في تكثيف للزمن والحبكة الروائيَّيْن، ينسج الروائي الإيطالي جِزوالدو بوفالينو (1920-1996) رائعتَه «أكاذيب اللَّيل» حولَ اللَّيلة الأخيرة لأربعة سجناء حُكِمَ عليهم بالإعدام. تمَّ ضغط الأحداث إلى أقصى حدّ في زَمَكانٍ مقيَّدٍ في زنزانةٍ على جزيرةٍ منسيَّةٍ خلال ثماني ساعاتٍ ليليَّةٍ، هي كل ما تبقى لهم، قبلَ الإعدام المحدَّد بُعَيدَ الفجر. لا يكتفي الكاتب بسرد هذه الأحداث فحسب، وإنما يقرنها بحمولة فكرية، فلسفية، من خلال الاستفهام التقليدي والضارب في القِدَم حول ماهية وجودنا، مُقَدِّماً ريباتِهِ على لسان ضِعْفِهِ الروائي: شخصية كونسالڤو دي ريتيس. يغترف هذا النص من متون مهمة في التراث السرديّ العالمي: «ألف ليلةٍ وليلة» و«الدِّيكاميرون» معاً، ويبقى رغم ذلك أهم روايات بوفالينو فرادةً، بتنويعاته السَّردية وسبر غور الشَّخصيَّات، عبر تقديم پروفايل نَفسيّ لها. وبهذا النَّبَضِ، شرع الشَّاعر اللبناني الراحل بسَّام حجَّار (1955-2009) في نَقْلَ هذا العمل إلى العربيَّة عن الفرنسيَّة، ربَّما كآخر ما كان يصنع؛ ولمَّا كان المخطوط الذي عُثِرَ عليه بين أوراقه غير مكتملٍ، زُهاءَ ربع الكتاب فحسب، فقد تولَّى الشَّاعر السُّوريُّ أمارجي إكمال ترجمة الرِّواية عن لغتها الأصليَّة، الإيطاليَّة، متحرِّياً ما أمكن التَّوفيق بين الدَّفق الشِّعري للرَّاحل ودفقهِ الشِّعريِّ وبين المعجم اللُّغويِّ للرَّاحل ومعجمه اللُّغويِّ، حتى أصبح هذا الكتاب ثمرةَ تضافر حساسيَّتين شعريَّتين مرهفتَين استطاعتا بحُسن إصغائهما إلى نبض النَّصِّ وإيقاعاته أن تصنعا تحفةً عربيَّةً تضاهي التُّحفة بلغتها الأمِّ.
كلود جوزيف فيرني ـ «العاصفة» (تفصيل، زيت على قماش، 1777)

ترجمة بسَّام حجَّار وأمارجي
من الفصل الأوَّل:
أين – ترجمة: بسَّام حجَّار عن الفرنسيَّة
أكلوا زَهْداً أو أعرضوا. فالطَّعامُ، وإن بدا باذخاً، خلافاً للمعتاد، بحسنة السَّجَّان القيِّمِ على المطبخ، كان مذاقه مُرّاً، وما من لُقمةٍ زَقمَها الحلقُ إلَّا كان طَعْمُها رماداً؛ إذِ الشَّائعُ في أمسياتِ الوداع أن تفقد النَّفس شاهية الطَّعام. لقد عُيِّنَ بزوغُ الفجر موعداً لتنفيذ حكم الإعدام، وهو ذا البارون يستشيط غضباً لرؤية هذا المقدار من المشتهَيات التي تُقَدَّم عبثًا ونِفاقًا، ساعةَ الغَلَسِ، لمحكومين بالموتِ، والأحرى، ما داموا على عتبةِ الآخرة، أن يُطْعَمُوا سُمًّا.
«بئسَ المِيتةِ على بطنٍ خاوٍ»، قال بحسرةٍ، «وعند بزوغ الفجر، حينَ الضَّوءُ أُخْذَةٌ للقلوب...».
وافقه ساليمبيني بأساليبه الشِّعريَّة المعتادة إذْ قال: «الأحرى أن يتمَّ ذلك عند الغروب بضوئِهِ نصفِ المأتمي وغيومه الوطيئة وظلاله القرمزيَّة والأرجوانيَّة التي تستدرجك برفقٍ إلى الرَّاحة الأبديَّة. أمَّا عند الفجر، فلن يكون لنا إلَّا أن نشعر بأنَّنا نُقصَى من الحياة بعمليَّة إخلاءٍ تعسُّفيٍّ».
أطرق الجنديُّ صامتاً كأنَّه يُطيل النَّظر إلى حذائه. وكان قد فَرَدَ ياقة قميصه إلى أعلى رقبته كأنَّه يشعر بالبرد. ولكنَّ نَرتْشِيزو غَمْغَمَ قائلاً: «مساءً أو صباحاً، ما الفرق؟» وأجهش، مثل طفلٍ، في البكاء.
القلعة هي المكان الوحيد المأهول في الجزيرة. نقول الجزيرة، والأحرى أن نقول النُّتوء الصَّخريَّ. لأنَّها ليست أكثر من كتلةٍ من الصَّخر البركاني نَمَتْ على نفسها على هيئة أنفٍ هائلٍ؛ شديدةِ الانحدارِ هنا وهناك؛ والمنحدراتُ في أكثر الأحيان جرداء. وتفصلُ النُّتوءَ عن اليابسة قناةٌ عرضُها مَدّ العين الباصرة. غير أنَّ التَّيَّارات والمهبَّاتِ، على حدٍّ سواء، تُحيلها مَكْسِراً للصَّواري وأذرعِ السَّبَّاحين: لم يركب فارٌّ مخاطر فعلته إلَّا وعُثِرَ عليه حطامًا مزدانًا بالطُّحلُبِ، منخورًا بِشَرَهِ الأسماكِ، ملفوظًا على تضاريس «الرَّأس الأسود».
يمتدُّ نِطاقُ المكان ميلًا، أو ميلًا ونصف الميل. والبذورُ، إنْ حملتها الرِّيحُ، أنبتَها الوعرُ حيث تُلائم التُّربةُ القبَّارَ والنَّدْغَ. لا كلأ هناكَ يُسمِنُ بهيمةً، إلَّا شرذمةً من مِعازٍ شَحيحة اللَّبنِ وطائفةً من حميرٍ سائبةٍ دائبة التَّجوال بمحاذاة الشّطوط أسفلَ المنحدراتِ، يتردَّدُ نهيقها الشَّاكي في ليالي كانون القارسة...
للسَّالكِ، مِن ثمَّ، درباً متعرِّجاً صُعُداً، أن يشمل بناظريه اتّساعَ البحرِ ذي الزُّرقة المتماوجة أبداً حتَّى بوَّابةِ الأفق الغربيَّة، من جهةٍ؛ ومن الجهة الأخرى، فيما وراء اللِّسان المائيِّ، البرَّ الرَّئيسَ الذي تتراءى منه، منضودةً على هيئة قوس، كوكبةٌ من البيوت القزمة على كتفِ ميناءٍ مقفرٍ وهامدٍ، تحت سماءٍ مقفرةٍ بالقدر نفسِه، لا يَعْبُرُ فلاتها سوى طائرٍ يكرُّر تحليقه المستوحد بين الجزيرة والمملكة، رسولَ أحكامٍ سرِّيَّة.
فإذا بلغ السَّالك أخيرًا، وقد جازَ المنعطفَ تلوَ المنعطف، صحنَ القمَّة، قمَّة الأنفِ الذي ورد ذكره من قبل، بدا الأنف مجدوعًا، وترامَتْ أرنبته سهلاً منبسطاً انتصبت عليه، منيعةَ الأسوار، القلعة المشيَّدة بحجارة الصَّوَّان كأنَّها كتلةٌ صمَّاء لا فُرجة فيها سوى دفَّاف المدخل. والدَّاخل منه، بعد أن يستوقفه حرَّاسٌ مدجَّجون بالسِّلاح ريثما يتعرَّفون كلمة السِّرِّ فيجيزون العبور، لا يطأ حُرمة الجوفِ خطوةً، وفي أذنيه لم يتلاشَ بعدُ صريفُ مِفْصَلَات البوَّابة، إلَّا وفي الرَّوعِ خِشيةٌ، ثمَّ فَزَعٌ يطمئنُّ لرؤيةِ النَّعلةِ الحَجَر المثبَّتةِ أعلى عقدٍ بارزٍ وقد حُفرت فيها العبارة التَّالية:
Donec sancta Themis scelerum tot monstra catenis
vincta tenet, stat res, stat tuta tibi domus. وإذ يتوغَّل الدَّاخلُ قُدُماً، مُتفكِّراً في مغزى العبارة، عابراً الفِناء، حريصاً على اجتنابِ الثُّقوبِ التي تكسو أرضيَّته متجرِّعةً مياه المطر، مُلتفتاً أحياناً إلى الكنيسة الصَّغيرة المخيِّمة في صَحْنِه لإقامةِ القداديس إذا دَعَت الحاجة إلى ذلك طالما أنَّ الحياة، هنا، هي العَرَضُ وفرصُ الموت أكثر من أن تُحصى: الزُّحار المزمن الذي ينتخب جسوم السُّجناءِ موئلاً، وقساوة الرِّفاق الذين يبرعون في استعمالِ السِّكِّين، وعقوبة الإعدام التي يوزِّعها الحاكم كيفما يشاء، حتَّى للجُنحِ الطَّفيفة.
في زوايا الفِناء الأربع، مَراقِبُ أربعةٌ تقي الحرَّاس تقلُّبَ الجوِّ ومصابيحُ غازٍ ثمانيةٌ تنير ليلهم. غير أنَّ هذا لم يَحُل دون شكوى رئيسهم، مرارًا وتكرارًا، من زوايا مظلمةٍ متبقِّيةٍ قد تكون ملاذًا طيِّبًا لبعض النَّوايا الخبيثة. ما حدا بضابط الإعاشة إلى الردّ عليه قائلًا: «فليعمدوا إلى الفرار إذن بعد طول مكْث، علَّ عدد الأفواه يقلُّ وتزداد طعوم الأُركة».
بنظرةٍ أكثر شمولاً، وبأسلوبٍ مجازي، يمكن القول إنَّ شكل البناء أقرب إلى مِشْبَكَي عقربٍ يتضامَّان تاركَين مساحةً تكاد لا تتَّسع لعبور عربة. ومن هنا، إذا ألقى الواقفُ نظرةً على البرجِ الرَّئيس، أمكنه أن يرى الأسوار الشَّاقوليَّة العالية المطرَّزة بمئة كوَّةٍ هي، في الوقت نفسه، مئة مكمنٍ يتراءى من فرجاتها مئة طيفٍ يرمقون الوافد الجديد بعيونٍ فاحصة.
«هيَ ذي دارةٌ پُمْپِيِانِيَّة»، قال ساليمبيني ممازحاً حالما عَبَر الباب المُحرَّب. «نولي العالمَ ظهرنا وعيوننا على ملذَّات الدَّاخل. هو ذا مرتعٌ للمتبطِّلين، منتجعٌ لأجلَّاء القَدْر...».
شعرَ الضَّابط الذي كان يُفرغُ مثانته على مقربةٍ بالإهانة دون أن يفهم كلامه، فدنا منه ليُدخل سبَّابته اليُسرى مع إبهامه الأيمن في الأصفاد. كانت خمس دقائق أكثر من كافيةٍ لكي يُدرك السَّجين، تحت وطأة الشَّمس العموديَّة على السُّطوح، أنَّه قاب قوسين أو أدنى من الجحيم.
الطَّبقة الأرضيَّة التي يبلغها الوافد عبر ممرٍّ أو رواقٍ محفوفٍ عن جانبيه بالأعمدة، مخصَّصةٌ للأغراض العسكريَّة والمدنيَّة. ولِمَن أراد أن يعرف بالتَّفصيل طبيعةَ هذه الأغراض نبدأ، بادئ ذي بدءٍ، بفصيل الحراسة الذي يسوده هرجُ الأصوات، بمقاعده ومزاوده وحمَّالات الأسلحة الاحتياطيَّة؛ ثمَّ مخزن الأسلحة الذي يسمُّونه تمجيداً «التَّرسانة»؛ يليه، بالتَّتالي، محترف النِّجارة، فمحترف الحدادة، فحجرة التَّأديب الأشبه بردهةٍ للتَّعذيب، فردهة التَّمريض وبلصقِها عيادة الطَّبيب، فمخزن الملابس المفعم بروائح القنَّب، فالمقصف، والمخبز، والمطبخ ومكتب محاسب التَّجهيزات، ثمَّ المراحيض، فقطَّاع الجنود. وأخيرًا، حيث تؤدِّي سبعُ درجاتٍ حُفرت في الأرض، بابٌ خفيضٌ لحبسٍ عُزِلَ فيه سجينٌ مشاغبٌ، نصف معتوهٍ، ينتظر كلَّ يومٍ طلوع الفجر ليصيح، مقلِّدًا صياح الدِّيك، كوكوريكو...
جناحٌ بأكملهِ أُفرِدَ في الطَّبقة الأولى للحاكم. غير أنَّ هذا الأخير، نظرًا لترمُّله منذ أمدٍ بعيدٍ ولضعف صحَّته، اختار عن طيب خاطرٍ ألّا يشغل منها سوى ثلاث حجراتٍ، تاركاً للضُّبَّاط أن يشغلوا الحجرات المجاورة. مثل هذه الأريحيَّة المبذولة بحسابٍ غرضها أن تُظهر جولات التَّفتيش المباغتة بمظهر الزِّيارات الودِّيَّة. ومع ذلك فإنَّ مقرَّه مُعتَلَمٌ برايتين ترفرفان على الشُّرفات: الراية البيضاء المَلَكيَّة المُزنبَقة؛ وشارة الفيلق الصَّفراء المزيَّنة برسم فتخاءَ سوداءَ مزركشةٍ على شكل درعٍ وقد خُطَّت من حولها أسماء الانتصارات الشَّهيرة.

من الفصل الخامس: رواية الطَّالب أو نَرتْشِيزو المُنتشَلِ من الماء – ترجمة: أمارجي عن الإيطاليَّة
تجمَّعتُ على نفسي في مؤخِّرة الطَّوْف، بين أفراد الفرقة النُّحاسيَّة، ورحتُ أعزفُ بكلِّ ما أوتيتُ من عزمٍ، وبحميَّةٍ ما بعدها من حميَّةٍ، شاعراً، رغمَ اقتعادي حافَّةَ الدَّكَّةِ الصَّلبةِ وضغطِ أطرافٍ غليظةٍ وأنفاسٍ ثقيلةٍ على جنبيَّ، بأنَّني ربَّانُ وأميرالُ هذا الإقلاع: ذلك الذي بمعزوفات بوقه العاجيِّ البسيطةِ المنفردةِ يسوقُ طواقمَ الحُبِّ إلى كيثيرا أخرى مجهولة... فكنتُ وأنا أعزفُ أنسابُ في وداعةِ تلك المياه التي كانت المجاذيف تغوص فيها غَوْصَ الأصابع في جُمَّةِ شَعْرٍ غزيرةٍ، هاربًا بين ضفَّتين متقابلتين، هذه معتَّمَةٌ بأشجار الصَّفصاف والنَّغت، وتلك منقَّطةٌ بالأضواء... أنسابُ وأعزفُ مع الجميع، ولكن كان الأمر كما لو كنتُ وحدي مَنْ يعزف تحت طاسِ السَّماءِ المقلوب؛ وحدي مَنْ يسمعُ اهتزازَ الطَّوفِ الخشبِ وخواتةَ التَّيَّارِ يرافقان أغنيةَ القارب؛ وحدي مَنْ يرى ظلال المجاذيف تؤلِّف مع أشعَّة القمر أبجديَّاتٍ جذلى...
وكانت بقيَّة الأسطول تجري في إثرنا، جناديلُ ومواعينُ وزوارقُ، يدنو منَّا أحدُها فينأى آخرُ، وكانت تجري أحياناً حذاءَنا محدوَّةً بالرَّغبة في الاستماع بشكلٍ أفضل أو لترى في أدقِّ التَّفاصيل كيف تتفتَّح بين الأرض والسَّماء، مِن سياج الأيدي والأفواه، زهرةُ الصَّوتِ الهَفْهَافة. ومن بين المراكب التي اقتربت منَّا مركبٌ، هو الأكثر فضولًا وإصرارًا، اقترب حتَّى كاد يُلامسنا. توارى القمر في تلك اللَّحظة وسط لفيفٍ من الغيوم، وعلى الجؤجؤ أُضيء مصباحٌ في مشكاةٍ، فاستضاءت كما لو بشمس النَّهار، بين قامتَي ضابطَين واقفَين، طلعةُ فتاةٍ جالسة. فتوقَّفتُ عن العزف وطفقتُ أنظر إليها. لن تصدِّقوني إن قلتُ إنَّ نظرةً سريعةً في قَدْرِ لمحِ البرق إليها كانت كافيةً لأتمكَّن الآن من وصفها لكم بتفصيلٍ وإسهاب.
سأقولُ لكم إنَّ شعرها بنِّيٌّ، حسبما تراءى منه خارج غلالة الخِمار؛ ينفرقُ، كما لو بجُرحٍ، كما لو بفَرْقٍ ملوكيٍّ مهيبٍ، إلى خصلتين ناعمتين ورَسْلَتَين تنضفران على الصُّدغين في لفَّتين مُحْكَمَتَين قبل أن تتساقطا مطرًا على الكتفين. عالٍ وشديدُ الشَّكيمة جبينُها، ولكنَّ غضونًا ساهمةً كانت تجعِّدُه. أمَّا في عينيها فكانت تتوهَّج غلومةٌ غافلةٌ عن أمرها: عملتان ذهبيَّتان مدوَّرتان، قطرتان من سماءٍ متوسِّطيَّةٍ لا تشوبها سحابةٌ ولم يسوِّدها بعدُ نذيرُ اعتدالٍ خريفيٍّ وشيك. فيما، داخل القزحيَّة، كان يعتملُ حقدٌ متقلِّبٌ، حقدٌ يجاريه حقدٌ آخر ينضح من شفتين نصف مفتوحتين بدا أنَّهما تقبِّلان الهواء مع كلِّ نفسٍ من أنفاسها. وأمَّا الأنف والوجنتان والذَّقن، فمع أنَّها كانت مثاليَّةً في الصَّحَاح والتَّكوين، إلَّا أنَّها توارت بفطنةٍ وراء مشهد النَّظرات والضَّحكات مثل شخصيَّاتٍ ثانويَّةٍ تتوارى خجلًا وراء مشهد مبارزة الأبطال. ولكن لا ملامح وجهها ولا تعابيره فقدت بسبب ذلك شيئًا من دمغة الكبرياء والرُّوح المَلَكيَّة الشَّوساء التي زادها قوَّةً بريقُ الأحجار الكريمة وفخامةُ الفستان الذي اهرورقَ بِضُفُوٍّ حتَّى اجتاحَ الألواح الخشبيَّة المتواضعة، بينما رقَّ وانحسرَ في الجزء العلويِّ من الجذع، حيث كان مرمرُ الصَّدر، تحت حراسةٍ متراخيةٍ من شالٍ من الكشمير، يشنُّ الغارات على القمر.
لم يفُتني سوى معرفة اسمها. ولكن في تلك اللَّحظة، نادى صوتٌ من مقصورةٍ قريبةٍ: «أونيس!»، فالتفتَتْ وعرفتُ اسمَ التي عَلِقَني حبُّها. ضحكَتْ حتَّى وهي تسأل: «ماذا؟»، فلزمني وقتٌ طويلٌ، وأنا أرى سمكة لسانها تنطُّ بين أسنانها الضَّاحكة، حتَّى أدركت أنَّني سأموت ألف ميتةٍ لأتمكَّن من اصطيادها بشبكتي.
ذَهِلْتُ، في ذلك الوقت، عن كلِّ شيء. ولم تمضِ لحظاتٌ حتَّى سقطتُ على أمِّ رأسي، ومعي آلتي الموسيقيَّة، في مياه النَّهر.
كانت السَّقطة في غاية النُّعومة، فلم ينتبه أحد. إلَّا عندما تلاشى نقيبُ فاتحتي الموسيقيَّة من تبويقةِ رقصةِ المينويت، فاستنبأ الجميع بأعينهم سُدَىً نبأي وأصبحوا في هرجٍ ومرج. ولكنَّ أيادي مغيثةً كانت قد رفعتني إلى متن قاربها... «نرسيسٌ منتشَلٌ من الماء!» هزأت بي ملءَ حنجرتها حين أخبرتُها متلعثمًا باسمي، بينما كان جسدي كلُّه يَنْطِفُ جدولاً على قدميها.
ساعدني على نفض الصَّقيع من عظامي، برشفةٍ أو اثنتين من مشروبٍ لاذعٍ، ضابطا الحراسة اللَّذان كانا آنذاك على هذه الصُّورة من باب التَّنكُّر فحسب، بمناسبة الرَّقصة. وعلى الأثر عُقْبَ ذلك بَلَغْنا اليابسةَ وتمكَّنتُ من استعادة قوايَ على أحسن وجهٍ في مطبخ المنزل حيث قدَّموا لي كملابس جافَّةٍ خزانةً من الأزياء التَّنكُّريَّة، فاخترتُ، ولا أعرف لماذا، قناعاً أسود فوق زيِّ مهرِّجٍ، ثمَّ انتظرتُ أن تُرفَعَ أطباق الحلوى عن الموائد الممدودة في المرجة ويبدأَ عرضُ الألعاب النَّاريَّة لكي أذوبَ دون شُبهةٍ بين الضُّيوف بحثًا عن أونيس. ولم يكن من الصَّعب عليَّ تعرُّفُها مع أنَّها كانت قد وضعت شريطًا مخمليًّا على عينيها. الأصعب من ذلك، وقد بدأت الرَّقصات، كان أن أفوز بها شريكةَ رقصٍ في جولةِ فالس. لم يبدُ أنَّها تعرَّفَتْني ولم أرغب في ذلك، منتشيًا بالتَّحليق معها، ضامًّا إيَّاها بين ذراعيَّ. واقعًا كنتُ في الحبِّ، ومغتبطًا بتلك الوَقْعَة...
كثيرًا ما تفكَّرتُ لاحقًا في هذه الهلِّلُويا الصَّاعقة التي كانَها وقوعي في حبِّ أونيس، وتشكَّل لديَّ اعتقادٌ بأنَّ الأمر جرى مجرى تلك الحكمة القديمة التي حاول معلِّمي تعليمي إيَّاها في عهد صباي، حكمةٍ مؤدَّاها أنَّنا نحمل في أرواحنا قالبَ فكرةٍ تُفُكِّرَ فيها في مصيرٍ آخر وبقيت مفقودةً في المصير الجديد. إلى أن نصادف في الأرض أمثلةً مجسَّدةً فإذا بما تكتنزه هذه الأمثلة من ذكريات تلك الفكرة يسلبُ عقولنا فجأةً ويملأها بفلسفةٍ بربريَّة. هكذا بدت لي أونيس، في ذلك المساء: معيارًا للجمال والرُّوح، انتصارًا من لحمٍ ولهبٍ، حجمًا أثيريًّا غارقًا في المعنى، معنىً أبعد من كلِّ المعاني... شيئًا ربَّما تكون كلمتان، بالطَّريقة التي أراهما بها جملةً، أكثر قدرةً على توضيحه: المغناطيسُ والكهرباء.
كنتُ إذن أحلِّق ضاماً إيَّاها بين ذراعيَّ، دون أن أنبس بمقطعٍ لفظيٍّ واحدٍ، ولكنَّ قشعريرةً ظاهرةً للعيان كانت تسري في جسدي. فهزأت بي، في اللَّحظة التي دنا فيها منَّا فارسٌ للمطالبة بتغيير شريك الرَّقص، قائلةً: «انتُشِلَ من الماء، ربَّما؛ ولكن من البرد، أبداً!».

(*) تصدر قريباً عن «دار الرَّافدين» في بيروت