«مع غبش الفجر وصلتُ إلى المحطة بتلك المدينة، المصادفة وحدها من دلّني، بعد كلّ تلك المحاولات العاثرة للوصول إلى مدينة ما. وصولي كأنه اليأس، بقيتُ واقفاً على الرصيف بعدما أسرعَ الجميعُ في دروبهم... لوّحت الأيدي كثيرة مرحبة بغيري... كان وجهي مُتعباً من السهر وجسمي ضامراً من الجوع... أوهامي تلاشت بين المحطات الكبيرة والصغيرة التي عبرتها. الدفء! لم أعرفه، والأبواب أُغلقت بوجهي دائماً»: تائهاً بين المحطات الكبيرة والصغيرة، حفَر الشاعر والناشر والمترجم العراقي خالد المعالي (1956) طريقه في الصخر ليفتح الأبواب المغلقة: من البيئة القليلة الكتب والغنية بثقافة الاشاعة، الى مجاميع الشعراء التي كانت تزحف من المدن الى الثقافة «المركزية» في العاصمة بغداد، فالارتحال بين المنافي حتى الاستقرار في كولونيا (ألمانيا)، أينعت ثمار فضاء السماوة المفتوح على السماء والصحراء وبحث كلكامش عن دفء المعرفة والإبداع في محطات المنافي، شعراً ابتداءً من «لمن أعلن دفتري» (1978)، ومروراً بـ «عيون فكّرت بنا» و«خيال من قصب» و«الهبوط على اليابسة» وغيرها وصولاً إلى «أعيش خارج ساعتي» (2018)، وصناعةً للثقافة بتأسيسه عام 1990 مع الشاعر عبد القادر الجنابي مجلة «فراديس» التي توقفت عام 1993 ثم مجلة «عيون» عام 1995. إلا أن مشروع خالد المعالي الأبرز كان تأسيسه «منشورات الجمل» في كولونيا عام 1983، الدار التي حمّلها رؤيته وطموحاته في الانتقال بالنشر إلى مهنة محترفة يختلط فيها ذوق القارئ برهافة الشاعر واختيارات الناشر المحترف ضمن مروحة تجمع التراث إلى الحداثة وتولي الترجمة عناية خاصة، من ترجمات بودلير وسيوران وبروست وغوته ويوسا والرواية الغربية الحديثة والشعر الأميركي والفرنسي والألماني الذي تولى خالد المعالي نقل أعمال بول تسيلان وغوتفريد بن وهانس ماغنوس انتسنبرغر منه إلى العربية. نال خالد المعالي أخيراً جائزة «فريديريتش غودروف» من الأكاديمية الألمانية للّغة والأدب تقديراً لجهوده في الثقافة والترجمة من الألمانية وإليها ولمدّ الجسور بين الثقافات، فكان هذا الحوار في «كلمات» حول الشعر والنشر والثقافة والجائزة مع الذي عرّف عن نفسه في عنوان أحد كتبه «أنا من أرض كلكامش»
خالد المعالي: حين تركت العراق لم يكن في حقيبتي الصغيرة، إلا ديوان امرؤ القيس، لزوميات المعري، شرح ديوان الحلاج وكتاب النفري

كيف كانت بداياتك مع الشعر؟ ما هي الروافد التي غذّت ذائقتك ومخيلتك الشعرية؟
ـــ لا يعرف الواحد منا اليوم، كيف بدأ، ولماذا؟ رغم أنه يتذكر تماماً تلك اللحظات، الارتعاشة الأولى، وهو يكتب هذراً لا قيمة له، لكنهُ منحهُ شعوراً خاصاً وانفعالاً لا يُعرف مصدره، ولا قيمته، لم يكن التأثر الأكبر إلا بالبيئة حيث كنا ندور آنذاك، حيث الكتب القليلة، وثقافة الإشاعة هي السائدة، والوحدة مع القطعان، حيث كنت أرعى، سادّاً رمقي مما تمنحني إياه الطبيعة. لم تكن طبيعة ما أكتبه توافق ثقافة البيئة عن الشاعر، فبعضهم يمتحنك من خلال ارتجال القصيدة، وبعكسه فأنت لست بشاعر، والآخر يمتحن ذاكرتك في حفظ آلاف الأبيات الشعرية، وبعكسه فأنت أيضاً لست بشاعر، فأنت لا هذا ولا ذاك.
كانت حياتي ومحاولاتي مجرد ارتباك، فتتجمع تلك التأثيرات سواء عن طريق الاحتكاك اليومي أو القراءة التي كونت الصدف لا غيرها نوعيتها... في كل مرّة نواجه سؤالاً كهذا فنجيب إجابة مختلفة، وإن كانت في العمق هي ذاتها، لكنها تلك المشاهد التي تبدو لنا حية، كلما أردنا أن نلقي نظرة على ذلك الماضي البعيد. آه كم هو قريب الآن.

العراق هو من أكثر البلاد العربية في إطلاق البيانات الشعرية وتأسيس مجموعات أدبية وشعرية. هل انتسبت إلى جماعة شعرية؟ وهل يمكن للشعر أن يكون عملاً جماعياً مؤسساً أم هو برأيك حالة فردية خاصة؟
ـــ كنّا مجموعات غريبة عجيبة، في كل مدينة عراقية نحاول الوصول إلى العاصمة، لكن كلٌّ منّا يحفر بئره بنفسه، لم أكن جزءاً من مجموعة أو جماعة شعرية، الشعر أو الفنون بشكل عام هما عمل فرديّ محض. نتأكّد من ذلك في ما بعد.. في أوروبا، الاصطفافات السياسية ربما كانت مفيدة في تكوين وعي ما، ما زلت أعتقد أنه ضروري، لكن عملية الخلق الفني فردية تماماً، ولا يمكن إلا أن تكون كذلك.

كيف تحدّد علاقتك بالتراث؟ وهل من حداثة ممكنة بالانسلاخ عن ألفي سنة من التراث العربي، الشعري منه خصوصاً؟
ــ عايشت هذا النقاش منذ البداية، وهو كما نعلم، نقاش قومي عربي مع اليسار آنذاك. وهو تقريباً نقاش عقيم، وتقريباً لا وجود له في الثقافات الأخرى. أي أنه يستغفل القرّاء، ويدور حول أوهام. فقد عرفت آنذاك، وأرجو السماح لي بتأكيد ذلك - القطيعة هي التواصل - فلا توجد ثقافة تبدأ من الصفر. لهذا لم يعنِ لي هذا الأمر شيئاً، سوى أنه نكتة سمجة في نقاش ثقافي ضحل. ولا تقوم به إلا ثقافة استهلاكية سطحية، استقبلت كتابات كولن ويلسن وغيره، هذا السيد الذي لا يعني شيئاً كأنه قامة فكرية، هنا لبّ المعضلة. حين تركت العراق لم يكن في حقيبتي الصغيرة، إلا ديوان امرؤ القيس، لزوميات المعري، شرح ديوان الحلاج، كتاب «المواقف والمخاطبات» للنفري وعناوين أخرى. لاحقاً، سيتعمق هذا التواصل مع الشرق والغرب.
منع الكتب لا يمكن أن يختفي، طالما أنّ هناك هيمنة للمقدّس بكل أطيافه


كيف بدأت علاقتك بالكتاب؟ ومتى تولّدت فكرة إنشاء «منشورات الجمل»؟
ـــ في الأعوام الأولى في أوروبا، بين فرنسا وألمانيا، كنت على احتكاك مع المحاولات العراقية للنشر في الخارج، مجموعة مجلة «أصوات» التي كانت تصدر في بواتييه حول عبد الحسين الهنداوي، وكذلك مجموعة «الرغبة الإباحية» حول عبد القادر الجنابي... وحين رتبت إقامتي في ألمانيا بعد عام 1980، راودتني فكرة ترتيب مجلة أو دار نشر. لم تكن لدي فكرة واضحة أبداً عن كيفية النشر أو التحرير أو صناعة الكتاب، تماماً مثل بدايتي الشعرية، خبط عشواء! هنا بزغت فكرة نشر مجلة أو دار نشر باسم «الجمل»، المجلة لم تصدر. «منشورات الجمل للنشر والتوزيع» باليد، آلة كاتبة عربية، أما اللوغو، فقد وجدته في الشارع، هكذا في صفحات مجلة ممزوقة. أما الباقي فتفاصيل، كان هذا الأمر في خريف 1983.

قلت لي مرة، «منشورات الجمل» ليست «مطبعة»، كيف تحدد رؤية الدار وأهدافها؟
ــ بالتأكيد «منشورات الجمل» دار نشر، وليست وكيل مطبعة. أي أنه لديها مشاريع نشرية واضحة، وليست لنشر المخطوطات وقبض تكاليف نشرها من هذا المؤلف أو ذاك المترجم. أي أنها تعتمد أولاً الاختيار المسبق والتكليف والاتفاق. وبخصوص المخطوطات التي تصلها، فتدرس بعناية، ويتم إقرار نشرها من عدمه. بالطبع لا يمكننا نشر جميع المخطوطات الجيدة التي تصلنا، الناشر المحترف لديه برمجة سنوية وعلى ضوئها يطوّر برمجة المشروع النشري لديه، أما الباقي فهو تفاصيل.

تتصدر «منشورات الجمل» اليوم قائمة دور النشر العربية في صناعة الثقافة واختيار العناوين الجادّة والمميزة، كيف وصلت «منشورات الجمل» إلى الاحتراف؟
ــ «منشورات الجمل»، رغم آليات التأسيس العشوائية وانعدام الخبرة، فهي ولدت في ألمانيا، أي تأثّرت بمحيطها، وأعتقد أننا تعلمنا الكثير من تجارب النشر هناك، رغم تباين الخلفيات الثقافية والمجتمعية، الرقابة والصرامة، التزمّت الديني وتدنّي حضور النص الفلسفي في غالبية التعليم، الانحطاط الذي تعاني منه مستويات التعليم كافة من روضة الأطفال حتى الدراسات العليا. كل أسباب التخلف هذه، وربما كون الناشر هنا كاتباً وقارئاً في الدرجة الأولى، أمكنهُ الاختلاف عن الآخرين، من دون أن ننسى اليوم وجود دور نشر شبابية ممتازة، لا يمكنني إلا الافتخار بها.. صحيح أن النشر عملية تجارية بالدرجة الأولى، لكنه أيضاً عملية ثقافية بامتياز. المغامرون الشباب اليوم في عالم النشر العربي فرصة أساسية.

تنشر مروحة واسعة من العناوين العربية والمترجمة، ما هي معايير اختيار نشر هذه الكتب؟
ـــ الأمر بسيط، بعد حياة نشرية قاربت الأربعين عاماً، نعرف ما علينا نشره من التحقيقات التراثية العربية، وهي قائمة لا تكفي لها حياة واحدة أو ناشر واحد، فالأمر هنا يتعلق بمخزون هائل يحتاج إلى جهود العشرات من الناشرين، خصوصاً أنّ هذا المخزون التراثي يشكّل «موزاييك» مذهلاً لم نولِه ما يكفي من الاهتمام، بالإضافة إلى كتّاب الحاضر العربي اليوم.
قبل أن أكون ناشراً فأنا قارئ كتب، أتابع بشكل يومي ما يُنشر وما نُشر وما لم يُنشر، وهذا عالم رائع وله روادهُ الذين يتابعون ما نشرتهُ، فهم أيضاً أدلائي، من دون أن أطلب منهم ذلك.
من يعرف هذا، يعرف أيضاً أنّ أمامه أعمالاً هائلة تنتظر الترجمة، وما عليه إلا مواصلة العمل... العمر قصير.

تعاني الترجمة اليوم من اللغات الأجنبية إلى العربية من مشكلات متنوعة، من مهنيّة المترجم، وثقافته، والملكية الفكرية، ونظريات الترجمة المختلفة. ما هي برأيك معايير الترجمة المحترفة؟
ـــ المشكلة الأساسية هي انعدام المنهجيّة في الترجمة إلى العربية، فالقواميس فقيرة والخلط في المصطلحات هو الشائع، فكلّ مترجم أو ناشر أو مؤسسة حكومية ثقافية أو شبه حكومية يبدأ من الصفر، وبالتالي نضيّع مجهودنا في وضع البدايات، ولا نعرف حتى أهمية التراكم المعرفي الذي سوف يذلّل لنا مئات المشاكل في هذا المضمار.

قريباً سننتهي من أعمال نيتشه وأيضاً ستصدر رسائل شارل بودلير في ترجمة كاملة


خضت تجارب كبيرة في الترجمة من الألمانية إلى العربية، ومنحتك «الأكاديمية الألمانيّة للغة والأدب جائزة «فريدريتش غودورف» لعام 2021. ماذا علّمتك هذه التجربة ككاتب وناشر؟ وما هي أهمية هذه الجائزة تحديداً في مدّ الجسور بين الثقافتين الألمانية والعربية؟
ـــ معرفة أي لغة أخرى، هي إضافة، هي أيضاً مرآة للمقارنة، رؤية الذات بعين أخرى. لقد أنجزنا ترجمة أكثر من مئة عنوان من الكتب الألمانية، خلال ربع قرن، لكني أيضاً بشكل شخصيّ أسهمت في ترجمة العديد من الكتب الشعرية وبشكل خاص إلى الألمانية، وقد مُنحت هذه الجائزة تقديراً لجميع هذه النشاطات.

كيف تنظر إلى واقع الثقافة العربية اليوم، وهل تؤمن بنظريات «الموت»، من «موت الكتاب» و«موت الثقافة» و«موت الشعر» مثلاً؟
ـــ حينما وصلت إلى فرنسا عام 1978، كان هناك من يتحدث عن «موت الشعر» إلخ... هذه الأفكار تطفو دائماً حين يهيمن العجز. لا يولد الشعر العظيم يومياً، نحتاج لسنوات من الصبر والألم والفاقة، حتى تلد القصيدة والتي قد نحتاج أيضاً إلى أعوام أو قرون أخرى حتى نكتشف عظمتها. أعتقد أنه علينا الابتعاد عن القشور.

كيف تنظر لدور بيروت في الثقافة العربية اليوم، هل ما زالت برأيك مختبراً لكلّ النظريات الأدبية والشعرية، وهل من مركزية عربية ممكنة اليوم في إنتاج الثقافة؟
ــ الرؤية غير واضحة الآن. ليس في ما يخصّ بيروت فقط، إنما في ما يخص جميع المدن، فهي تعيش حالات مخاض لا تبدو أسبابه أو حتى نتائجه واضحة. كأنما تهيمن الرثاثة على حياتنا اليوم.

يُقال إن «منشورات الجمل» تتشدّد في نشر المجموعات الشعرية للشعراء الشباب خصوصاً، هل الأمر كذلك؟
ــ نحن ننشر للشاعر الذي لديه ما يقوله، الذي له صوتُه الخاص. ونحن خصّصنا لهذا السبب للشعر وترجمته جائزة باسم سركون بولص، ليس فقط تقديراً لشخص سركون بولص شاعراً ومترجماً، لكن أيضاً من أجل دعم الشعر والترجمة.

خصّصت الدار جائزة باسم سركون بولص. كيف تصف علاقتك بسركون؟ وكيف نشأت فكرة الجائزة؟ وهل من كتب غير منشورة أو مذكّرات معه ستصدر قريباً.
ــ قبل أن أتواصل معه أو ألتقيه، كان سركون بولص بمثابة المعلم. الإقامة المشتركة لأعوام كانت أعواماً ثريّة بالنسبة لي، تجربته مختلفة جداً، وأعتقد أنه عرف ماهية الشعر مبكراً، لكنّه رغم شهرته خلال حياته، لم تعرف كتبه الانتشار، إلّا بعد وفاته في برلين. لكأن وفاته كانت ولادة. توجد بعض الكتابات القليلة له التي لم تُنشر ومن ضمنها رسائله، هناك رسائله إلى أدونيس وإلى يوسف الخال، لم أستطِع الحصول على نسخ منها حتى الآن.


هل ما زال من كتاب «ممنوع» في العالم العربي؟ وهل من رقابة على بعض معارض الكتب؟
ـــ المنع لا يمكن أن يختفي، طالما أنّ هناك هيمنة للمقدّس بكلّ أطيافه. ففي معرض بغداد الأخير (2021) مثلاً، حضر موظّفو الرقابة من وزارة الثقافة العراقية مرات عدة من أجل مراقبة كتب تتناول تاريخ العراق الحديث في زمن صدام بحجّة أنه يمكن أن تكون هذه الكتب لتجميل صورة صدام حسين ونظامه. وبالطبع من ضمنها كتب الروائي والمثقف العراقي سلام عبود: «ثقافة العنف في العراق»، و«من يصنع الديكتاتور»، «صدام نموذجاً»... أو كتب أخرى مترجمة عن لغات أخرى حول عراق صدام حسين... والآن «منشورات الجمل» ممنوعة من الاشتراك في معرض عمان في دورته الحالية لأسباب نجهلها، وهي في القائمة السوداء في معرض الكويت... معرض الكويت هذا خلال إحدى دوراته السابقة، اقترح اتّحاد الناشرين العرب إقامة دورات تثقيفية لموظّفي الرقابة فيه... وعلينا أن نتخيل أبعاد المشكلة.

أعادت «منشورات الجمل» ترجمة «البحث عن الزمن المفقود» لبروست. أي شيء يميّز هذه الترجمة؟ وهل من مشاريع ترجمة كبيرة مماثلة؟
ـــ ما يميزها هو أنها قدمت بشكل جيد ككتاب مقروء ومريح للعين، أيضاً أعاد الأستاذ جمال شحيد إلقاء النظر في الكثير من المعضلات في الترجمة المنشورة سابقاً. قريباً سننتهي من أعمال نيتشه وأيضاً نحن نمضي في ترتيب أعمال سيوران، كذلك ستصدر رسائل شارل بودلير في ترجمة كاملة... وعسى آدم فتحي لا يخلف وعده لنا في انجاز ترجمة جديدة لشعره... فتقريباً جميع الترجمات الموجودة اليوم لأعمال بودلير الشعرية لا يمكن اعتمادها.

تغيب في كل سنة في عزلة في جبل صنين، وخضت تجربة في المنفى، هل المنفى والعزلة شرطان وجوديان للشاعر؟
ـــ المنفى قدر الشاعر أحياناً، لكنه أمر اضطراري. أما العزلة فهي كما أعتقد أمر مطلوب، كنت في ألمانيا أطلب العزلة فيما أجلس في المقهى وأشتغل. الأمر في بيروت شبه مستحيل. هنا أضحت حتى العُزلة في البيت غير ممكنة، فالضجيج يلاحقك ليلاً نهاراً حتى وأنت تحاول أن تنام. لهذا لا بدّ من عزلة في الجبل.