داخل المشهد القصصي المغربي، يبرز اسم الكاتبة لطيفة لبصير (الدار البيضاء ــــ 1965)، كأبرز الكاتبات المخلصات لفنّ القصّة في المغرب. فقد قادها شغفها لهذا الجنس الأدبي المُهمّش عربياً اليوم، إلى أنْ تغدو من الأصوات النسائية التي تكتب بوعي القصة القصيرة، بما يتماشى مع ظروف وسياقات ومعارف كتابة القصّة المعاصرة في العالم. القارئ لأعمالها الأدبيّة، لا يشعر بأيّ تشنّج أدبيّ على مستوى الرطانة اللغوية أو نوع من التقليد أو هشاشة أسلوبها أو ضعف مُخيّلتها الإبداعية، بل لا يلبث القارئ أنْ يجد نفسه أمام كتابة قصصيّة عَالمة يُوجّهها التّرحال الأدبي وشغف الجسد وتنحتها المعارف والفنون والنظريات. إذْ يصدم القارئ بسيل من الأدباء وهوامشهم وعلماء النفس ومعارفهم، بما يجعل الكتابة القصصية فنّاً للتجريب ومختبراً لإقامة نوع من كتابة قصصية، لا تتوقّف عند الاستيهامات والانطباعات والمشاعر والأحاسيس، بل تتنطّع لتغدو كتابة مُتخيّلة قريبة من الفكر وعوالمه المجرّدة مع الحفاظ على حدود اللغة والرؤية والإبداع، لكن على علاقة تماس معه على مستوى التفكير، كما تُطالعنا مجموعة «عناق» حيث تُصبح الكتابة كأنّها إزميل ينحت تضاريس النفس البشرية، وهي تتوغّل في سراديب الشخصيات وأجسادها وتكشف لنا بطريقة خيالية/ واقعية عن ذلك الجرح السرّي (القلق) الذي ينخر أجساد الناس. إنّها بطريقة ما تتماهى أنطولوجياً مع سيرة الآخرين، لا لتنقل لنا قصصهم وحكاياتهم، بل لتُشاركهم حميميتهم وبؤسهم وشقاءهم. بعيداً عن ابتذال السوشال ميديا، ترسم لطيفة لبصير نموذجاً للمرأة المغربيّة الناجحة والمثقّفة والأكثر حداثة على مستوى تفاعلها مع الكتابة، قصّة وبحثاً ونقداً عبر جملة من المؤلّفات نذكر منها: «عناق»، «يحدث في تلك الغرفة»، «رغبة فقط»، «الجنس الملتبس: السيرة الذاتية النسائية»، «الحياة تحاكي الإبداع». في مناسبة صدور مجموعتها القصصية الجديدة «كوفيد الصغير» (2021) ضمن منشورات «المركز الثقافي للكتاب»، كان لـ «الأخبار» هذا الحوار الخاصّ معها:
لطيفة لبصير: الكتابة عن فيروس كورونا هو تأريخ للحدث وللذات في هذا الزمن تحديداً

أوّلاً، ما الدوافع المعرفية والنفسية، التي جعلتك تغوصين هذه المرّة في جحيم كورونا من خلال مجموعتك القصصية الجديدة، التي صدرت أخيراً بعنوان «كوفيد الصغير» (2021)؟
ــ لا شك في أننا عشنا تجربة جديدة غير مسبوقة ومرعبة، إضافة إلى أنها مليئة بانفعالات متناقضة في كثير من الأحيان. فكان من الطبيعي أن ينتج عنها فعل الكتابة الذي لم أفكر فيه أبداً ولم أبرمج له، بل على العكس أحسست بكل تلك المشاعر النفسية تتداخل مع الكثير من البرامج التوعوية والإشاعات والعلم والسخرية والسفسطة والغرابة، وقد أصبحت محوراً يتشكل بلاوعي مني كي يدخل عالم الأدب. كنت ذاهبة للكتابة مثل الذاهب إلى لقاح ناجع سينقذني من الوباء، وكنت أكتب هذا العمل ليلاً ونهاراً من دون انقطاع كأنني أداري به كل ما يحدث.

هل ترين أنّ الكتابة القصصية الآن، قادرة على ترميم ذلك الخراب الكبير، الذي تسبّب فيه فيروس كورونا لأكثر من سنة على أجسادنا ونفوسنا وحياتنا اليومية الطبيعية؟
ــ الإبداع عموماً هو ترميم للذات قبل الآخرين. فحين كنت أكتب، لم أكن أفكر في الآخر الذي سيقرأ أو يتفاعل مع النص، بل كنت أعيش سياقاً محموماً أستيقظ منه في كل يوم بأخبار متكاثفة عبر العالم، ولذا كنت أكتب تحت الضغط لمقاومة الكثير من الأحاسيس أصعبها على الإطلاق هذا التأثير للموت الجماعي الذي يتربّص بنا وبالعالم.
حين كتبت العمل، لم يكن لديّ أي نوايا على الإطلاق، بل هو كتب باندفاع غريب في لحظته كما عشت الكثير من الأشياء الظرفية منها مرض الأقارب والأصدقاء بهذا الفيروس، وهذا كان له أثر كبير على النفس. ولا أخفيك بأنني كنت كأنني أعالج نفسي من السقوط في الهاوية بفعل الكتابة. أما تأثير ما كتبته على الآخرين، فالقارئ هو الذي يمكن أن يجيب عن هذا السؤال.

منذ بداية كوفيد توالت الكتب، التي تناولت الفيروس بالدرس الفكري والسوسيولوجي، إلّا أنّ الكتابات القصصية في العالم العربي بقيت قليلة جداً يطبعها نوع من التوجّس. في نظرك، ما حدود الاختلاف الإيبستمولوجي، بين الكتابة التقريرية وصرامتها ونظيرتها الأدبية التي تجعل من سيرة المتخيّل موطناً لها؟
ــــ فيروس كورونا يمكن أن يُنظر إليه من خلال مقاربات عدة ومختلفة، منها الإبداع الأدبي، وهذا الأخير هو أيضاً وثيقة هامة للتاريخ، لأن الكتابة عن الفيروس أولاً، هو تأريخ للحدث وللذات في هذا الزمن تحديداً، وتأريخ لكل الأشياء التي مرّت بدءاً بما حدث في العالم من ارتباكات غريبة لم نعتَد عليها مثل قتل شرطي لمواطن أسود في أميركا، مثل الصراع على شراء البضائع وتكديسها في المنزل والمشاحنات اليومية والانتظارات الطويلة في الطوابير وشراء الكمامات والتباعد الاجتماعي واختبار كوفيد والحجر الصحي والدراسة عن بعد والوضع الصحي وانتظارات طويلة في المستشفيات والخوف من عدم وجود سرير، واكتشافنا أننا لا نستطيع إنتاج لقاح، وأننا ننتظر الآخر كالمتفرجين من أجل إنقاذنا... الأمر يشبه كابوساً لم نعتَد على عيشه. لذا كان للإبداع أن يقول كلمة أخرى ليست تكراراً لما عشناه، ولكنه يعيد التأمّل في كل هذه الأشياء التي تبدو واقعية في مظهرها في حين هي أيضاً قابلة للتنسيب في كل الأوقات. والإبداع هو أكبر المواطن قوة في الحديث عن الوباء، لأن الكثير من المقاربات كانت تنتظر أن تأخذ المسافة كي تتحدث عن الحالة، ولكن الإبداع هو حالة ظرفية يمكن أن ينشأ من دقيقة مرتبكة أو إحساس عابر أو انتظار مميت... لذا فالمسافة غير مطلوبة، إنه استجابة أكثر منه موقفاً، وهو اهتزاز لا يقبل المنطق ولا الحقيقة أيضاً.
المبالغة التي صاحبت الاهتمام بالرواية أثّرت على جمالية هذا الجنس الأدبي


انطلاقاً من تجربتك الشخصية كقاصّة، كيف عشت مسار كتابة المجموعة واقعياً ومتخيّلاً؟
ــــ لا أدري من أين حضرت الكثير من الشخصيات التي كتبت عنها. كل ما أعرفه أن هذه الشخصيات بعينها جاءت نتيجة انفعال ظرفي عشناه وتشكّلت. مثلاً قصة «إيماءة» هي قصة تتحدث عن شابة اسمها مي عاشت عمرها كله بجسد يعاني من إعاقة معينة بمشية معوجة وهمهمة في الصوت، بحيث لا تستطيع أن تتحدث مع أمها وأختها اللتين تشتغلان طيلة الوقت وهما بمثابة الوجه القوي للأسرة. لكن يحدث أن أصيبت الأم والبنت جراء الخوف من الوباء بانتكاسة نفسية وأصبحتا غير قادرتين على العمل. آنذاك يحدث شيء غريب هو أن مي ستأخذ زمام الأمور وتتقوى عضلاتها وتنطق وتشرع في العمل في المنزل واقتناء المشتريات كأن الأمور عُكست بشكل ميكانيكي، وهذا حدث للكثير من الأشخاص الذين غيّروا المواقع من إيجابي إلى سلبي أو العكس... هي أشياء فعلاً تدعو إلى التأمل، والأهم أيضاً أن تكون تلقائية في عملية الكتابة ومقنعة. لا أخفي عليك أن الكثير من الشخصيات التاريخية والأدبية استحضرتها في هذا العالم القصصي مثل شخصية أبي حيان التوحيدي الذي سيزور كاتباً في محنة كورونا يريد أن يرمي بكتبه إلى الجحيم لإحساسه بعدم جدوى الكتابة والأدب. وهو سؤال يطرح نفسه باستمرار، لكنه غدا أكثر أهمية حين داهمنا الوباء واتجه الجميع إلى دور العلم والصحة، إضافة إلى استلهام أساطير عدة مثل للاميمونة ومولاي بوسلهام وكلها استعادها الوباء من خلال ما حدث في بؤرة للاميمونة.

تعرّف إليكِ القارئ في المغرب ككاتبة قصّة وبعدها كباحثة وأكاديميّة ثم ناقدة أدبية. كيف تعيشين هذا التعدد المعرفي في ذاتك، قبل الشروع في فعل الكتابة أدباً أو نقداً؟
ـــ فعلاً هو مجال متعدّد، ومن الطبيعي أن يهيمن اختيار على الآخر، فأنا يجرّني الإبداع في كثير من الأحيان، وأنساق له ثم آتيه، ولكنني لم أستطِع أن أتجاهل التكوين الأكاديمي الذي لا يخلو هو أيضاً من متعة ومن رغبة في التنقيب، والأمر ليس سهلاً أيضاً لأنّ التكوين الأكاديمي هو أيضاً يأخذ وقتاً طويلاً، فقد حصلت على دبلوم الدراسات العليا سنة 1996 في أعمال غالب هلسا، وقد أخذ مني وقتاً طويلاً. ثم عدت في ما بعد وحصلت على دكتوراه الدولة في السيرة الذاتية النسائية وبدأت انشغالاتي في هذا الشأن، ولا أخفيك أن التحصيل الأكاديمي هو مجهود يتطلّب سنوات من المثابرة والاجتهاد والاطلاع على الجديد، وهذا ليس بالأمر السهل، وفي كثير من الأحيان يتصارع بداخلي العالمان لصالح أحدهما.

من المعلوم أنّ الذين يكتبون الأدب عادة ما تنطبع أبحاثهم العلمية بنوع من الكتابة، قد تكون مقبولة داخل الصحافة، لكنّ جحافل المختبرات العلمية داخل الجامعات في العالم العربي، يعتبرون أنّ ذلك يُؤثّر على خصوصية الكتابة النقدية وصرامتها و«علميتها». كيف تنظرين إلى هذه المسألة، خاصّة أنّك تكتبين القصة القصيرة؟
ــــ لكل عالم أدواته ومفاهيمه الخاصة، فالإبداع أيضاً لا يتجزأ من العملية النقدية، والنظريات يمكن أيضاً أن تساعد على إضاءة الإبداع بشكل ما. صحيح أن العالمين يضمران نوعاً من التمييز، لكن قراءة المناهج النقدية ودراستها تساعدان أيضاً على فهم النصوص الأدبية، وفي بعض الأحيان تجد بأن الكثير من المفاهيم تسكننا من دون أن ندرك ذلك. بالنسبة إلى العالم الصحافي يمكن أن يؤثر إذا كان المشتغل في هذا الحقل مأخوذاً به من دون دراسة النقد وقراءته. أما إذا كان يشتغل بشكل متوازن، فلا أظنه سيؤثر على مساره، ثم إن العمل الصحافي أيضاً يعلّمنا بأنّ الكثير من الالتباسات ينبغي أن يزول ونحن نكتب الأعمال النقدية حتى لا نغرق في أعمال لا مفاتيح لها.

هل تعتقدين أنّ الأدب المغربي اليوم قادر على تجديد نفسه من الداخل، أمام الرداءة الأدبية التي أضحت منتشرة داخل وسائل التواصل الاجتماعي، بالمقارنة بماضي الثقافة المغربيّة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم؟
ـــ العالم كله اليوم يعاني من أثر ما يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي ودور المؤثرين وأهميتهم في تغيير المحيط. أنا أعتبر أن دور الأدب أيضاً يدخل في هذا السياق. هل يمكن القول الآن بأنني لا أعيش هذا السياق العالمي؟ أبداً، فأنا أعيشه، لأنني بالإضافة إلى أنني كائن يكتب الإبداع، أنصت أيضاً لنبض المجتمع بكل علمه ومعرفته وترهاته وشائعاته وأفكاره الغريبة والشاذة والمألوفة وغير المألوفة، لأنني لا يمكن أن أقول بأنني أكتب في سياق لا يعيش كل هذه الأشياء، والرداءة أضحت جزءاً من الحياة اليومية وجزءاً من السياق الاجتماعي العالمي، تشبه الموضة وتشبه عصر التجميل وانتفاخ الشفاه وتغيير الجنس، وتشبه العصر الذي يتم فيه التأمين على المؤخرات والصدور والوجه والقدمين ويشبه أيضاً الهاشتاغ الذي يصبح عالمياً أو رمي قنينة مشروب من طرف لاعب عالمي يمكن أن يحدث ارتباكاً في الأسهم أو في سعر الدولار إلى غيرها.
نحن في سياق مختلف والذي يدعي غير ذلك، يكون كمَن يدفن رأسه في الرمال. صحيح أنني في كثير من الأحيان أُصاب بالأسى حين أشعر بأن أشخاصاً لا يبذلون أي مجهود علمي أو معرفي وليست لديهم أي موهبة، عدا الشوشرة في مواقع التواصل الاجتماعي، ومع ذلك يحظون بالأهمية ويصبحون في مراتب عليا، لكنني لا أستطيع أن أنسى أنني قمت بهذا الاختيار لأسباب عدة وبأنني أشعر بارتياح وأنا في فعل الكتابة.

في مجموعتك القصصية «عناق»، نصطدم بتواشج خفيّ على مستوى التخييل، بحيث يشعر القارئ كأنّ الكاتبة تُقحمنا في سلسلة من النظريات النفسية الغربية من خلال فرويد ولاكان وغيرهما. هل تعتقدين أنّ القصة القصيرة في المغرب، قد وصلت إلى هذه المرحلة المعرفية، التي تتماهى فيها مع التراث الفلسفي وعلم النفس والأنثروبولوجيا لاجتراح نصّ أدبي مضمخ بالتفكير المجرّد؟
ـــ «عناق» هي عالم يشبه الكثير مما نعيشه في النفس وفي المعرفة والتجربة والتقاط التفاصيل والوجوه التي تغيب والتي عبرت حياتنا، مخلّفةً بعض اللحظات الجميلة أو السيئة. هي عناق لكل تلك النوازع اللامرئية التي تحفر في الداخل وتترك وشمها في مكان ما، وأنا جزء منها والمعرفة جزء من العمل، ولم أكن لأبحث عنه لأنه كان ثاوياً في أعماق انشغالاتي وأبحاثي واختلط مع تفاصيل الشخصيات. وأنا أرى أن العمل يمكن أن يُقرأ بأبعاد مختلفة لأنه هو الآخر يقدّم معرفة بشكل ما، وهي لم تكن تفكيراً مجرّداً، لأن الكثير من الشخصيات لها مرجعيات نفسية وواقعية ورمزية وذهنية إلى غيرها. والأدب يمكن أن يقدّم رؤية أيضاً تختلف عن محيطه بشكل ما، لأنه هو أيضاً يطرق أرضاً غريبة لم تطرق بعد وهذا هو الأهم دون افتعال.

ما يُثيرني حقيقة في «عناق» التي قرأتها منذ سنوات، هو تلك الشرارة الخفيّة والمُتوهّجة من الألم، التي تستبد بأجسادنا ونحن نصطدم بشخصيات المجموعة في سيرها وحكاياتها وقصصها ومعاناتها. هل تعتقدين أنّ النصّ القصصي والأدبي عموماً له القدرة على رتق هشاشة الكائن المفرطة كمُحاولة للقبض على شرطنا الإنساني الهارب داخل أوطاننا العربيّة؟
ـ «عناق» هي أيضاً اللاعناق لأن الكثير من الروابط تمزقت ومن الصعب رتق ما انفتق، لكن أيضاً حين نجترح هذا الفعل الكتابي، فنحن نعيد لتاريخ الفرد بعض ملامحه التي ضاعت وهو يريد أن يعيش بسلام مثل الكثير من العوالم التي تاهت عنا في هذا العالم الشاسع الذي أصبحت فيه كل القيم عابرة.

العالم كله اليوم يعاني من أثر ما يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي ودور المؤثرين وأهميتهم والأدب ليس في منأى عن ذلك


يغلب على مجموعتك القصصية «يحدث في تلك الغرفة» البعد الحدثي الذي يجعل من النصّ عموماً سلسلة أحداث تدور في 12 غرفة، بتعدّد شخصياتها وقصصها، ولا أخفيك أنّ هذه الطريقة في نسج القصّة تأخذ أبعاداً تقريرية داخل بعض المجموعات المغربيّة، وهو أمرٌ يبدو مغايراً في قصصك. كيف تستطيع لطيفة لبصير وداخل أمكنة صغيرة ومحدّدة بلورة فضاء تخييلي يخرج الكتابة من تقريريتها والعبارة من ضيقها صوب فضاءات أخرى أكثر تخييلاً وحلماً؟
ـــ في هذه المجموعة تحديداً، تحدث أشياء قال عنها القراء بأنها أغرب من الخيال، في حين نحن نرى الآن أن الوباء أغرب من الواقع. كانت غرف المجموعة نوازع نفسية غريبة بالفعل على الكثير من القراء، لكنني كنت راغبة في الاشتغال على كتابة من هذا النوع يكون فيها الإنصات للنفس وارتيابها بشكل أكبر، وهو ما جعلها حدثاً يحدث في ضفة أخرى كأنه يحدث في عالم سوريالي، لكنه في العمق يشبه داخلنا الذي ينشطر حتى يصبح أغرب من السوريالية.

صدرت لك قبل أسابيع قليلة دراسة نقدية جديدة بعنوان «الحياة تحاكي الإبداع». أوّلاً، ما الذي يعني لك اليوم كأكاديميّة هذه المرّة النقد الأدبي، في وقت أصبح فيه النقد إما تأكيداً أو نفياً بالمفهوم النيتشوي لمجمل النصوص الأدبيّة العربيّة؟
ـــ أولاً هذا الكتاب هو أصلاً يتحدث عن محور أساسي تتفرع عنه محاور جزئية، منها أن الكثير من الإبداعات العالمية سواء فنية أو أدبية أو فلسفية بُنيت على كونها استعادة للسلالة القديمة المنسية في حياة الإنسان. كما أنها يمكن أن تأتي كنتاج لاستباق قسري لما يحدث بعدياً في الواقع، وهذه هي الغرابة، فالكثير من الأحداث التي تتزاحم في النص الأدبي قد يعيشها الكاتب بعدياً مثل رؤيته لشخصيات كتب عنها سابقاً ثم اكتشف بأنها تمشي على الأرض، والعلاقة في هذا الصدد تكمن في أن الكثير من مصادر هذا التشابه يكمن في النسب البعيد الذي أنتج هذه التشابهات في الكائنات وفي المتخيّلات وفي الأحاسيس وحتى في العيش... أسئلة تعيد تدوير الكثير من الحقائق التي تبدو منطقية، إلا أن منطقها مختلّ وفي حاجة إلى تدوير.

ثمّة لغة متكرّرة وخطاب نقدي واحد، يكاد يطبع النقد المغربي في الآونة الأخيرة، باستثناء كتابات قليلة مُجتهدة، تُحاول أنْ تفتح النصّ النقدي على علوم إنسانية واجتماعية وضخّ دماء جديدة في شرايينه بمناهج وأفكار ورؤى، تجعل الكتابة النقدية تتنطّع لأنْ تغدو فكراً. كيف تتعامل لطيفة لبصير كأستاذة الأدب العربي، مع التيارات ومدارس النقد الحديثة لإسقاطها على أعمال أدبية، ولكن للاشتغال بها كأدوات للتخيل والمُعاينة؟
ــ هناك اشتغال نقدي في المغرب والكثير من الأسماء رسخت أقدامها حتى نكون منصفين، وأرى بأن النقاد المغاربة أصبحوا متميزين جداً في الحقل النقدي. هناك طبعاً بعض الأسماء التي تكرّر نفسها باستمرار من دون جديد، لكن التاريخ رغم كل ذلك ذكي وله الحكم النهائي في حسم هذا الأمر. هناك طبعاً نقد المحاباة والأصدقاء الذين يمجّدون أعمالاً لا قيمة لها، ولكن هذا لن يستمر طويلاً لأنه رهن بظروف معيّنة يعرفها أصحاب الشأن فقط، وهو الذي جعل بعض المقدمات النظرية تكون جاهزة لقراءة كل الأعمال بنفس الطريقة حتى كأنها توضع داخل نسخ مستعاد. أما في ما يخصّ عملية إسقاط المناهج النظرية على النصوص، فهذا هو الخطأ الكبير، لأن العملية ليست بهذه الصورة، فأنا كدارسة للعديد من النظريات والمفاهيم لا أطبّقها بشكل آلي على النصوص، بل العكس ينبغي للعمل الأدبي أن يفرض عليّ الرؤية والتصوّر والمنهج، وأنا أصل إلى هذه النتيجة من خلال العمل الأدبي، فلا يمكن لنص أدبي مثلاً لا يتطلب رؤية تحليلية نفسية أن أقحم عليه مفاهيم نظرية أكبر منه لأنني سأنتهي في الأخير بحزمة من المفاهيم التي باشرت بها النص وسيظل النص بكراً لم يخترق البتة. أما حين أقرؤه تلقائياً وأعتمد بعض المفاهيم التي يمكن أن تقاربه أو تتفاعل مع بنياته، فحتماً سأصل إلى نتائج مهمة وإلى إضافة إلى العمل الأدبي. فالقارئ الناقد يضيف أشياء كثيرة إلى النص الأدبي، مع العلم أن النص الأدبي هو دوماً أكبر من المنهج.

بما أنّك تشتغلين كأكاديميّة، كيف تنظرين اليوم إلى تضخّم النقد الأدبي حول الرواية، بالمقارنة مع الكتابة القصصية، التي تزداد غربة وتوحّداً داخل الجامعة؟
ـــ أظن أن الأمر فيه نوع من المبالغة التي أساءت للنص الروائي، لأن القصة القصيرة والشعر والمسرح أجناس أدبية على قدر من الأهمية مثلها مثل النص الروائي. المبالغة التي صاحبت الاهتمام بالرواية أو بالأحرى الجوائز أثرت على جمالية هذا الجنس الأدبي. فنحن أمام تراكم ضخم محكوم بعدم الجودة والتسرع في الكتابة واللحاق بركب الجوائز وهي ظاهرة غير صحية، فالكثير من الأعمال التي تكون مرشحة، نُفاجأ بمستواها العادي تماماً. بل هي لا تحتفظ بأيّ أثر بعد الجائزة إلا البعض طبعاً. والأدب أيضاً يدخل هذه المغامرة التي تبدأ بالعناوين الكبرى: هذا زمن الرواية... الرواية ملحمة العصر... الرواية هي العصر الذهبي... أعتقد أن الأمر لو تُرك في طابعه العادي، لازدهرت جميع الأجناس الأدبية من دون هذا الانفعال المتزايد والمبالغ فيه الذي يسيء إلى الأدب.