيّزها المتّسع، فانتقينا أكثر من صوتٍ يُكتب بلغةٍ أخرى من لغاتٍ إسبانية غير اللغة الرسمية، مثل شعراء كاتلونيا وغاليثيا أو الباسك.

1. آنا روسيتي: غرباء في الليل
عندما تشرّعُ نافذتك ليلاً
والذهب، يثقبُ ستارتها
يقتحم حضورك حجرتي
أنهض وأريد أن أفاجئك
أن ألمح قامتك تعبرُ
الكريستال، وقميصك الباهت
مرمياً على الكرسي.
حدقتي تتحجر على الدانتيلا
وقدماي، فوق البلاط، لا تتحسّسان البرد.
ــ (قادش1950، شاعرة وروائية، من كتبها: «هذيانات أيروس» (1980)، «آلهة مظلمة» (1982)، «فهارس حامية» (1985).

2. لويس ألبرتو دَ كوينكا: حمورابي
الفتيات مثلك يضحكن
من لحية حمورابي ذاته.
«العين بالعين
والسّن بالسّن»
(ما دونه في بابل
قبل أربعة آلاف سنة)

الفتيات مثلك يجبنّ
عن الحبّ بالازدراء
و بالازدراء عن الحب،
ذلك ليزعجن حمورابي.
ـــ (مدريد 1950، من بين دواوينه: «الصندوق الفضي» (1985)، «حيوانات أليفة» (1995)، «عوالم و أيام» (1999).

3. خايمه سيلس: كريستال
الضوءُ يقطع رموشك
وبينما يدور حولها
تتعرّف على نفسك،
كما لو كنت صوتاً وحيداً.

حدقة مكررةٌ تتفتّح
من قطرتها الزرقاء
حتى داخلها.

أسفل الكريستال
الضوء
ليس سوى نقطة.
ــ فالنسيا 1951، من أعماله: «إشارات إشارات» (1990»، «نشيد متأخر» (1999).

4. آندريس روباينا: عودة
يدور غبار
لا يُمسكْ،
منظرُ شمسٍ مكشوفة
أسفل الكثبان،
لا أثر للبحر الآن .
ـــ جزر الكناري 1952، من كتبه: «حبر» (1981)، «الصخرة» (1984).

5. خوان مانويل بونيت: تحديق
أنظر لدكّان الريح الصّافية
عندما تصمت
إذ تتركك تستمع للسّنجاب
في خطوه الهوائيّ الرّقيق
ما بين أشجار الصّنوبر المتعالية.
ــ باريس 1953، من كتبه الشّعرية: «وطنٌ معتم» (1983)، «جولة الأيام» (1990).

6. أسبرانثا أورتيغا: مشجب منسي
مشجبٌ منسي
ومصباحٌ عتيق

الأطفال
الذين ودّعوا الحصان الأبيض

دارك
المسنودة على هواء السّقف
تحتفظ بخرسها
حيث نما الحبّ اللّامرئي
رقيقاً مثل غصنٍ مندهش
من الأشباح الظريفة المهملة.

دون شك
فقد انحنى الخريف على الدار
وغطّاه بظلالٍ صفر.
ــ بالنثيا 1953، من كتبها: «يوم ما» (1988)، «انتقال» (1995)، «خيط وحيد» (1995).

7. خوان لامِّيار: أشياء مألوفة
توجد وحسب أشياء مألوفة:
هي التي تحرّرنا من الموت،
هي التي تنشر أغطيتها بحزم
ما بين الواقع والخيال.
صروحٌ إزاء الزمن،
وفي مادتها الهزيلة تتغلّب
على سيراميك المحبرة الأزرق،
ريش عتيق، صناديق من البندقية،
وساعاتٌ ترفض الوقت.

هذا وحسب ما يوجد: الذي يرافقني
في السِحر المغاير لهذه الغرفة.
كتب ورسائل، الموسيقى والصور
هذا ما يوجد وحسب: النافذة تكذبْ.
ـــ أشبيلية 1957، من كتبه: «جدار ضد الموت» (1982)، «المنظر الأزلي» (1992)، «دروس الزمن» (1998).

8. خوسيه خوليو كابانياس: زهرة زرقاء
حينذاك وصلتُ البحر
وبدا مثل زهرة زرقاء لا مثيل لها،
ذلك أنها تعيش حلمها
تويجاتها تفتحت بين الأمواج
أقطفها... قال أحدهم.

فشربتُ من ذاك الماء وكان موجاً.

ـــ غرناطة 1958، من كتبه: «خطوط» (1989)، «السماء تقريباً» (1999).

9. بلانكا آندريُو: عطاء
أخبريني أيتها المياه، أيتها النار الغاضبة، يا مطر الجحيم
فوق البحر الكبير تُقرع طبول الريح العدوّة
وتنطرح كما النّواقيس
مثل ألسنةٍ حديديّةٍ في الحضيض.
أخبريني، أيتها الأثقال، أيتها البضائع ورُزم الأعشاب:
الزنوج المضحّى بهم
كانوا عند الحافّة
ظلالاً مقصوصة،
ثياباً وحيوانات وامرأة.
ــ لاكورونيا 1959، من كتبها: «صبية المحافظات التي جاءت لتعيش عند شاغال» (1981)، «الحلم الغامض» (1994).

10. آلبارو بالبيرده: النور الممنوح
دهشة الإحاطة بمناظر محددة
شبيهة بدرجة ما بالحلم.
لذا ذات مساء،
وأنت تتأمل ساعة المغيب،
الجبال المطلة الشاهقة، هواء
النور الخيالي، المتضح
إذ لا قدرة للضباب على انكشافه.
وأنت في الجانب الآخر، وتجهل،
في الغرابة والشك
مغتربٌ يعود إلى الوطن
دون إعلانٍ مسبق.
هناك في شَركك،
متابعاً مناظر الزمن، باحثاً عن العلامات.
آنذاك وحسب تبتدئ الفهم
أنّ من يتذكّر ليس هو الذي لا علاقة له
والذي يتوقف الآن،
وفي وسط يأسه يتعرّف على نفسه.
ـــ بلاسنثيا 1959، من كتبه: «مكان للمديح» (1987)، «المياه المكبلة» (1989)، «المملكة الغامضة» (1999).

11. روجر وولف: الموسيقى
تغريد هذا البلبل
يسيح فوق جثّة المدينة الطّرية.
يقولون
أنّهم عثروا على السّرنجة
ما تزال معلّقةً بالذراع.
لا علم لي.
أو لا يهمني
كثيراً.
أستمع للبلبل
موسيقاه تصلني
في وسط الجحيم.
ــ وسترهام 1962، من كتبه: «الحديث مع أعمى عن الرسم» (1993)، «رسائل في قناني محطّمة» (1996).

12. آورورا لوكه: مشغل الحرير
حريرُ الرموش، حرير الفخذ
حريرٌ قاني لسماء الفم
حرير الرقبة الأبيض الخبيء
قطعة من الظهر بشامات صغيرة
حرير الصرّة الخادرة،
بكرة صوف العانة، والحرير الذي يبطنها
شبكة حرير الإبط
نسيج الشّفتين
الجلدُ كما الحرير
الكلمات حريريّة
الخيط بلا صنّارة الذّراعين،
جلدٌ من ليف مضغوط عمل الغازلة
دودة القز، حائك نقابة الخيّاطين في المستقبل
الذي فكّ الحرير العتيق المتقطّع الحائل
وجامع الخِرق الذي يمزّق ويفتق الوصلات الأخيرة
الأسمال، كفن الحرير المقروض.
ــ آلمرية 1962، من كتبها: «معضلات الدوبلاج» (1989)، «تاريخ الصلاحية» (1991)، «محطة الانتظار» (1998).

13. آماليا باوتيستا: امرأة لوط
لا أحد وضّح لنا حتّى الآن
فيما لو كانت امرأة لوط قد تحوّلت
إلى تمثال من ملح كعقاب لفضولها الذي لا يكبح
ولعصيانها فحسب
أو أنّها قد عادت أدراجها
ذلك أنّها منتصف كلّ ذاك الحريق البخاري
قد اشتعل قلب معشوقها الذي تركته هناك.
ـــ مدريد 1962، من كتبها: «سجن الحب» (1988)، «امرأة لوط وقصائد أخرى» (1995).

14. آنخيلا بالبي: غناء تحت القمر
لا يوجد في العالم فضاءٌ رحب
أفكاري بالكاد تعثر عن مأوى
ما بين السماء والبوصلة
أو ما يشير لي بهذا الفراغ
العابث
المستهلك
الذي
مشطَ للفجر
لونه.
ـــ ثيوداد ريال 1964، شاعرة وروائية، من كتبها: «قبطان الضباب» (1990)، «حجم العالم» (1998).

15. آدا سالاس: أبيات منفرطة
يسيلُ،
الصمت وحسب.
بلا عزاء.
*
مثلما يخيّم اللّيل
العظيم.
الصموت.

هاتان العينان، تلمعان وحسب
إذ ستكشفان ما يرى.
*
لن يكون للسلام من موضع.
لقد قبّلت عيناي
عريّك المهلك.
*
جسدٌ
مقابل جوعك
يعتمُ على صمتك.
*
أجيءُ من الهواء الوديع.
إذ رأيت الساعة البيضاء
عندما يختلط كل شيء
وتشتعلُ العتمة بحرائقها
والضوء
ببحيراته.
قلعة أكون.
لا أحد يخيطُ شفتي.
*
امنحْ فمي قبلة
يبتهلُ
صمتك وصمتي.
ــــ كاثريس 1965، من كتبها: «فن وذاكرة البريء» (1987)، «متفرقات على بياض» (1994)، «العطش» (1997).

16. بلايو فوَّيو: الحلزون
تخمين البراءة هي مثل إرجاع الحلزون
للبحر الذي صمت في جحره،
أو أن تستمع في صدر المرأة التي تحب
لأصوات هذا الطفل الذي يُغرِق الذكرى.
ــ خيخون 1967، من كتبه: «ذاكرة المرآة» (1990)، «تهكّمات المخبر» (1994).

17. أنريكه غارثيا مايكث: تعريف شخصي
ولدت في مدينة مورسية ولكني من ميناء سانتا ماريا.
عام ولادتي هو 1969، ولهذا يبدو لي 1968 عاماً ما قبل التاريخ.
وإن كانت جيدة عائلتي، أفضل أن أقول أنّني من عائلة جيدة.
أمي كانت سيئة، سيئة، سيئة جداً، وتعافت فجأة.
أمّا عن مسألة أن أصبح طفلاً نابغة، فقد توقفت في المنتصف:
كنت طفلاً وحسب.
في المدرسة حزت دقائق مجدي الخمسة.
أصدقائي آنذاك هم أصدقاء اليوم، أصدقائي.
تخطّيت مراهقة رومانسية، لا أريد أن أقول إنني ضد الرومانسيين،
بل نعم ضد مراهقتي.
في تلك الأيام عشقت امرأة حياتي، التي تعرفّت بها منذ وقت قصير.
ولأنني يعجبني الأدب الذي يسعى لجعل الناس أفضل،
لذا اخترت دراسة الحقوق.
خلال بعض الوقت، ليس معناه أنّني فقدت الزمن، بل لأنّني ضعت عن الزمن.
بعدها سافرت إلى لندن لدراسة المقارن: تصوّروا وحشاً مُعادٍ للإنكليز يدرس الإنكليزية.
اليوم لا أمضي إلى أيّ مكانٍ لأنني أقضي حياتي كأيّ معارض.
وعندما أكتب، لا أكتب كي أصبح غنياً،
بل أسعى لأحافظ على كوني أنريكه، أسمّي لا غير.
ـــ مورسية 1969، من كتبه: «بطاقة هوية» (1996)، «الهاوية» (2000).

18. آندريس نيومان: زرع الأشجار
تعلّمت من جدّي زرع الأشجار،
الصّفصاف يحتاج لمياهٍ غزيرة
آندريس، أنت وأنا
وكذلك الصفصاف،
لا يجب علينا، في البدء، أن نعمّق جذورنا،
بعض الأحيان ننمو بسرعةٍ عجيبة
أحياناً أخرى نرغب الجمود في الأرض،
مخافة الريح.
اليوم لم يعد هناك جدّي ولا بلدتي
ولا بالطّبع ذلك الطفل،
بقي فحسب شجر الصّفصاف المتعرّج
الذي يقول لي: إيه آندريس، يجب علينا الاعتناء بها
هذه الجذور الهشّة
هذا الخوف على امتداد الحياة.
ـــ بوينس آيرس 1977، من كتبه: «أغراض الليل» (1998)، «لاعب البليارد» (2000).