«إذا كان للقدر عينٌ، رغبتي أن أضع عيني في عينه كما كنّا، نحن أولاد الحارة، نتحدّى بعضنا صغاراً، ومن ترفّ جفناه أولاً، يخسر أولاً». ما بين «الموت بين الأهل نعاس» (١٩٩٠)، و«سمّ في الهواء» (٢٠٢١)، فرض الروائي اللبناني الزغرتاوي جبور الدويهي (١٩٤٩-٢٠٢١) نفسه مؤرّخاً لتحولات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في لبنان وراوياً لـ«وطن بمنازل كثيرة» بعبارة كمال الصليبي.

إذ إن روايات جبور الدويهي من «اعتدال الخريف» (١٩٩٥) الى «ريا النهر» (١٩٩٨) و«عين وردة» (٢٠٠٢)، وصولاً إلى روايته الأبرز «مطر حزيران» (٢٠٠٦) ورواياته الأخيرة مثل «طبع في بيروت» (٢٠١٦) و«ملك الهند» (٢٠١٩)، تزخر بالشخصيات التي تحمل كل تشظّيات الهوية اللبنانية، وانشطاراتها وتمزقاتها وعلاقاتها المعقّدة بالمكونات الأخرى وأحياناً بمكونات البيت الواحد، والعنف الذي ينفلت من عقاله في حوادث مينيمالية. حوادث يترصّدها الدويهي بعين الروائي الحاذق مثل حادثة كنيسة مزيارة عام ١٩٥٧، ليشرح صاحب «شريد المنازل» ميكانيزمات العنف والتعصب والإلغاء الذي تتشابه فصوله بين العائلات المسيحية في الشمال اللبناني في حينها، وكل فصول «ڤانديتا» العنف والثأر في شرق المتوسط، وليتحوّل كرم المحمودية في «ملك الهند» الى رمز أشبه بـ«الوطن ــــ المزرعة»، الذي يتنازعه أمراء الحرب وزعماء الطوائف، يعلوه البيت المعطّل في الرواية الذي هو أشبه بالإرث الثقيل للمأزق اللبناني الذي يسيّله جبور الدويهي سرداً وتفاصيل في العادات والتقاليد والمطبخ والأمثال الشعبية والعمارة. هكذا، يضع اللبنانيين في امتحان صعب لهوياتهم الضيقة ومساءلة لقضايا شائكة في الوعي الجمعي ومخيال الجماعات والعائلات الروحية والقبلية، وصولاً الى علاقة المدينة بالأطراف والهجرة والهوية وغيرها من المفاهيم الاجتماعية والسياسية المعقدة التي يفككها ضمن قالب من السرد المشوّق. إذ لا ننسى في إحدى روايات الدويهي البطل المهاجر يتخلص في عنابر المطار من كل مؤونة أمه الجبلية كأن مكونات الهوية «الضيقة» تتشظى وتتلاشى، وليطرح الروائي الذي حصّل دروسه الابتدائية والثانوية في مدينة طرابلس والحائز دكتوراه في الأدب المقارن من «جامعة باريس الثالثة» هويةً أكثر تفتّحاً، وتعدديةً وانفتاحاً على النقد والحوار بين الأفكار والثقافات أكثر ما نراها في الجسر الذي يفتحه على الغرب في «ملك الهند» في لوحة مارك شاغال والتنوير المنطلق من بيروت من مطبعة آل كرم ومنزل آل باز في «طبع في بيروت». ينتمي جبور الدويهي الى جيل الرواية اللبنانية الجديدة، التي انخرط روادها في أواخر ستينيات القرن الماضي في مطحنة الأفكار والأيديولوجيات، وخبروا الحركات الطلابية والحزبية، فعكست كتاباتهم الاجتماع اللبناني في تناقضاته وتفككاته، وبخاصة مع مفصل الحرب وما مثلته من مختبر قاسٍ وعنيف لكل هذه التناقضات. كما انفتحت هذه الكوكبة من الروائيين على مؤثرات الأدب الغربي والقضايا «الساخنة» في العالم العربي، إذ يكتب الدويهي في كتاب تكريمي أعدّته الجامعة الأنطونية عن بداياته: «قرأت بشغف أغاني مالدورور للوتريامون، كما حفظت أشياء كثيرة عن رامبو عن ظهر قلب. ويوم سألت عنه أحد الرهبان المشرفين على تعليمنا، ارتسمت على وجهه علامات الاشمئزاز وقال: «لا بد أنه كان يكتب تحت تأثير المخدرات». وكنا في المدرسة أيضاً على تماس مع إيقاعات المدينة، تظاهراتها العروبية نصرةً لعبد الناصر ولثورة الجزائر وقضية فلسطين. كما تعرفنا على أعيادها، وارتدنا صالات السينما العديدة فيها، وأطللنا منها على البحر».
ترجمت روايات جبور الدويهي إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية والتركية، ووصلت «مطر حزيران» الى اللائحة القصيرة لجائزة «بوكر» للرواية العربية (٢٠٠٨)، وكذلك «شريد المنازل» (٢٠١١). كما توّجت رواية «حي الأمريكان» بجائزة سعيد عقل من «جامعة سيدة اللويزة» (٢٠١٤). ما بين إشكالية الموت المعلّقة، بين غفوة كنعاسٍ بين الأهل، وموت آخر نفثه الهواء سمّاً في انفجار المدينة عند عنابر المرفأ، رحل الروائي الذي كان يبرع في إخراجنا من «منطقة الأمان» في تفكيرنا وسرديّاتنا وقناعتنا. غادر واضعاً عينه في عين القدر، بطريقة أقرب إلى مقطع في روايته الأخيرة: «فجأة تدخل فراشة إلى البيت، تعيده إلى بلدته وإلى طفولته، إلى العمر الذي ينطبع فيه كل شيء، إلى الأمكنة التي حملها معه في تخيّلاته الأدبيّة».