لدينا النصّ أدناه لسوزومين- وأنا ترجمته عن الإنكليزية- من كتابه المعروف باسم The Ecclesiastical History of Sozomenus (التاريخ الكنسي لسوزومين). وُلد سوزومين في عائلة مسيحية فلسطينية ميسورة عام 400 م في بلدة «بيت إيليا» قرب مدينة غزة. درس القانون، وعمل محامياً. وبدأ بتأليف كتابه عام 440 م وأنهاه عام 448 م. وتوفي عام 450 م. وُضع هذا النص تحت المجهر من قبل الباحثين في السنوات الأخيرة في سياق الاهتمام ببدايات الإسلام، أو ما يسمى عند الباحثين بـ «الإسلام المبكر» (1). فهو يتحدث عن معبد، أو مكان مقدّس، يمثل ما يمكن تسميته بشرعة إبراهيمية، أو ديانة إبراهيمية، مختلفة عن المسيحية واليهودية، وإن كانت على تماس معهما، في منطقة الخليل في فلسطين. وهو يتحدث عن هذه الشرعة عبر الحديث عن عيد ديني كبير يقيمه «الفينيقيون والعرب» في فلسطين وما حولها عند «بلوطات ممرا»، التي تقع قرب مدينة الخليل، والتي ورد ذكرها في التوراة: «وظهر له الرب [لإبراهيم] عند بَلُوطات مَمْرَا وهو جالس في باب الخيمة وقت حرّ النهار» (تكوين 18: 1). أو عند «البُطمات» كما كانت تسمى في وقت سوزومين أيضاً، وحسب نصه. وهذا العيد الذي يتمحور حول إبراهيم وحول الملاك المرتبط به، يحتفل به المسيحيون واليهود والوثنيون العرب. أي يحتفل به الوثنيون والموحّدون معاً. وقد أثار الاحتفال غضب الإمبراطور قسطنطين حين عرف بأمره. إذ رأى فيه عيداً وثنياً نجساً، فدمّر المعبد، وبنى مكانه كنيسة. وقد أيّدت الحفريات الأثرية في فلسطين في السنوات الأخيرة وجود مركز لديانة إبراهيمية في صحراء النقب التي تقف مدينة الخليل عملياً على أطرافها. فقد عُثر على عشرات النقوش التي تحمل الاسم إبراهيم، ما يعني وجوداً قوياً لديانة تقدّس إبراهيم في المنطقة. لذا، يمكن القول بأنّ جنوب فلسطين، مضافاً إليه منطقة الخليل، كان مركزاً لديانة ذات طابع إبراهيمي.
والنقطة الأهم في النص تتمثل في أن مجموعات عربية كانت تتبع هذه الديانة. وهو ما جعل بعض الباحثين يتحدث عن وثنية عربية فيها سمات توحيدية. وبحكم الصلة التاريخية العميقة بين جنوب فلسطين وشمال الجزيرة العربية، فإنه يمكن الافتراض بأن هذه الديانة كانت لها امتدادات في شمال الجزيرة العربية، أو أنها امتدت إلى هناك.
وبما أن الإسلام هو ديانة إبراهيمية، كما يؤكد القرآن مرة بعد مرة، فإن المرء يجد نفسه ملزماً على الربط، بشكل ما، بين مكة الإبراهيمية وبين مركز الديانة الإبراهيمية في الخليل والنقب في جنوب فلسطين.
ويؤيد هذا الربط الصلات التي حدثت لاحقاً بين النبي محمد وبين منطقة الخليل في فلسطين بعد البعثة وقبلها في أغلب الظن. فنحن نعرف أن وفداً من منطقة الخليل برئاسة تميم بن أوس الداري اللخمي وفد مع مجموعة من عشيرته على الرسول في يثرب في السنة التاسعة للهجرة وأعلن إسلامه، بعدما كان مسيحياً. وتشير دلائل قوية إلى أن تميماً هذا كان من بلدة «بيت جبرين»، التي تقع على بُعد 20 كلم شمال غرب الخليل. ويؤيد هذا أنّ تميماً دُفن في هذه البلدة.
ويبدو أن هذه البلدة كانت مركزاً للديانة الإبراهيمية قبل الإسلام، بدلالة اسمها ذاته. فجبرين صيغة من الاسم «جبريل» ملاك الشرعة الإبراهيمية وملاك الوحي المحمدي. لذا فالبلدة سُميت في ما يبدو باسم هذا الملاك: بيت الملاك جبرين- جبريل. وهو ما يعني أن البلدة كانت في ما يظهر معبداً لجبرين، الذي كان في الأصل إلهاً، ثم نزل إلى مرتبة ملاك لاحقاً. وهذا الإله- الملاك نظير الإله- الملاك ميكائيل ونقيضه. وقد كان ميكائيل معبوداً في بئر السبع في شمال النقب منذ ما قبل الميلاد. فهناك مسلّة قدّمها المسؤول المصري عن المدينة لإله يدعى «ميكال» في القرن 13 ق.م. ولأن تراث بيت جبريل الإبراهيمي كان قوياً، فإنه يمكن الافتراض أن مسيحية تمام أيضاً كانت تحمل بصمات إبراهيمية.
على أيّ حال، فقد أقطع النبي تميماً الداري أرضاً في منطقة الخليل. وبناءً على ما يبدو لي أنه النص الأقدم لكتاب هذا الإقطاع، فإن الرسول منحه أرضاً في «حبري» و«بيت عينون». ويعتقد على نطاق واسع أن «حبري» تحريف لـ «حبرون»، الاسم القديم للخليل. لكنني أعتقد أن «حبري» تصحيف لـ «جبرين». وإذا صحّ هذا، يكون الرسول قد أقطع تميماً أرضاً في بيت جبرين التي هي بلدة تميم في ما يظهر.
وثمة إشكال معروف في هذا الإقطاع: فهل أقطع الرسول تميماً أرضاً كان يملكها الرسول ذاته، أم أنه أقطعه أرضاً بناءً على ما سيحصل لاحقاً، أي بناءً على فتح فلسطين الآتي؟ الغالبية الساحقة ترى أنه أقطعه أرضاً بناءً على حقوق الفتح الآتي. أما أنا فأميل إلى أن الرسول أقطع تميماً أرضاً من أملاكه الخاصة في منطقة الخليل. وهي أرض ربما كان قد اشتراها أثناء رحلاته التجارية إلى الشام، أو أنه ورثها عن عائلته. يؤيد هذا أنّ إقطاع تميم كان الإقطاع الوحيد للرسول في الشام. ولو كان الأمر يتعلق بإقطاع ما بعد الفتح، لسمعنا أن الرسول أقطع آخرين في مناطق أخرى من بلاد الشام. لكننا لم نسمع بهذا. فقد كان إقطاع تميم هو الإقطاع الوحيد للرسول في الشام.
البلدة كانت مركزاً للديانة الإبراهيمية قبل الإسلام، بدلالة اسمها ذاته، فجبرين صيغة من الاسم «جبريل»


وإذا كان الرسول يملك أرضاً في بيت جبرين، التي تقع في الطريق إلى «غزة هاشم» التي هي المحطة الأخيرة للتجارة العربية إلى الشام قبل مصر، فهو يعني أنه كان على معرفة جيدة بمنطقة الخليل وبتقاليدها الدينية وعلى رأسها التقليد الإبراهيمي، قبل البعثة. وقد صرنا نعرف، وانطلاقاً من حفريات النقب الحديثة، أن التقليد الإبراهيمي، المرتبط بطراز من الوثنية، ظلّ، وبناءً على الحفريات الحديثة، موجوداً في النقب حتى الإسلام، بل وظل حياً حتى القرن الثامن الميلادي.
بناءً على كل هذا، يمكن للمرء أن يفترض أنّ بدايات الإسلام قبل البعثة ربما تكون قد تشكّلت، كلياً أو جزئياً، في فلسطين. الوحي تشكل في مكة. أما ما قبل الوحي، أي الأرضية التي نهض عليها الوحي، فقد تشكّلت في بيت جبرين والخليل.
في كل حال، فنصّ سوزومين نص مهم جداً. وهو بحاجة إلى تأمل لإظهار عناصره وتفسيرها. لكنّ المجال هنا لا يتسع لمثل هذا التأمل. لذا يمكن الحديث عن عنصرين اثنين فيه: الأول: وقد تنبه له بعض الباحثين وهو الشبه بين المعبد الإبراهيمي في الخليل والمعبد المكي (2). فلكلا المعبدين بئر. ففي مكة هناك بئر زمزم، وفي الخليل هناك بئر شجرة البطم، أو بئر بلوطات ممرا. والحق أن التوراة في قصة إسحق وإبراهيم تحدثنا عن بئر تدعى «بئر سبع» أيضاً، التي يبدو أن اسم مدينة «بئر السبع» على علاقة بها. وهو ما يعني أن الديانة الإبراهيمية، أو ما يشابهها من معتقدات، مرتبطة ببئر دائماً.
الثاني: أن سوزومين يخبرنا بأن المحتفلين بالعيد لا يسحبون الماء من البئر. وقد افترض سوزومين أن ذلك ناتج عن أن الماء لا يصلح للشرب بسبب ما يُلقى في الماء من تقديمات. لكن يبدو لي أن هذا التفسير غير صحيح. إذ يبين لنا وصف سوزومين أن العيد صيفي. وحسب ما بينت في كتبي عن الحج المكي، فإن الحج الصيفي المكي مرتبط بالنبيذ لا بالماء. أي أن الحجيج يُسقى فيه النبيذ لا الماء. لذا تكون «سقاية الكعبة» مملوءة نبيذاً في هذا الحج. أما في الحج الخريفي فتكون مملوءة ماء. يؤيد هذا قول سوزومين أنّ الحجاج يسكبون نبيذاً في البئر. وهو ما يشير إلى العنصر الخمري الذي نتحدث عنه. والعنصر الخمري مرتبط بميكائيل لا بجبريل في ما أرى. وإذا صح هذا يكون سوزومين قد شهد عيد ميكائيل لا عيد جبريل، لكن في منطقة معروفة بتقليدها الإبراهيمي العميق. فحجّ جبريل خريفي لا صيفي. وهو حج مائي لا خمري. لكنّ ميكائيل في النهاية هو الوجه الآخر لجبريل. وهما معاً وجها الكون-الإله.

نصّ سوزومين
«أعتقد أنه من الضروري تفصيل إجراءات قسطنطين في ما يتعلق بما يسمى بلوط ممرا. وهذا المكان يسمى الآن «تيريبينثوس» [البطمات]، وهو يبعد حوالى خمسة عشر ستاديوم [2.5 كلم تقريباً] عن الخليل، التي تقع إلى الجنوب على بُعد مائتين وخمسين ستاديوم عن القدس. هنا ظهر ابن الله لإبراهيم مع ملاكين أرسلا ضد سدوم وتنبؤوا له بميلاد ابنه. وهنا يجتمع سكان البلاد والمناطق المحيطة بفلسطين، فينيقيين وعرباً، سنوياً خلال موسم الصيف لإقامة عيد رائع؛ هذا إضافة إلى عديدين، مشترين وبائعين، يأتون إلى هناك إلى هذا التجمع. وفي الواقع، فإن هذا العيد تتردد إليه كل الأمم: اليهود، لأنهم يفاخرون بنسبهم إلى رئيس الآباء إبراهيم؛ الوثنيون، لأن الملائكة ظهروا للبشر هنا، والمسيحيون، لأنه من أجل خلاص العالم وُلد المخلص من عذراء، حيث أظهر نفسه بعد ذلك لرجل تقي هنا.
علاوةً على ذلك، فقد كُرّم هذا المكان بشكل ملائم بالممارسات الدينية. يصلي هنا بعضهم لربّ الكل. وبعضهم يدعون الملائكة، أو يسكبون الخمر، أو يقدمون بخوراً، أو ثوراً، أو تيساً، أو نعجة، أو ديكاً. وكل واحد منهم أنتج شيئاً جميلاً من عمله، وبعد أن جوّده بعناية طوال العام بأكمله، قدّمه في هذا العيد، وفقاً لنذر، عنه وعمّن يعول.
وهم يمتنعون [في هذا العيد] جميعاً عن زوجاتهم إما لكرامة المكان، أو بسبب الخوف من الغضب الإلهي، على الرغم من أن هؤلاء النسوة اهتممن خلال العيد بجمالهن وزينتهن. وإذا صدف أن شاركن في المواكب العامة، فإنهن لا يتصرفن على الإطلاق بشكل فاضح. كما أنهن لا يتصرفن بلا حكمة في أي مجال آخر، على الرغم من أن الخيام متلاصقة، والناس مختلطون معاً.
المكان أرض مفتوحة، صالح للزراعة، ومن دون منازل، باستثناء المباني المحيطة ببلوط إبراهيم القديم والبئر التي أنشأها. ولا أحد ينضح الماء من تلك البئر في العيد. وتبعاً لممارسات الوثنيين يشعل بعضهم مصابيح قربها، في حين أن آخرين يصبّون فيها النبيذ، أو يلقون الكعك، وآخرون العملات المعدنية، أو المر، أو البخور. ومن ثم، يصير الماء، في ما أفترض، عديم الفائدة بعد أن اختلط بالأشياء التي ألقيت فيه.
وذات مرة، وأثناء الاحتفال بهذه العادات من قبل الوثنيين، بالطريقة المذكورة، وبالمرح المعتاد، حضرت حماة قسطنطين للصلاة، وأبلغت الإمبراطور بما كان يحدث. وعند تلقيه هذه المعلومات، وبَّخ أساقفة فلسطين لأنهم أهملوا واجبهم، وسمحوا بتدنيس هذا المكان المقدّس بالتقديمات والأضحيات النجسة. وقد عبر عن لومه الإلهي في رسالة كتبها حول هذا الموضوع إلى مكاريوس، أسقف القدس، ويوسابيوس بامفيلوس، وإلى أساقفة فلسطين. وقد أمر هؤلاء الأساقفة بعقد مؤتمر حول هذا الموضوع مع الأساقفة الفينيقيين، وأصدر توجيهات بهدم المذبح الذي أقيم هناك سابقاً من أساساته، وتدمير الصور المنحوتة بالنار، وإقامة كنيسة تتناسب مع هذا المكان المقدّس القديم جداً.
وأمر الإمبراطور أخيراً، وعلى الفور، بعدم إراقة التقديمات أو الأضاحي، وبإقامة كنيسة تُكرس حصرياً لعبادة الله وفقاً لقانون الكنيسة؛ وأنه في حال القيام بأي محاولة لاستعادة الطقوس السابقة، يجب على الأساقفة إبلاغ الجانح بأنه قد يتعرض لعقوبة شديدة. وقد طبّق الحكام وكهنة المسيح الأوامر الواردة في رسالة الإمبراطور بصرامة.
1- G.R. Hawting, The Idea of Idolatry and the Emergence of Islam From Polemic to History, 1999, Cambridge University Pres.
2- Sean W. Anthony, Why Does the Qur›an Need the Meccan Sanctuary? Response to Professor Gerald Hawting›s 2017 Presidential Address
https://www.academia.edu/40662088/Why_Does_the_Quran_Need_the_Meccan_Sanctuary_Response_to_Professor_Gerald_Hawtings_2017_Presidential_Address
* شاعر فلسطيني