هل من الممكن لعالِم أن يغطي موضوع كتاب «الشيعة في المغرب العربي والأندلس: الجزء الأول: تاريخ» (Cambridge Scholars Publishing ــــــ 2021) منفرداً؟! هذا تساؤل مشروع آخذين في الاعتبار ليس فقط حقيقة أنه الأول في ميدانه، إنما أيضاً أنّ أهل الاختصاص في الغرب ينفون أي وجود للمسلمين الشيعة في بلاد الأندلس! لذلك، لا يتعجب المرء من قول الكاتب جون أندرو مورو في مدخل العمل إنه أمضى ثلاثين عاماً في تأليفه إلى أن اقترحت عليه زوجه التوقف عن البحث وإرساله إلى الطباعة.

من المعلوم أن أغلبية الأعمال التي تناولت بلاد الأندلس ركزت على الآثار المعمارية والأدبية والتأريخية والفلسفية والصوفية، وعلى فترات التعاون والتناحر بين الإسلام من جهة والمسيحية واليهودية (الشرقية طبعاً – السفارديم/ المزراحيم؛ ز م) من جهة أخرى، ونادراً ما بحثت في التركيبات الاجتماعية والدينية للمجتمع. بل إن أغلبية تلك الأبحاث، بأقلام عربية وغير عربية، تجاهلت وجود الشيعة في الأندلس. لذلك، فإن هذا العمل الريادي هو الأول الذي يتقصى إسهام شخصيات مسلمة شيعية في حياة الأندلس الاجتماعية والسياسية والدينية.
قال الكاتب وهو أستاذ محاضر في جامعات أوروبية وأميركية عديدة متخصص في أدب الموريسكوس ــــ العجم (Aljamiado-Morisco) إنه في الوقت الذي تفتقر فيه المكتبة المتخصصة إلى أي مؤلفات أو أبحاث عن الوجود الشيعي في الأندلس، فإنها لا تفتقر إلى الأعمال النافية لذلك الوجود. خصّص الكاتب قسماً كبيراً من التقديم لمناقشة الأعمال التي تناولت بالبحث تاريخ الأندلس، لكنها نفت أي وجود للشيعة فيها أو قلّلت كثيراً من مغزاه وأثره. ومن الآراء التي ناقشها ونقضها تلك العائدة إلى كل من ديريك دبليو لوماكس (1933 ـــ 1992) ودايفيد واسرستاين (1951)، وريجي بلاشير (1900 ـــ 1973) وبرنارد أف. ريللي (1925) ومحمود علي مكي (1929-2013) وغيرهم.
يوضح المؤلف أنه رغم سيادة المذهب المالكي في الأندلس (ويطلق عليه أحياناً صفة سياسية المرجع هي إسبانيا المسلمة)، إلا أنه وجدت مذاهب أخرى ثبّتت أقدامها هناك ومنها الأوزاعي والشافعي والحنفي والإسماعيلي والجعفري. بل إن ابن الأحمر الغالب بالله أبي عبد الله محمد الأول (1198-1273 ت ش) مؤسس دولة بني نصر في الأندلس والسلالة الحاكمة فيها كان شافعياً. ومن علمائها الكبار هناك قاسم بن محمد قاسم بن سيار، وإمام جامع قرطبة وعبد الله بن محمد الأموي.
كما يذكر الكاتب وجود طوائف مختلفة؛ منها الخوارج العبادي والشيعة الإمامية وشيعة الزيدية والشيعة الإسماعيلية والمعتزلة والمسرة ومن يطلق عليهم غلاة الشيعة، إضافة إلى المسيحيين واليهود (السفارديم) والزرداشتيين والروحانيين والمؤمنين بتعدد الآلهة على سبيل الذكر.
في مجال مناقشة آراء أهل الاختصاص الذين نفوا أي وجود شيعي في الأندلس، يشير الكاتب إلى حقيقة أنّ جيوش الأمويين التي غزت الأندلس ضمّت شيعة، ومنهم من كانوا من أصحاب النبي، وكذلك شيعة بربر الذين أدّوا الدور الأكبر في غزو الأندلس وإخضاعها.
ولا ننسى حقيقة أن اضطهاد الأمويين لأهل البيت دفع كثيرين منهم إلى الهروب والاستقرار في مختلف بقاع المعمورة في ذلك الوقت. وإلا كيف يمكننا شرح انطلاق الدولة الفاطمية الإسماعيلية من بلاد المغرب العربي!
يخوض الكاتب في المقدمة في نقاش طويل ومثير مع مختلف أهل الاختصاص بخصوص الشيعة في الأندلس، وأي تلخيص لا يمكن أن يغني عن قراءته كاملاً.
بعدها ينتقل إلى فصول المؤلف الواحد والعشرين، حيث خصص أولها (أئمة الشيعة في المغرب العربي) لإثبات الوجود التأسيسي لأئمة شيعة في المغرب العربي، ويلوم البحّاثة بمن فيهم شيعة ومنهم أئمة على تجاهلهم حقيقة أنّ كلاً من الحسن بن علي بن أبي طالب والحسين بن علي بن أي طالب شاركا في «فتح» المغرب العربي، وأن الخليفة علي حكم بعض أجزائه لفترة من الوقت. هذا يعني ــــ دوماً في ظن الكاتب ــــ أن الأئمة الثلاثة الأوائل ارتبطوا بطريقة أو بأخرى بشمالي إفريقيا، ويمكن قبول الادعاء بأنهم من أسسوا التشيّع في المغرب العربي والأندلس. كما يشير الكاتب إلى حقيقة أن بربر شمالي إفريقيا يصرّون على أن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب هو من زرع بذور التشيع في صدورهم وعقولهم وأرواحهم. كما يذكر الكاتب أن المقداد بن عمرو (في الأصل الإنكليزي مقداد بن عمر) تنقّل في شمالي إفريقيا واستقر في الإقليم حيث من المتوقع أنه نشر تعاليم أهل البيت. يركّز الفصل الثاني (الصحابة الشيعة في المغرب العربي والأندلس) على صحابة النبي وأتباع الخليفة علي بن أبي طالب في المغرب العربي، ومنهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن العباس، وأبي ذؤيب الهذلي خويلد، ومحرث بن جاب الله بن عمرو، ومعبد بن العباس بن عبد المطلب، والمسيب بن حزن، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب.
وخصص الكاتب الفصل الثالث (الشيعة التابعين في المغرب العربي والأندلس) للحديث في تأثير التابعين الذين شاركوا في غزو شمالي إفريقيا والأندلس، حيث أقاموا فيها ونشروا تعاليم أهل البيت، ومن هؤلاء، حنش بن عبد الله الصنعاني، وعبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، وزيد بن الحباب وبكر بن سوادة بن ثمامة.
يستكشف الفصل الرابع (صحابة الإمام الصادق والإمام الكاظم والإمام الرضى والإمام التقي والإمام النقي والإمام العسكري في المغرب العربي) دور صحابة الأئمة من السادس إلى الحادي عشر في المغرب العربي، ومنهم الحلواني، وأبي سفيان، وإدريس بن عبد الله، وداود بن القاسم، وأحمد بن محمد النفس الزكية، وموسى الجون، ومحمد بن عمران النفطي وغيرهم.
خصّص الكاتب الفصل الخامس (زوجات الأئمة الشيعة من البربر وأمهاتهم) لبحث تجاوز أهل الاختصاص لحقيقة أن العديد من زوجات الأئمة الشيعة وأمهاتهم كنّ من البربر، وكذلك دورهن في نشر التشيع بين البربر.
الفصل السادس (الشرفاء/ الأشراف الذين استقروا في المغرب العربي والأندلس) خصصه الكاتب للحديث في استقرار الشرفاء/ الأشراف والسادة من الشيعة في المغرب العربي والأندلس.
الفصل السابع (الأولياء الشيعة في السلسلة الروحية للطرق الصوفية) يبحث في دور الأئمة الشيعة في سلسلة نقل أحاديث الطرق الصوفية وتفرعاتها ومنها الشاذلية والقادرية والخلواتية والتيجانية والنقشبندية والخشتية والكبراوية والمولوية والسهروادية والنوربخشية والنعمتاللهية والذهبية والبكتاشية.
كيف يمكن شرح انطلاق الدولة الفاطمية الإسماعيلية من بلاد المغرب العربي؟


الفصل الثامن (البربر الشيعة في المغرب العربي والأندلس) يثبت أن بعض التجمعات البربرية كانوا من الشيعة، ومنهم زناتة وكتامة ومكناسة وأورابة وبرغواطة ومسمودة وبنو لماس كانوا في فترة من الفترات شيعة.
الفصل التاسع (العرب الشيعة في المغرب العربي والأندلس) يبحث في وجود العرب الشيعة في المغرب العربي والأندلس، ومنهم على سبيل الذكر بنو هاشم الذين أسّسوا السلالة الإدريسية في المغرب، وكذلك المولدون القادمون من اليمن.
الفصل العاشر (الطوائف الشيعية في المغرب العربي والأندلس) يبحث في مختلف الطوائف الشيعية في المغرب العربي والأندلس، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر الوقفية والإمامية (الاثناعشرية) والباجلية والموسوية والإسماعيلية والقرامطة ومن يشار إليهم بغلاة الشيعة.
موضوع الفصل الحادي عشر «السلالات الشيعية في المغرب العربي والأندلس» ومنها الأدارسة والزيديون والحموديون والفاطميون.
خصص الكاتب الفصل الثاني عشر لموضوع «الثورات الشيعية في المغرب العربي والأندلس» ومنها انتفاضة شقيا وعبيد الله بن سعيد وأبي ركوة وليد بن هشام بن عبد المالك وابن القط وأبي علي السراج وابن حفصون وثورة ميسرة المتغري البربري وحُباب بن رواحة وتلك بقيادة علاء بن المغيث وأخرى بقيادة عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر وأخرى بقيادة عبد الرحمن بن حبيب الصقلبي وغيرها بقيادة شقيا بن عبد الواحد المكناسي، وغيرهم.
الفصل الثالث عشر يبحث في «الفقهاء الشيعة في المغرب»، ومنهم إسماعيل بن نصر المعادي وأبو القاسم الورفجومي وأبو عبد الله الأندلسي وأفلاح الملوسي وزرارة بن أحمد وكثير غيرهم.
الفصل الرابع عشر «الفقهاء الشيعة من الأندلس»، ومنهم محمد بن مسرة ومنذر بن سعيد وابن حوقل النصيبي وثعلبة بن حمدون بن سماك ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم.
الفصل الخامس عشر «المراكز الشيعية في المغرب العربي» ومنها بصرة وأصيلة ومليلة وسبتة وفاس وطنجة والقيروان وقسنطينة والمهدية ومكناس.
الفصل السادس عشر «المراكز الشيعية في الأندلس»، ومنها إشبيلية وقرطبة وسرقوسة وبنبلونة.
مادة الفصل السابع عشر «محاكم التفتيش» المالكية في المغرب العربي والأندلس» التي هدفت إلى إبادة أهل البيت وأتباعهم وفرض المذهب السني المالكي على السكان.
الفصل الثامن عشر (لغز الموريسكوس الشيعة) يركز على الموريسكوس وأدبهم المكتوب بما يسمى aljamido بالقشتالية، وهو تعريف محرّف عن المفردة العربية «العجمية».
عمل الكاتب على تقصي آثار الشيعة في المغرب في الفصل التاسع عشر وعثر على بعضها في اللباس وفي التخطيط العربي والعمارة مثل فاس والمهدية وغيرهما، وكذلك في شواهد القبور وبعض الممارسات الدينية مثل المولد النبوي الشريف وعاشوراء. كما أشار الكاتب إلى ذكر المُتاع، أي زواج المتعة في أغاني العرب والبربر الشعبية. ونظراً إلى أنّ الفاطميين والزيديين حرّموا المُتاع، فمن الطبيعي الحسم بأنه وجد بين بربر المغرب وعربها.
تابع الكاتب الإحياء الشيعي في كل من المغرب والجزائر وتونس، وذكّر بحقيقة أن إدريس بن عبد الله مؤسس السلالة الإدريسية كان شيعياً زيدياً وفرّ من اضطهاد العباسيين ذلك أن كان من الناجين القلائل من موقعة فخ (11 حزيران 786 ت ش) واستقبله البربر المسلمون على أنه مولاي إدريس وتحوّلوا تحت إمامته إلى التشيع الزيدي.
كما لاحظ الكاتب الاضطهاد المستمر للشيعة في المغرب العربي.
الفصل الحادي والعشرون يستعرض الإرث الأدبي الشيعي في الأندلس ويعترف بصعوبة العثور عليه، ذلك أن غلاة المسيحيين الإسبان عمدوا إلى إحراق مكتبات الأندلس وملايين المخطوطات التي حوتها ولم ينج منها سوى بعض مؤلفات العجم والموريسكوس.
هذا ملخص مكثف لمحتوى هذا المجلد، ومن الطبيعي أن الفصول تحوي تفاصيل كثيرة ومهمة للغاية.
يختم الكاتب مؤلفه هذا بالقول إن وجود الإمامين الشيعيين الثاني والثالث، وكذلك حكم الإمام الأول لشمالي إفريقيا وإن لفترة قصيرة، وكذلك حقيقة أن أمهات بعض الأئمة وأزواجهن من البربر ونشرهن التشيع، وكذلك استيطان أعداد كثيرة من الشريفيين وكذلك الصوفية المتأثرة بالشيعة وتأسيس العديد من السلالات الشيعية والتمردات الشيعية العديدة على الحكم الأموي واستقرار علماء شيعة في المغرب العربي والأندلس والإثباتات المتوافرة في الأدب العجمي ــــ الموريسكي والإحياء الشيعي الحالي في دول المغرب العربي، جميعها، تثبت بما لا يدع للشك الدور الذي مارسته الشيعية في المغرب والأندلس، وأن أي نفي لهذه الحقيقة يعني تجاهلاً مقصوداً للإثباتات الواردة في المؤلف.
ملاحظة أخيرة تتعلق بكيفية توظيف الكاتب لبعض المصطلحات في المجلدين، ومنها عدم الالتزام باسم بلاد الأندلس، إذ يشير إليها أحياناً أخرى باسم إسبانيا المسلمة، وتارة ثالثة بصفة شبه الجزيرة الإيبيرية. كما نأخذ عليه توظيف المصطلح السياسي «استعادة/ Reconquista» وكان عليه الابتعاد عن توظيف هكذا مصطلحات في عمل علمي. لكن ملاحظاتنا هذه وأي ثغرات تقنية في العمل لا تؤثر في هذا الكتاب الريادي الثمين. سنخصص عرضنا المقبل للجزء الثاني «التقاليد».

Shi‘ism in the Maghrib and al-Andalus, Volume One: History - Cambridge Scholars Publishing - 2021