الأبجدية العربية التي نكتب بها حديثة نسبياً. والتقدير العام عند الباحثين أنها أخذت بالظهور في حدود القرن الثالث الميلادي، متطوّرة عن الأبجدية النبطية، التي تطورت بدورها عن الآرامية. بالتالي، فهي حفيدة الأبجدية الآرامية. ولدينا جملة من النقوش يُعتقد أنها كُتبت في فترة ما بين القرنين الثالث والرابع الميلاديين، ويعدها الباحثون ضمن المرحلة الانتقالية بين الأبجدية النبطية والأبجدية العربية الحالية. وقد وصلت الأبجدية العربية إلى مرحلة الاستقلال التام بين حدود القرنين الخامس والسادس الميلادي في رأي غالبية الباحثين. لكن يجب القول إن اللغة العربية، بلهجاتها المختلفة، كانت قبل الأبجدية النبطية وقبل الأبجدية العربية الحديثة المنبثقة عنها تُكتب بأبجدية مختلفة تماماً، يمكن تسميتها بالمسند الشمالي، قياساً إلى خط المسند الجنوبي في اليمن. والمسندان يتفقان في رسم الغالبية الساحقة من الحروف، وهناك اختلاف في عدد قليل من الحروف. وقد ظلّت هذه الأبجدية حيّة في المناطق البدوية، على أطراف الصحارى وفي أعماقها، حتى وقت قريب من زمن الإسلام. أما في المناطق الحضرية، فقد توقفت الكتابة بالمسند الشمالي في حدود القرن الثالث الميلادي، وحلّت محلها النبطية. ولدينا نقش مكتوب بالنبطية والمسند الشمالي، يعطينا فكرة عن كيف حلّت النبطية بالتدريج محل خط المسند الشمالي. عُثر على النقش في قبر في مدينة الحجر (مدائن صالح)، ويقدّر بأنه كتب في حدود عام 270 ميلادية. يُدعى النقش «نقش رقوش» باسم المرأة التي دُفنت في القبر. وأدناه نسخة مصنوعة مطابقة للنقش.

إلى يميننا في الصورة كتب اسم المتوفية بالمسند الشمالي (زن رقش بنت عبد منت)، أي «هذه رقوش بنت عبد مناة». أما النص الرئيسي إلى اليسا،ر فهو مكتوب بالأبجدية النبطية. وهذا دليل على أن المسند الشمالي كان يُهجر تدريجاً في الحواضر، ويحل محله الخط النبطي.
انطلاقاً من ذلك، يمكن القول إن تجمّعات البدو الرحّل هي التي حافظت بإصرار على الاستقلال الأبجدي لسكان شمال الجزيرة العربية. إذ لم تتمكّن الأبجدية الآرامية ولا النبطية من كسر أبجدية المسند الشمالي بين هذه التجمعات. وظلت مستعملة حتى تمكّنت الأبجدية العربية الحالية من إزاحتها. وأقدم النقوش العربية التي كُتبت بالمسند الشمالي تعود على الأقل إلى القرن السادس قبل الميلاد.
على أي حال، فقد تعايشت أبجدية المسند والأبجدية العربية الحالية فترة من الزمن. ولدينا عدد ضئيل جداً من النقوش المكتوبة بهاتين الأبجديتين معاً. خذ مثلاً النقش في الصورة أدناه من منطقة نجران، المكتوب بالأبجديتين العربيتين القديمة والحالية. يقول النقش بالأبجدية العربية الحالية، وحسب القراءة السائدة: «الهيثم بن بشر يؤمن بالله». ويقول بأبجدية المسند «الهيثم» فقط «بالأخضر»، وهو ما يعني أن النقش كان موجهاً لقارئ يقرأ بالأبجدية العربية الأحدث. لذا كان النص بالخط العربي أطول، وكان النص بالخط المسند مختصراً.
النقش مزدوج الأبجدية من منطقة نجران

بناء على القراءة أعلاه، فقد افتُرض أن هذا النقش كُتب في بداية الإسلام، أي في أوائل القرن السابع الميلادي. ذلك أن صيغة «يؤمن بالله» صيغة إسلامية. لكنني برهنت في ورقة لي على أن النقش من قبل الإسلام، وأنه يعود إلى القرن السادس الميلادي ربما. كما بينت أن النقش يقول: «الهيثم بن بشر يؤمّن بالحلة» وليس «يؤمن بالله». بالتالي، فهو نقش يتحدث عن تأمين القوافل التجارية في مكان يدعى «الحلة»، وهو على الأغلب المكان الذي تحلّ، أي تنزل، فيه مؤقتاً في مسيرها بين جنوب وشمال الجزيرة العربية. بذا فهو نقش يتحدث عن «عهود الأمان» التجارية التي أخبرتنا عنها المصادر الإسلامية القديمة.

نقش آخر مزدوج الأبجدية
وقد عثرتُ مصادفة على نقش آخر مكتوب بأبجدية المسند الشمالي وبالأبجدية العربية الحالية، كما نرى في الصورة أدناه.

الكتابة بالخط العربي الحالي إلى يسارنا، وهي مكتوبة أفقياً، والكتابة بخط المسند الشمالي إلى يميننا، وهي مكتوبة عمودياً، أي تُقرأ من الأعلى للأسفل. ويمكن القول إن قراءة المسند الشمالي أسهل بكثير من الخط العربي. فالحروف العربية متشابهة جداً في أحيان كثيرة. مثلاً: الحرف الثاني في النقش بالخط العربي قد يكون دالاً، أو ذالاً، أو راء. وكذلك الحرف الرابع، الذي قد يكون حاء أو جيماً أو خاء. كما أن الحرف الأخير يمكن أن يُقرأ حاء أو خاء أو جيماً أو حتى عيناً. بذا فالكلمة يمكن أن تقرأ «بديحج، بديجح، بذيحج، بزيحج، بزيجح، أو بزيجع إلخ». وهكذا فليس هناك يقين بسبب تشابه الحروف في الأبجدية العربية التي تطوّرت عن النبطية.

أما الكتابة بخطّ المسند إلى اليمين فسهلة ومؤكدة أو شبه مؤكدة. فقط حرف واحد من الحروف الخمسة يبدو غير مألوف لنا. فالحرف الأول من الأعلى هو الباء. أما الحرف الثاني فهو الزاي، وهو مختلف إلى حدّ ما عن زايات المسند الشمالي، لكن من المؤكد أنه زاي. أما الحرف الثالث، الذي يمثل شحطة صغيرة، فلا يمكن لنا إلا أن نقرأه ياء لأن الحرف الثالث هو الياء في الكلمة بالأبجدية العربية. وهو حرف منقوط ولا يمكن أن يقرأ إلا ياء. والنقشان يكرّران الاسم ذاته.
بناء عليه، فهذه هي المرة الأولى التي نعثر فيها على حرف ياء على شكل شحطة في كتابات المسند الشمالي. في العادة تكون مثل هذه الشحطة نونا. ومن دون المقارنة بالأبجدية العربية الأحدث لم يكن بإمكاننا قراءة هذه الشحطة على أنها ياء.
الحرف الرابع هو الحاء بكل تأكيد. أما الحرف الخامس فهو الجيم. في المسند شبه بين الجيم والعين في المسند الشمالي أحياناً. فالجيم في العادة ليست دائرة، بل زاوية أو شكل بيضوي. لكنها تكون أحياناً دائرة مثل العين. والفارق أن دائرة الجيم تحوي في داخلها نقطة، في حين أن العين غير منقوطة.
بذا فنحن مع الاسم «بزيحج» بالأبجديتين. وهو اسم علم لم أعثر عليه في القواميس العربية. وهكذا، فقد مكّنتني الكتابة بأبجدية المسند من قراءة الكلمة بالأبجدية العربية الحديثة بشكل صحيح. ولو لم يكن الكاتب قد كتب اسمه بأبجدية المسند، لكان من الصعب جداً قراءة الكلمة بأبجديتنا العربية.

بزيحج الثاني
وقد عثرت على الاسم «بزيحج» مكتوباً بخط المسند الشمالي فقط في نقش آخر، كما نرى في الصورة أدناه، مما يدل على أن الاسم كان متداولاً ومعروفاً. قبل الاسم هناك في ما يبدو لام الملكية. وهي ليست واضحة تماماً، لكن يمكن قراءتها في ما أظن.

أما الحرف الثاني فهو الباء بوضوح. الحرف الثالث هو حرف الزاي. وتصميمه أقرب إلى حرف الظاء في المسند الشمالي عادة. لكنه هنا زاي. والحرفان ينقلبان عن بعضهما في لهجات شمال الجزيرة العربية. الحرف الرابع هو الياء. وهي تشكل شحطة كما في النقش السابق. وهو ما يؤكد أن حرف الياء يكون أحياناً على شكل شحطة. أما الحرف الرابع فهو الحاء، وهو يختلف عن حرف الحاء في النقش السابق بأن له اذنين. الحرف الأخير جيم. وهو ليس واضحاً تماماً. لكنه في الأصل شكل بيضوي مفرغ من داخله كما أفترض. لكن الفراغ ضاع هنا. بذا فلدينا كلمة «لبزيحج». واللام للملكية. عليه، فبزيحج يعلن أن النقش ملكه، أي أنه هو من كتبه. لكن هناك احتمال أنه يعلن ملكيته للرسمة التي تحت النقش، والتي لوناها بالأخضر. بذا فالنقش يعني: لبزيحج هذه الرسمة، أو هذا الحفر.
والخلاصة أن الكتابة باللغة العربية أعمق في التاريخ بكثير من الأبجدية العربية الحالية. فلدينا نصوص عربية تعود إلى القرن السادس أو الثامن قبل الميلاد، وربما أبعد، بينما أقدم النقوش بأبجديتنا الحالية لا تعود إلى أبعد من القرن الثالث الميلادي. بذا فهناك ألف سنة من الكتابة سبقت الكتابة بأبجديتنا الحالية.
* شاعر فلسطيني