ترجمة وتقديم أسامة أسعدأوجين غيلفيك شاعر فرنسي وُلدَ في كارناك عام ١٩٠٧ وتوفي في باريس عام ١٩٩٧، بدأ مسيرته الشعرية في سن المراهقة، وتُرجمَت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة. كما أنه ترجم قصائد منتخبة لهولدرلن وغوته وتراكل وبرشت. من أعماله: «مراثي» (١٩٤٦)، «الحيطان» (١٩٥٠)، «أرض للسعادة» (١٩٥٢)، «كارناك» (١٩٦١)، «النشيد» (١٩٨٧-١٩٨٨)، «حاضرٌ» (١٩٨٧-١٩٩٧).
پورتريه للشاعر بريشة بيكاسو (حبر على ورق، 1963).

بالنسبة إلى غيلفيك، يكاد الشعر أن يكون تمريناً روحياً وطريقة في الحياة، فهو يقدّم العمل الشعري كفنٍّ في العيش من خلال إظهار الأسطوري في اليومي. هو لا ينظر إلى الشعر كنتاج أدبي فحسب، بل كجوهر للوجود في حدّ ذاته، هو حالة، حالة شعرية يمكن تعريفها كاختراق لأعماق هذا الوجود، وإدراك للحظة المعاشة في مجانيتها وتفرّدها وعجائبيتها. يقول: «الشعر هو فن تذوق المعنى الحميم للوجود، وبالتالي، فإن فعل الانفتاح على الحالة الشعرية يجعل من كل إنسان شاعراً محتملاً. هذا الانفتاح المتمثّل بالمشاركة والقرب يجعل من الشعر توتُّراً باتجاه الآخر وسعياً إلى التلاحم معه، وحضوراً ذا قيمة جذابة تتيح تجاوز عزلة الروح». لذلك، عندما يُسأل: — ما هي فلسفة الحياة التي وجدتَها في الشعر؟، يجيب: «أن تحب. أن تحب الحياة. أن تحب الناس والأشياء. أن تعيش في شراكة مع العالم. كل عملي على نفسي، في الكتابة، لأكثر من خمسة وسبعين عاماً، يقودني إلى هذا اليقين».
هذا الانفتاح والتواصل، يسمح له باكتشاف غيلفيك الإنسان والشاعر، فهذه العلاقة الضيقة بين الحياة والشعر تتيح له بناء جسور مع القارئ، إذ نراه لا يتردد في الحديث وبأبسط العبارات عن تجربته الحياتية، وأهوائه، وجوانب شخصيته، وشجاعته أو ضعفه.
الشعر يمدّنا بالقدرة على الصمود، فالحياة لحظات وأيام وأشهر وسنوات يقول، لذا ينبغي لهذه اللحظات أن «تؤثّثَ بالفرح، بالفرح المصنوع من القليل، من اللاشيء، كأن تحضّر قهوة الصباح أو تشاهد حمامة تعبر أو حجراً يتدحرج»
أخيراً، غيلفيك شاعر ينتمي إلى عصر ما قبل التاريخ كما كان يحب أن يعرّف نفسه، إذ لم يكن فقط يسعى إلى الاندماج في مجتمعه البشري، ولكن أيضاً إلى الاندماج في فضاء الأشياء وزمانها.
-----
[إلى سيلڤي]
لا أرى الطائر
قوياً بقفصه المفتوح
وهو يرتّل:
أبقى هنا
فليسقط الفضاء.
لا أرى الطائر
الذي لا يثق
بقوام الهواء.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
الذي لا يحلّق
إلّا لسروره ومتعته.
لا أرى الطائر
الذي يعلو دون نهاية
حتى تخور قواه.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
الذي يطوي عابراً
تحصينات الريح
■ ■ ■
لا أرى الطائر
الذي يأتيني
باحثاً عن ملجأ.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
الذي يرفض أن يفرّ جزعاً.
لا أرى الطائر
الذي قد يكون أخي
ولا ذاك
الذي لن يكون.
لا أرى الطائر
الذي لا يجعلني أرغب
أن أطير أفضل منه.
لا أرى الطائر
الذي يرغمني
على التفكير فيه وحده.
لا أرى الطائر
الذي يستبسل
أولًا ضد نفسه.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
مدمّراً عشّه
ويختال طرباً
■ ■ ■
لا أرى الطائر
الذي يحفر الجليد
بمخالبه
كيلا يُضني منقاره.
لا أرى الطائر
ساكناً الصحراء
فقط ليكون وحيداً.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
متخلّياً عن الصفير
في المتاهة.
لا أرى الطائر
يأتيني مستجوباً
عن هويته.
لا أرى الطائر
الذي يلعن الينابيع.
لا أرى الطائر
راغباً في اعتراض
مجرى الجدول.
لا أرى الطائر
الذي لا يعثر على
عشه في الغابة.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
وهو يبصق ثانيةً
قطعة من دود الأرض
■ ■ ■
لا أرى الطائر
رافضاً الشدوَ
كيلا يزعج السياج.
***
لا أرى الطائر
باحثاً عن المغامرة
ليتغلّب على الضجر.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
يحقد على السنديانة
لأنها تفقد أوراقها.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
الذي لا يعرف
التناوب على الشدو والصمت.
لا أرى الطائر
الذي يرى الليل والنهار
شيئاً واحداً.
لا أرى الطائر
الذي لا يضبط إيقاع
تقدُّم المساء.
لا أرى الطائر
الذي تضنيه
المشاركة في قبلة الشمس
كل مساء.
لا أرى الطائر
الذي يتوسّل السماء
لأنها اصطبغت بالدم.
لا أرى الطائر
الذي يستميت في خدش الليل.
لا أرى الطائر
راغباً في التحطّم
على جدار ليل.
لا أرى الطائر
الذي يقلّد الغيمة،
لكنّي أرى الغيمة
التي تقلّد الطائر.
لا أرى الطائر
يغازل الوردة،
لكنّي أراهما معاً
يغازلان الشمس الطالعة
وهي تنفض نفسها.
■ ■ ■
لا أرى الطائر
ولا أسمعه
يلامس الأبدية.