قبل سنة تقريباً قرّرت أن أكون شيئاً، شيئاً أقصد: مادّة ملموسة، أي شيء عدا أن أكون بشراً. أودّ أن أكون جذع شجرة. لكن هذا لا يعني أني نسيت موتاتي الثلاث، إذ لا يمكن لأيّ إنسان أن ينسى موتاته. متُ ثلاث مرات.
جدعون روبان: أوجه بلا ملامح (زيت على قماش، 2019).

حدثت أوّلها في التاسع من ديسمبر، كنّا على قمة جبلٍ وكان أحد الأصدقاء معي. كانت رحلة سياحية لأهم الجبال في تلك المنطقة، حيث كان الطلّاب يجرّون أقدامهم ليرتفعوا عن الأرض. لا أعرف الشعور الذي الْتَبَسَنَا ونحن نضحك ونصفّق في أن نرتفع عن الأرض. لم ندرك أن الارتفاع يعادل السقوط ولكن وبرغبة كبيرة وطئنا التلال وتجاوزنا الصخور الرمادية. متخللين العشب والأشواك الحادة، وكعادة السعادة التي تغمر المرء تجعله يتفوّق بتصرفاته غباوةً. رفع صديقي يدهُ كما لو أنهُ يبسط جناحيه مثل نسر. وقال بصوت عالٍ :
— هي.. هي.. انتبهوا إلي. عندها رفعت رأسي.
— أنزل جناحيك يا ولد. وضحكت، ثم التفتُ إلى بقية الأطفال، أنا طفل مثلهم، لا يعني أن أقول أطفال أنني كبير. وبصرخة مدوية ملأت المحيط، تناهت الصرخة شيئاً فشيئاً، وصوت اصطدامه بالصخور جعلني أمسك أضلعي، إذ كففت عن الإحساس بها. ارتخى رأسه جانباً بين الصخور، وبصم بدمه عليها. عندها أمسكونا من أيدينا وأصرّوا على أن نرجع إلى الحافلة. وأخذوا جسد الطفل. ولكني كنتُ أشاهده دوماً وهو فاردٌ جناحيه على أي مرتفع يصير أمامي.
متُ في الثاني من شهر أيلول تحديداً الساعة التاسعة صباحاً، طرق ساعي البريد الباب وترك الرسالة، حملتها فوراً وفتحتها وكان فيها الآتي: «إلى العم فخري يؤسفني أن أنقل لك هذا الخبر، أن ابنك توفّى اليوم في حادث سير». المرسل: ديفيد صديق ولدك.
حملت الورقة وارتكنت وشرعت بالبكاء، استحضر خيالي صورة الولد وهو مطروح بالشارع. بكيت لنصف ساعة، أفرغت فيها مخزون الدموع كلها. ولكن، أنا لست العم فخري ولا حتى أبوه اسمهُ بهذا الاسم. ولا أي فرد من العائلة! صحيح أن الرسالة جاءت بالخطأ، ولكن بكيت بعين العم فخري الذي لا أعرف من هو.
متُ في التاسع من أيار، كنت في السينما أشاهد فيلم طرزان، بتصوير وإنتاج جديد. كان طفلاً يجلس بالقرب مني وبجانبه والدهُ، أقول طفلاً لأني في ذلك الوقت كنتُ كبيراً. كبيراً بالموتات لا بالعمر. كان الطفل يصرخ بعناد وفرح، يريد أن يمسك بطرزان وهو يقفز من شجرة إلى أخرى بواسطة الحبال، صحيحٌ أن صوتهُ كان ناعماً ممّا جعل البقية يتعاطفون معهُ. ولكن، لم يدم ذلك طويلاً، إذ ضربه والدهُ بكف طبع سبابتهُ في منتصف خده. مما جعل الطفل يصمت طويلاً، كنت أسمع فقط شهقات بكائه، وهو يمسح بطرف قميصه تلك الدموع النّقية. لم أنتبه إلى الفيلم بعد، بقدر ما كنتُ مشغولاً بالطفل. ناولته المنديل خلسة، سحبه مني وكانت نظرتهُ مكسورة للغاية. لمعان عينه وانكماش ملامحه أثارا فيَّ رغبة في البكاء معه.
الموتة الرابعة لم تأتِ بعد. أنا الآن جذع شجرة.
لا أنتظر الفأس...
* بغداد/العراق