صدرت أخيراً عن «دار الرافدين» مذكرات ألكسندرا تولستوي، الابنة الصغرى للكاتب الروسي الكبير تولستوي بعنوان «الحياة مع الأب» بترجمة عن الروسية من فالح الحمراني الذي صدّر الكتاب بالسياق الذي وُلدت فيه هذه المذكرات: «تروي الكسندرا في مذكراتها عن حياة وعمل ليف نيكولايفيتش تولستوي في الخمس وعشرين سنة الأخيرة من عمره أي المرحلة الثانية من حياة تولستوي، التي ظهر فيها مفكّراً وداعية للإخوة الإنسانية، وعدم مقاومة العنف بالعنف، ونشَر فكرَه عن مفهومه للدين الحق والعدالة. هي الفترة التي حظي خلالها بالاعتراف العالمي بعبقريته، كأديب ومصلح اجتماعي، وتقدّم ألكسندرا صوراً معبرة للشخصيات التي تواصلت مع ليف تولستوي، وتعرض أنشطته الاجتماعية على نطاق واسع، وتستكمل ذكريات الابنة الشخصية بمذكرات الأقارب والأصدقاء والوثائق والتقييمات النقدية للكاتب العظيم».

قبل الفترة التي دونت فيه الكساندرا مذكراتها معه، كان تولستوي (1828 ـــ 1910)، يعيش وضعاً عائلياً صعباً، ولا سيما مع زوجته بعدما تنازل عن حقوق مؤلّفاته لناشره. ما فتح المعركة باكراً داخل العائلة حول إرثه المادي والمعنوي: «إن الوضع صعب للغاية في الأسرة». كما أشار في مذكراته في 4 نيسان (أبريل) 1884: «اعتبر كل أفراحهم، والاختبار، والنجاحات الدنيوية، والموسيقى، والجو العائلي، والمشتريات، تعاسة وشراً لهم ولا أستطيع أن أبوح لهم بهذا». وبدا له أنه «المجنون الوحيد في دار المجانين». وبلغ الأمر بصاحب «الحرب والسلام» أن ترك قريته ياسنايا بوليانا مكدراً غاضباً، بيد أنه عاد من «منتصف الطريق»، لأنه كان لا بد أن يولد المولود الثاني عشر. «بدأ المخاض، أكثر اللحظات بهجة وسعادة في الأسرة مرت كشيء غير ضروري وصعب». وبخَ تولستوي نفسه. في صباح يوم 18 حزيران (يونيو) 1884، ولدَت في عائلة تولستوي فتاة سُميت ألكسندرا. لم يعرف تولستوي حينها أن هذه الفتاة التي استقبلها ولادتها بوجوم، ستأخذ مكاناً كبيراً في حياته وقلبه، وتتشبع بآرائه الدينية والأخلاقية المتنورة، وإن حبها المخلص الذي شملته به، سينير له سنوات الغروب. لم يكن تولستوي يعرف حينها أنه ستتشكل من هذه الطفلة شخصية شاملة، نشطة، حرة داخلياً، ترفض العيش في الكذب، وذات طبع متمرّد. كان يجهل أنّ أمام هذه الفتاة طريقاً شائكاً، وأن الحرب ستحرقها، وسيتعين عليها المرور عبر السجون والمعتقلات، وينتظرها النفي والافتراق عن روسيا وعن ياسنايا بوليانا التي تحوّلت بجهودها إلى متحف يخلّد ذكرى والدها.
مرت ألكسندرا تولستوي بما يشبه معمودية النار للحؤول دون النيل من اسم والدها العبقري، في طريق وعر محفوف بالمحن القاسية، ما تطلب منها قوة روحية وجسدية وشجاعة زائدة. لم يكن يدور في خلد تولستوي حينها أن ابنته كانت صاحبة موهبة أدبية، وأنها باتباع نصيحته بكتابة يوميات، عن الانطباعات، والحياة مع الأب، سيخلق راوية مذكرات، ذات أسلوب سردي أنيق. سمعتْ «كاتبة اليوميات» مرات عدة من والدها: «أنا بحاجة إلى حبك»، وقد حصل عليه بالكامل، وليس من قبيل المصادفة أن الابنة الصغرى، كانت الوحيدة من بين أقاربه، التي عرفت بسرّ هروبه الثاني من ياسنايا بوليانا بفعل المشاكل مع الزوجة والأبناء، وساعدت في الاستعدادات المستعجلة للرحيل في ليل 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1910، وعرفت بمكان وجوده. وبناءً على طلبه، ذهبت إلى دير «شاموردينو» وقطعت الطريق حتى محطة «أستابوف» حيث لقي حتفه. بعد وفاة تولستوي، قامت الابنة في 1911، مع ناشره تشيرتكوف بنشر طبعة من ثلاثة مجلدات من «الأعمال الأدبية غير المنشورة»، التي تركها ليف تولستوي بعد وفاته. ووفقاً لرغبة والدها، اشترت بعوائدها أرض ياسنايا بوليانا وأعطتها للفلاحين، كما يرد في المذكرات: «في ظل البرد والجوع والدمار ورعود الحرب الأهلية، تخطت مجموعة صغيرة من علماء الأدب واللغة عتبة الغرفة المخصصة لهم في متحف روميانتسيف، وقاموا بتفكيك، وتنظيم، وتحقيق مخطوطات الكاتب، التي تم طيها عشوائياً في صناديق. لم تتم تدفئة المتحف وانفجرت أنابيب المياه، كما جرى في كل مكان في موسكو. وعملنا ونحن في معاطف الفرو، وأحذية اللباد، وقفازات محبوكة... وعلى الرغم من هذه الظروف الفظيعة من البرد في مبنى حجري غير مدفّأ ذي جدران تجمدت تماماً، أكثر شدة من البرد في العراء، نسينا البرد والجوع، وقرأنا مقاطع جديدة من «الحرب والسلام» وفرحنا مثل الأطفال عندما تمكّنا من فك الكلمات الصعبة... لقد ولع الجميع على الإطلاق بالعمل وقمنا بتحقيق نصوص اليوميات، وقراءتها عدداً لا يُحصى من المرات، وعثرنا على المزيد والمزيد من الأخطاء. تم استخدام جميع قوائم الجرد التي تم تجميعها، ووضع الأرشيف المنظم، والنصوص المصححة من أخطاء النسخ في إعداد الأعمال الكاملة الأساسية لتولستوي المكونة من تسعين مجلداً».
مقاربة المرحلة الثانية من حياته حين صار داعية للإخوة الإنسانية


ألقي القبض على الكسندرا في آذار (مارس) 1920، ارتباطاً بقضية المنظمة السياسية المعروفة باسم «المركز التكتيكي» وتم استجوابها من قِبل محقق اللجنة الاستثنائية لعموم روسيا لمكافحة الثورة المضادة المعروف ياكوف أغرانوف. في آب (أغسطس) 1920، حكمت عليها المحكمة الثورية العليا بالسجن ثلاث سنوات في معسكر اعتقال في «دير نوفوسباسكي» في موسكو. كانت تهمة ابنة تولستوي تتمثل في أنها وفرت شقة للاجتماعات للمضادين للثورة، وبفضل رسالة وجهتها إلى لينين وبجهود الفلاحين في ياسنايا بوليانا، وصل قرار العفو في الوقت المناسب، فبارحت ألكسندرا معسكر «دير نوفوسباسكي» في صيف 1921، لتكون لفترة مديرة لـ «متحف تولستوي» قبل أن تتخذ قرارها بترك روسيا إلى الأبد وتستقر في الولايات المتحدة.
في كلٍّ من اليابان وأميركا، كرست ألكسندرا وقتها لإلقاء محاضرات حول تولستوي، وحياته، ونظرته إلى العالم والأدب، وكذلك روسيا التي كانت برأيها تنتقل إلى القبضة الحديدية للديكتاتورية الستالينية الاستبدادية. تم الكشف عن الموهبة الأدبية لألكسندرا تولستوي بكل أصالتها في فن كتابة المذكرات الذي بدأته في موسكو، بعدما نشرت مقالاً بعنوان «عن رحيل وموت ليف تولستوي»، وعادت له خلال المنفى، حيث هيمنت قصص الماضي على كتاباتها. نتيجة لذلك، ظهرت سلسلة المذكرات من خمسة أجزاء مستقلة، التقط كل منها بالترتيب الزمني أجزاء من سيرتها الذاتية. انتهى كتاب «الابنة» في عام 1939 وهي الفترة التي تأسست خلالها في الخارج «مؤسسة تولستوي الخيرية». كما جربت الابنة الكتابة الروائية، فنشرت عام 1942 في ثلاثة أعداد في مجلة «نيو جورنال» نيويورك روايتها «ضباب ما قبل الفجر» التي لن تنهي كتابتها قبل وفاتها (1979). في السنوات اللاحقة، ساعدت المؤسسة العديد من المهاجرين من الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم الكاتب الروسي/ الأميركي الشهير فلاديمير نابوكوف، على الإقامة في الولايات المتحدة في عام 1942. ترأست ألكسندرا تولستايا في عام 1952 المجلس العام لـ «دار تشيخوف للنشر» التي أُنشئت في نيويورك. «الحياة مع الأب» هو أحد الأجزاء الخمسة من مذكراتها. وقد أتاح بالسرد الوثائقي الممتع للقارئ الروسي والأجنبي أن يتعرف بشكل كامل ومفصل إلى تاريخ حياة العبقري الروسي، وولادة كتبه العظيمة، وأعماله الإنسانية، وخطبه الشجاعة ضد الحكومة القيصرية، وتقلّبات روحه، والعلاقات مع أفراد الأسرة ولا سيما العلاقة الشائكة مع الزوجة، والأدباء المعاصرين. حظي الكتاب بنجاح كبير، وتُرجم إلى الدنماركية والإسبانية والفنلندية والفرنسية والسويدية واليابانية وأخيراً إلى العربية: «بعد كل شيء، هذا الكتاب الذي أكتبه ليس أمراً هيناً، سيبقى بعدي. لم يكن من السهل عليّ رواية الماضي، مع اختلاج مشاعري المعقدة. كنت أخشى من الاتهامات بالتحيّز، ورسم صورة مفرطة السلبية لوالدتي. أنا حزينة، لأنني أكتب عن أبي وأتذكر كيف أحببنا بعضنا في العام الأخير من حياته، أكتب وأبكي حتى أنّ عيني تلبدت تماماً، ولم أعد أستطيع الكتابة».