لا خلاف بين النّقاد في إيرلندا على أنّ رواية «صلصال قذر في فناء الكنيسة» (The Dirty Dust) المنشورة عام 1949 هي أفضل أعمال النثر الأدبيّ باللّغة الإيرلنديّة على الإطلاق و«واحدة من أبرز إنتاجات الأدب الأوروبي المعاصر»، وتحفة تامّة «لا يمكن الجدال بشأن أهميتها» منحت كاتبها ميرتين أوكادهاين (1906-1970) مكانة الصف الأوّل بين الكتاب الإيرلنديين جنباً إلى جنب مع صموئيل بيكيت وجيمس جويس.

أوكادهاين الذي ولد لعائلة فلاحين يتحدثون الإيرلنديّة يقطنون الساحل الغربي الوعر للبلاد، سرعان ما طوّر وعياً اشتراكياً وشارك في تأسيس منظمة ناضلت من أجل حقوق الأرض واللّغة للإيرلنديين الصّغار. ولذا، فإن خياره الكتابة باللغة المحليّة لشعبه كان تجسيداً لمواقفه السياسيّة المعادية للاستعمار. ولكن على مدى ما يقرب من سبعين عاماً، ظل نصّ «الصلصال القذر» العبقري بعيداً عن متناول معظم القرّاء الإيرلنديين لأنه كتب بالغيلية أي اللغة الأصليّة للجمهوريّة، وهي لغة لا يتحدثها سوى عدد قليل منهم بعد خمسة قرون من الاستعمار البريطاني للجزيرة، الذي فرض لغته بلا هوادة كواحدة من أمضى أدوات الهيمنة الاجتماعيّة والثقافيّة على الإيرلنديين. لم يتم نقله إلى الإنكليزيّة إلّا منذ وقت قريب، أي بعد حوالى سبعين عاماً على ظهور الطبعة الأولى. سرت شائعات بأن أوكادهاين رفض السّماح بترجمة روايته إلى لغة العدو، لكن الحقيقة أن العقد الأصلي مع الناشر تضمّن فترة انتظار لسنتين قبل إمكان إطلاق نسخة مترجمة إلى اللّغات الأخرى. بذل الناشر بعدها جهوداً ملموسة للبحث عن مترجم يضمن المحافظة على قيمة النص وروحه بين اللغتين. لكن الأمر بدا مستحيلاً لأن جميع المؤهّلين للقيام بمثل تلك المهمّة، أشفقوا من تحمّل مسؤوليّة مواجهة نصّ متجذّر في ثقافة الإيرلنديّ كما «صلصال قذر في فناء الكنيسة»، لأن الإخفاق سيكون وصمة لن تزول أبداً. واضطر الناشر لإجراء مسابقة مفتوحة لاستقطاب مترجمين شجعان. بعد مراجعة نماذج عديدة تقدّم بها عديدون، منح عقد الترجمة إلى امرأة شابة. لكن والدتها أعادت العقد بالبريد وقالت في رسالة أرفقتها بأن ابنتها لن تقدر على الترجمة «لأنها ترهبنت، والتحقت بالدّير منذ أسابيع». وتعثّرت محاولات تالية لإقناع عدد من الشعراء والمثقفين الإيرلنديين بإنقاذ الموقف رغم أن ناشراً جديداً (كلو آير شوناخت) اشترى في عام 2009 أعمال الناشر الأصلي تحديداً للاستحواذ على حقوق «صلصال قذر». لم تفكّ اللّعنة إلا حديثاً بصدور ترجمتين متتابعتين إلى الإنكليزيّة، إحداهما صدرت في إيرلندا (كلو آير شوناخت)، فيما نشرت الأخرى في الولايات المتحدة عن (مطبعة جامعة ييل). ومع أن بعضهم وجد صدور الترجمتين في وقت متقارب نوعاً من إفراط في تصحيح الهفوة التاريخيّة، وبوابة عبور عالميّة إلى أعماق نص استثنائيّ كان لعقود مقصوراً على مجموعة قليلة من المتحدثين بلغة قديمة بالكاد استعيدت من حافة الانقراض، إلا أنّ تباين الترجمتين الشديد سبّب حيرة لدى القراء. وجد كثيرون أن لا مفرّ في النهاية من قراءة كليهما وربما بالتّوازي لاختبار قراءات متفاوتة لذات النّص العنيد.
«صلصال قذر» رواية مشغولة بالسخريّة السوداء لا أحياء بين شخصياتها ولا حتى أرواح هائمة. تبدو أقرب إلى سجل لثرثرات موتى جثثهم محتجزة في توابيتهم المدفونة بفناء كنيسة ريفية على الساحل الغربي لإيرلندا زمن الحرب العالمية الثانية. تتكشف القصة عبر حوارات مع وصول الموتى الجدد إلى المقبرة، حاملين أخبار الأحداث المحلية الأخيرة إلى أولئك الساكنين أبديّاً في توابيتهم. لقد ترك هؤلاء الراحلون وراءهم عالماً مُتخماً بالشقاء في الرّيف الإيرلندي حيث يحصل النّاس على رزقهم من خلال تنازع البطاطا مع التربة الصخرية، ومن ثمّ يقضون بقيّة أوقاتهم في المشاحنات المريرة والمهاترات التافهة مع بعضهم في قرى تأخذ هويتها من تضاريس الأرض القاسية. ولذا، فإن حوارات الموتى الغارقين في ذاتية خانقة تأتي بدورها متبّلة بالقيل والقال، والمغازلات، والحزازات، والادعاءات الفارغة والفضائح التي جلبوها معهم، وفي خلفيتها تتبدّى سخافة الحياة البشرية وتفاهتها كثيمة تجمع بين تجربتي الحياة والموت معاً.
ومع أن «صلصال قذر» رواية محليّة بامتياز، إلا أنّ صفاء محليتها هي سرّ عالميتها في آن: الانشغالات البشريّة التي يصفها موتى إيرلندا لا تكاد ــ عند تحييد اللغة ــ تختلف بأي شكل عن الانشغالات التي قد تسمعها من الأحياء رفاق مقهى في بيروت أو ركّاب حافلة في بكين أو رواد حانة في لندن.