في عام 1999، اكتُشف في منطقة بين العلا والحجر (مدائن صالح) نقش على صخرة مؤرّخ بعام 24 هجرية يتحدث عن وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، ويؤكد تاريخ وفاته كما حدثتنا عنه الروايات الإسلامية. وقد اعتُبر أقدم نقش إسلامي مؤرخ يُعثر عليه وقتها. وقد نشر مكتشف النقش علي بن إبراهيم غبّان، وبمعاونة روبرت هويلاند، المادة الرسمية عنه بالإنكليزية عام 2008 (1). وليس من ضرورة هنا لوصف النقش. فالمادة المذكورة قدمت وصفاً وافياً له.


وحسب المادة المذكورة فالنقش يقول:
«بسم الله. أنا زهير كتبت زمن توفي عمر سنة أربع وعشرين»


وقد عُثر في مكان قريب من مكان النقش على نقش آخر يقول: «أنا زهير مولى ابنة شبة». وقد افتُرض أن النقشَين للكاتب ذاته. لكن لم يكن بالإمكان تحديد من هو زهير مولى ابنة شبهة بشكل دقيق.
وبناء على هذه القراءة، فالنقش يوحي، أو ربما يقرر حتى، بأن الخليفة عمر توفي عام 24 هجرية، على عكس رأي الغالبية الساحقة من الروايات الإسلامية التي تقول إن الخليفة طُعن في السادس والعشرين من ذي الحجة، الذي هو الشهر الأخير من سنة 23 هجرية، وتوفي بعد ساعات أو بعد يوم من ذلك. أي أنه توفي عام 23 هجرية، وليس عام 24. كما يذكر النقش.

إعادة قراءة النقش
ويبدو لي أن هناك مشكلة في قراءة النقش منعتنا من فهمه، ومن الحصول على كل ما يحويه من معلومات. وقد وقعت المشكلة في قراءة الكلمة المركزية في النقش التي هي كلمة «توفي» على وجه التحديد. ومهمة هذه الورقة تدقيق قراءة هذه الكلمة. لكن قبل أن نبدأ بهذا، علينا أن نشير إلى أن استخدام كلمة «زمن» في النقش يبدو غريباً. ففي العادة، لا تُستخدم هذه الكلمة حين يكون التاريخ محدداً. عليه، يُفترض ألا يقال «زمن توفي عمر» بل «يوم توفي عمر» أو «سنة توفي عمر» مثلاً. فكلمة زمن تُستخدم حين لا يكون القصد تحديد التاريخ بدقة حيث يقال مثلاً «زمن عمر بن الخطاب» أو «زمن معاوية» إلخ. واستخدامها بالطريقة التي وردت في النقش مثير للشكوك. ولعل هذا الاستخدام هو الذي دفعني إلى إعادة قراءة النقش.
وقد أوصلني هذا التدقيق إلى الاستخلاص التالي: ليس هناك من وجود لكلمة «توفي» في النقش. إذ أن هناك في ما يظهر حرف آخر بين الكلمة التي قرئت على أنها «توفي» وبين كلمة «عمر»، وقد جرى تجاهل وجود هذا الحرف من قبل قارئي النقش. والصورة أدناه تعرض المقطع من النقش الذي يحوي كلمة «توفي» والذي يقول بناء على القراءة السائدة: «زمن توفي عمر». وبناء على الصورة، يمكن لأي عين مدققة أن ترى بسهولة الحرف الذي نتحدث عنه بين كلمتي «توفي» و«عمر». وقد وضعت في الصورة الدنيا دائرة حمراء حول هذا الحرف.



الحرف وحوله دائرة حمراء في الصورة الدنيا


وإذا كان هذا الاستخلاص صحيحاً، فإنه يجب تفسير سبب وجود حرف راء زائد بين كلمتي «توفي» و«عمر». وبما أن كلمة «عمر» كلمة مكتملة وواضحة تماماً، وعند النظرة الأولى، فقد يتبدى الحرف على شكل دائرة. لكن التفحص فيه يظهر في الواقع أنه حرف الراء، لكن خدشاً عريضاً مصادفاً اشتبك معه جعله يبدو كما لو أنه دائرة. وإذا أبعدنا الخدش المائل الذي يشكل خطاً مستقيماً مائلاً إلى اليمين بمقدار 45 درجة، فإن الحرف سيتبدى راء مثل الراء في آخر كلمة «عمر».
وإذا صح هذا الاستخلاص، فإن المنطقي افتراض أن الحرف جزء من الكلمة السابقة التي قرئت على أنها «توفي». لكن وجود الياء الأخيرة التي تنعقف راجعة إلى الوراء تمنع إضافة هذا الحرف إلى الكلمة، وترغمه على أن يظل منفرداً معزولاً. بذا يمكن الافتراض إنه في اللحظة التي رأى فيها قارئا النقش ياء أخيرة ينعقف ذيلها إلى الخلف، فقد كان عليهما استبعاد الحرف الذي نتحدث عنه وطرده.
وانطلاقاً من هذا، يمكن لي الحكم بعدم وجود ياء أخيرة راجعة إلى الخلف في الكلمة. فهذه الياء ناتجة عن ضم خط مصادف، شبه مستقيم، حصل بعد كتابة النقش، إلى الكلمة. يؤيد هذا أن هذا الخط أنحف من كل حروف النقش الأخرى، ما يدعم أنه ليس أصلياً. بذا يجب استبعاد عقفة الياء الأخيرة في كلمة «توفي» كي نحصل على قراءة سليمة للنقش. يؤيد هذا الاستخلاص الملاحظات التالية:
أولاً: أن هناك سنّاً لها مدّة بعد حرف الفاء في بداية كلمة «توفي» المفترضة. وهذه السن، التي لم تظهر في رسم قارئي النقش، تمتد يساراً باتجاه حرف الراء الذي أفترضه.
ثانيا: أن حرف الراء الذي أهملته القراءة السائدة له وصلة إلى اليمين تكاد تربطه بمدّة السنّ التي نتحدث عنها.
ثالثا: وكل هذا يشير إلى وجود حرف قد يكون باء، أو تاء، أو ثاء، أو نونا، أو ياء، قبل الراء التي أهملت. وأنا أقرأ هذا الحرف على أنه ياء وسطى. وهكذا فالحرف الرابع في الكلمة هو ياء وسطى لا ياء أخيرة تنعقف إلى الخلف. ووجود ياء وسطى، ياء على كرسي، يتيح لنا ربط الحرف المهمل بالكلمة.
وإذا صح هذا فإنه يكون لدينا في الواقع كلمة مكونة من خمسة حروف تقرأ هكذا: «توفير». لكن قراءة الكلمة بالفاء لا يتوافق مع النص، ولا يعطي معنى ملائماً. لذا فأنا أقترح أن الحرف الأول من الكلمة هو حرف القاف. أي أننا مع كلمة: «توقير»



التوقير
بذا، فالجملة المركزية في نقش زهير: «زمن توقير عمر».
فما معنى هذه الجملة، إذن؟
أعتقد أنه لا يمكن فهم هذه الجملة إلا إذا استحضرنا قصة مقتل الخليفة عمر غيلة بطعنات خنجر أبي لؤلؤة. فجذر وقر، الذي جاءت منه كلمة «توقير» يعطي معنى الجرح والثلم والصدع: ««وقَّرَ خَصْمَهُ: جَرَّحَهُ. وَقَّرَ الشيءَ: جَعَلَ فيه آثاراً» (قاموس المعاني الجامع). وهو يعطي أيضاً معنى الشق والجرح مع تشكيل حفرة كذلك: «وقر العظم وقرا، فهو موقور ووقير. ورجل وقير: به وقرة في عظمه أي هزمة... الأصمعي: يقال ضربه ضربة وقرت في عظمه أي هزمت... والوقرة تصيب الحافر، وهي أن تهزم العظم. والوقر في العظم: شيء من الكسر، وهو الهزم... ووقرت العظم أقره وقرا: صدعته» (لسان العرب). لهذا سميت النقرة في الصخر وقيرة: «النقرة العظيمة في الصخرة تمسك الماء، وفي التهذيب: النقرة في الصخرة العظيمة تمسك الماء» (لسان العرب). يضيف الجوهري: «والوقرة أن يصيب الحافر حجر أو غيره فينكبه... يقال في الصبر على المصيبة: كانت وقرة في صخرة: يعني ثلمة وهزمة» (الجوهري،
الصحاح).
ولدينا بيت تأبط شراً الذي يقول:
فويلُ أمِّ بزِّ جَرّ شَعْل على الحصى
فوقّر بزُّ ما هنالك ضائعُ
ويقول لنا الأزهري في شرح البيت: «شَعْلٌ: لقب تأبط شراً. كان أسر قيس بن العيزارة حين أسرته فهم، فأخذ ثابت بن عامر سلاحه فلبس سيفه يجره على الحصى فوقره، لأنه كان قصيراً» (الأزهري، تهذيب اللغة). وهكذا فقد لبس ثابت السيف الطويل فوقره، أي جرحه، أو حفر جرحاً في ساقه.
وقال شاعر آخر أيضاً:
رأوا وقرة في الساق مني فبادروا
إلى سراعا، إذ رأوني أخيمها
وكما نرى، فقد جُرح الرجل في ساقه جرحاً حفر ساقه، فبادر أعوانه لمساعدته حين رأوه يمشي ببطء أو يعرج عليها كي يحميها.
بناء على كل هذا، فجملة «زمن توقير عمر» تعني «زمن جرح عمر»، أو «زمن طعن عمر»، أي زمن فتق بطنه وشقها بخنجر أبي لؤلؤة في المسجد.
وبناء على هذه القراءة فالنقش يؤكد لنا عدة حقائق:
أولاً: يؤكد الرواية الإسلامية عن موت الخليفة عمر توقيراً، أي طعناً وجرحاً. لقد «وقّره» أبو لؤلؤه، أي طعنه وجرّحه.
ثانياً: أن خبر طعن الخليفة وصل زهير في المكان الذي كتب فيه نقشه، لكنه لم يكن يعرف بعد أن الخليفة قد مات من الطعنات. لذا فقد تحدث عن التوقير لا عن الوفاة.
ثالثاً: وهذا يعني أن النقش لا يؤرخ لموت الخليفة عمر، بل يؤرخ لتوقير الخليفة، أي طعنه.
رابعاً: ويبدو أن زهيراً فهم أن التوقير حدث عام 24 هجرية، وليس عام 23. فمنطوق النقش بناء على قراءتي يقول: «بسم الله. أنا زهير، كتبت زمن توقير عمر سنة أربع وعشرين». لكن من المحتمل جداً أن هناك حرف باء قبل كلمة «سنة». أي أننا مع «بسنة» وليس «سنة». بذا فالنص يقول «كتبت زمن توقير عمر بسنة أربع وعشرين». وهي صيغة تعني في الأغلب أن التوقير حدث عام 24. بالتالي، يجب أن تكون الوفاة قد حصلت عام 24 أيضاً بناء على تقرير زهير.
إذن، فنقش يدعم رأي الأقلية القليلة التي قالت إن الخليفة مات في بداية سنة 24. فهل نقبل بهذا الاستخلاص؟ أظن أنه من الصعب قبوله لنقض رأي الغالبية التي حدثتنا عن موت الخليفة في نهاية عام 23. فالرجل كان بعيداً عن المدينة، مركز الحدث، مسيرة ستة أو سبعة أيام. بالتالي، لا يمكن الركون إليه في تحديد موعد طعن الخليفة. فمعلوماته التي استند إليها لا بد أنها وصلته بعد أيام لا بأس بعددها من وقوع الحدث. وأغلب الظن أنها معلومات عابر طريق. ولا يمكن تفضيل معلومات عابر الطريق على الأخبار المتواترة من شهّاد الحدث.
لكن الذي لا شك فيه أن نقش زهير خطير الأهمية لأنه يوافق المصادر الإسلامية على أن الخليفة عمر مات بين نهاية 23 و 24 هجرية. فوق أنه، وهذا هو الأهم، يؤكد أنه الخليفة ابن الخطاب مات توقيراً، أي طعناً. وهذا يثبت مصداقية الرواية الإسلامية. بذا فالنقش واحد من الدلائل التي تتكاثر وتثبت عهد الخلفاء الراشدين عبر نصوص كتبت وقت حصول الأحداث.
وكنا قد برهنا في مادة لنا من قبل أن نقش قيس الكاتب أعطانا هو الآخر تأكيداً على ارتباط مقتل الخليفة عثمان بشخص يدعى «نعثلة» كما أخبرتنا المصادر الإسلامية. لكن النقش بين لنا، وبوضوح، أن نعثلة هو اسم قاتل عثمان، وليس اللقب الذي أطلقه الثائرون على عثمان كما توهمت المصادر العربية. عليه، فنعثلة لم يكن اختراعاً، بل كان حقيقة أثبتها نقش كُتب وقت الأحداث التي شارك في صناعتها هذا النعثلة.
وهكذا، فنقشاً وراء نقش يتوثق العهد الراشدي، وتتوثق الرواية الإسلامية حوله.

* شاعر فلسطيني
(1) - The Inscription of Zuhayr, the oldest Islamic inscription (24 AH/Ad 644-645), the rise of Arabic script and the nature of the early Islamic state, Ali Ibn Ibrahim Ghabaan translation and concluding remarks by Robert Hoyland, Arabian archaeology and epigraphy, p.p 208-236, 2008