ليست «الهروب من الذاكرة» مثل سابقتها، ثلاثية الإسكندرية (1996، 2000، 2013)، التي تطلّبت من إبراهيم عبد المجيد (1947) 15 عاماً لكتابتها. ثلاثيّته الجديدة التي صدرت في كتاب واحد عن «منشورات المتوسّط» ضمن فعاليات الدورة 52 لـ «معرض القاهرة الدولي للكتاب» أخيراً ، تعيد الروائي المصري بعد عام على نشر روايته الأخيرة «العابرة» التي تنقّلت بين هويّتين جندريتين للبطل/ البطلة. بعدما لبث سرديّاً لسنوات في مدينته الإسكندريّة، متجوّلاً بين أزمنتها وحكاياتها، رجع عبد المجيد إلى القاهرة كتابةً، وتحديداً إلى ميدان التحرير الذي سجّل فيه يوميات الشبان والثوّار في كتابه «لكل أرض ميلاد ــ أيام التحرير» (2011) ثم تبعتها روايات عدّة ظلّت تقيم في العاصمة المصريّة.هذه المرّة يبني فصول ثلاثيّته بين القاهرة والصحراء. غير أن هذين المكانين، تسوّرهما جدران السجن، وذاكرته المثقلة. تضمّ «الهروب من الذاكرة» ثلاثة عناوين فرعيّة هي «العائد إلى البيت في المساء»، و«طريقان للهروب»، و«لأن في الدنيا نساء»، هي أشبه بروايات قصيرة منفردة، تترابط فيما بينها بوقائع غرائبية. الروائي والقاصّ الذي دأب على تفتيت رواياته إلى ما يشبه القصص القصيرة، أي الخلفية التي جاء منها، يتتبّع بطله بعدما يتعرّض إلى السجن عن طريق الخطأ. تبدو أحداث الرواية محاكاة درامية وخيالية، للتجربة الجماعية للسجون في مصر، إلّا أن ثمّة ملامح مستلهمة من تجربة الكاتب الفرديّة مع السجن. ذات ليلة من شتاء سنة 1985، اعتُقل عبد المجيد مع كتّاب آخرين بسبب احتجاجهم على مشاركة إسرائيل في المعرض الصناعي الزراعي. يتخلّى عبد المجيد عن الطرق التقريرية في الكتابة عن القضايا السياسيّة في بلاده. لا بدّ للخيال أن يخرج ببدائل واستعارات سرديّة عن حال البلدان العربية ومصر. أسلوب اتّبعه عبد المجيد منذ ابتعاده عن الأحزاب الشيوعيّة السريّة بداية الثمانينيات التي كان قد انخرط فيها، مستبدلاً الأيديولوجيا بالفانتازيا. هناك شهداء في رواياته، لكنهم شهداء لا يستسلمون لمصيرهم تماماً. يستفيقون من موتهم ليملأوا الجدران بالغرافيتي كما في روايته «قبل أن أنسى أنني كنت هنا» (2018). كذلك في رواية «قطط العام الفائت» (2017) التي أصدرها بالتزامن مع ذكرى ثورة يناير. نزل حينها إلى الميدان، ليجعل من أبطال قصّته قططاً تهدّد الأمن، وحاكم بلاد «لاوند». وبالعودة إلى ثلاثيّته الأحدث، فإنّ عبد المجيد يلجأ إلى سرد غرائبي يخلخل المسلّمات وسطوة الواقع على السواء، فيمنح أبطاله سبلًا عدّة للتخلّص من ذكرى الأيام المثقلة في السجن. يخوض في الحالات النفسية التي تتمكّن من المساجين حتى بعد انقضاء تجربة الاعتقال مثل عقدة ستوكهولم التي تخلق شعوراً بتعلّق السجين بسجّانه. وأمام الخيارات الكثيرة التي تتراءى للبطل، يجد طريقته المثلى للتخفّف من ذاكرته بالإقدام على مشروع بناء منزل يصله بالسماء، التي تبدو أبعد من أيّ وقت مضى.