1. آلام الاستيقاظ مبكراًأسمع خطوات خفيفة تتجوَّل في البيت، يبدو أنّ رغبتي في النهوض نهضت قبلي كالعادة. أسمع صوت ولاعة بالكاد تشتعل من أوّل ضغطة، أشمّ الآن رائحة القهوة تفوح، وخبز محمّص يندفع من آلة التحميص فتصدر يد ضوضاء خفيفة وهي تحاول الإمساك به قبل أن يقع على البلاط، هناك بين الغرف جلس اثنان: الرائحة ورغبتي، يتحدَّثان عن امرأة نائمة منذ ثلاثة أشهر في الفراش تحاول النهوض من حضن رجل قال لها: سأستيقظ بعد ربع ساعة.
جُوسْ بلانْشَارْ: زحمة سير (زيت على قماش، 2020)

2. مدينة في الرّحم
تجلسُ امرأة قبالتي في الحافلة، تخرج من صدرها منديلاً تبلله بالحليب ثمَّ تعيده إلى مكانه، تضمّ يديها إلى بعضهما كمهد، وتبدأ بهدهدة كل الأشياء التّي لا تريدها أن تكبر، كالحزن مثلاً الذّي لا يستطيع أن يبقى لساعتين على حجمه فنضطرّ لشراء ابتسامات أكبر لتغطيته جيّداً من جديد، أضع سمّاعات هاتفي في أذني، خالد يغنّي «وهران رحتي خسارة» بينما تقطع بنا هذه المقاعد أحياء لأوّل مرّة تبدو على شكلها المتشقق، يبدو أنّ الطلاء لم يعد ينفع لتغطية شقوق الذاكرة، شاهدتُ طفلة بضفائر ذهبية تحاول الوقوف على قدميها لأوّل مرّة ولا أحد هنالك يصفق لها، وحينما التفت العالمُ نحوها كانت قد تعبت وسقطت على الأرض ابتسامتها. في شارع الموالي رأيتُ مدرسة مهجورة تطلّ منها معلّمة تحاول حفظ درسها من جديد، فمنذ عشرين سنة وهي تنتظر حصّتها ولم يدقّ الجرس بعد، في الصّف الذّي بجوار نافذتها تلاميذ كثر بعمر السادسة والعشرين نسيتهم الأسئلة داخل ورقة الامتحانات وها هم عالقون كأجوبة تبحث عن علامات استفهامها، «أريدُ أن أنزل» قلت دون أن يسمعني أو يلتفت إليّ السائق، رأيتُ أمّي وقتها تقطع الطريق أمام الحافلة حاملةً في يدها قبعة الصّوف تبحث بين الأطفال عن رؤوسنا لتضعها عليها، كان صوتي صامتاً جدّاً إلى حدّ أنَّني حينما ناديتها بعينين مليئتين بالزجاج اختلطت عليها النوافذ، أنا الآن بلا حراك أشاهد المدينة التّي في داخلي تنتفخُ في رحمي ولا أستطيع تغطيتها بالملابس الضيقة..
المرأة قبالتي تراقب الآن بطني وبقعاً تكبر على كنزتها، الحليب المدهون بدأ يظهر للعيان، يبدو أنّه حان بكاءٌ في رغبتها ولم تستطع إرضاعه. ترفع عينيها وتسألني: — هل أجد في رحمك بيتاً جائعاً ضاقت عليه أحزانه؟

3. عمل الذهاب إلى العمل.
استيقظ مرعوباً من تأخره، المنبّه كعادته لم يرنّ في وقته، هنالك من يعيد تعديل ضبطه دائماً حينما ينام، ينهض متأخراً جدّاً على غير عادته، وهو يصرخ في وجه كلّ من يصادفه، ينزل الدّرج كمسعور.
يلقي السلام على من يلتقيه وهو يقول: «لقد تأخرت، تأخرت»، يركض في الشارع. يصعد الحافلة المكتظة، ينظر إلى ساعته في كل وقت وهو يتأفّف، يصيح وسط الحشود: «هل لك أن تسرع قليلا أيها السائق؟ لقد تأخرت». يتفقّد المحفظة التّي يضعها على ظهره: «لقد نسيت الملف أنزلني هنا أريد أن أعود إلى محطتي الأولى». يركض من جديد في الشوارع، وحينما يقترب من بيته يتذّكر أنّ الأوراق التّي عاد لأجلها في درج مكتبه، فيوقف حافلة مكتظة، ينظر إلى ساعته ويتأفَّف مجدَّداً: «هل لك أن تسرع قليلاً أيها السائق؟ هذه المرّة تأخرت كثيراً كثيراً». هكذا يقضي وقته المشغول، يستيقظ يومياً مرعوباً من أن يفوته موعد العمل ثمّ يعود مساءً منهكاً من «عمل الذهاب إلى عمل» وينام دون أن يعدّل منبهه.
جيجل/ الجزائر