تُعَدّ آمنة الجبلاوي من الوجوه البارزة في الجامعة التونسية ومن الجيل الجديد من الباحثات اللواتي زاولن تعليمهن بين تونس وفرنسا (جامعة السوربون)، ومن القليلات اللواتي تخصّصن في دراسة الاستشراق الإنغلوسكسوني. الدكتورة في الحضارة العربية الإسلامية، أولت اهتمامها للدراسات القرآنية وتاريخ الإسلام المبكر والديانات العرفانية في العالم العربي الإسلامي قبل الدعوة وبعدها. تنتمي الجبلاوي إلى عائلة من المثقفين والجامعيين (البشير بن سلامة وزير الثقافة في الثمانينيات وفتحي بن سلامة أستاذ التحليل النفسي في باريس، ورجاء بن سلامة الأستاذة في جامعة تونس) وهي من الجامعيات اللواتي انخرطن في الشأن العام، خصوصاً في الحركة النسوية والديمقراطية، انطلاقاً من اقتناعها بأن الجامعي يجب أن يكون منخرطاً في قضايا الحريات والديمقراطية. أسّست جمعية علمية اشتغلت على تفكيك ظاهرة التطرف العنيف باعتماد العلوم الإنسانية. كما أسهمت في تأسيس منظمات غير حكومية عديدة وأجرت بحوثاً عديدة حول دور المجتمع المدني في الوقاية من التطرف العنيف. وتشدّد الجبلاوي على ‏أهمية إعطاء دور مركزي للبحث الأكاديمي حول المشغل الديني، في التصدي الفعّال للمرويات الإيديولوجية التي تمثل معيناً نظرياً للإرهاب. أحدث كتبها «الاستشراق الإنغلوسكسوني الجديد: مقالة في الإسلام «المبكر» ــ باتريسيا كرون ومايكل كوك أنموذجاً» (الدار التونسية للكتاب) يضيء على التناول الاستشراقي للقرن الإسلامي الأول باعتباره قرن التأسيس. «كلمات» التقت بالباحثة والأكاديمية للحديث عن عملها وتاريخ النسوية في تونس، إلى جانب قضايا فكرية واجتماعية راهنة كالإسلاموفوبيا والتطرّف
قد تكون آمنة الجبلاوي أول باحثة في شمال أفريقيا اهتمّت بالصابئة، لماذا هذا الاختيار؟
ـــ ارتكز مشروعنا العلمي إلى الاشتغال على فهم ما حدث أثناء زمن الدعوة فهماً علمياً. وقد حاولنا من خلال أطروحتنا عن الصابئة وتمثلها في المصادر العربية الإسلامية أن نكتشف ما كانت عليه حال الصابئة الذين عاصروا المسلمين الأوائل، وأن نجد بعض الأخبار التي تضيف شذرات من المعلومات إلى المعرفة القليلة التي حصّلها الباحثون عن تلك الفترة، وحاولنا أن نجد في أحوال الصابئة ما يمكّننا من المقارنة بينهم وبين المسلمين الأوائل. ففي دراسة فترة الإسلام الأوّل، تعرّضنا إلى كوكبة الطوائف والأديان التي كانت منتشرة قُبيْل دعوة النبي محمد وبُعيْدها. ومن الأديان التي عايشت فترة الإسلام المبكّر الدّيانة الصابئية، ناهيك بأنه ورد ذكرها في النّص القرآني في ثلاث سُوَرٍ، هي البقرة 62 والحجّ 17 والمائدة 69. بل سمّي أصحاب محمد الصباة، وورد في بعض المصادر أن جدّ محمد لأمِّه كان صابئياً، ونتيجة لذلك فأخوال الرسول وأمه كانوا من الصابئة.
منذ البداية، عملنا على الإسلام المبكر وعلى فهم تلك الفترة انطلاقاً من هاجس علمي، ومن هاجس آخر له علاقة بالجواب على مجموعة من الأفكار المسبقة التي استقى منها الإرهابيون أوهامهم حول نشأة الإسلام. كان تساؤلنا حول ضرورة بناء فهم أكثر عمقاً للمحيط الحضاري والثقافي الذي جاء فيه الإسلام. فنحن نعمل على تقديم مرويات أكثر جديةً للشباب المتعطّش لفهم تاريخه. مروية تدحض الخرافة التي سعى الإرهابيون للتأسيس لها وارتكزوا إليها لفرض طرحهم لمفاهيم مثل: الخلافة، الولاء، البراء والتكفير.
وجدنا في الحفريات التي قمنا بها علاقة بين الإسلام المبكر والصّابئة والمانوية والغنوصية والحنيفية، لكن آفاق البحث عن هذه الأديان والطوائف، تقتضي من الباحث أن يتابع العمل بعد انكبابه على جمع المادة والوقوف على كل شاردة وواردة جاءت المصادر في أمرها، بعد إعداد الأرضية من حيث استخراج مقالات المسلمين فيها وجمع كتبها المقدّسة. وتقتضي من الباحث أن يعمق التحليل في «براديغم» العلاقة بين الصابئة والمسلمين الأوائل. ولعل الاستئناس بنصوص قديمة قيمة مثل مخطوطات قمران، ومخطوطات نجع حمادي، والتساؤل عن المسيحيات الأول كالأبيونية، وعن طقس الاغتسال والتعميد بالمغاطس التي قيل بأنّ بعضها وُجد في الحجاز، والتساؤل عن الأسينية التي انتشرت في الجزيرة العربية زمن الدعوة، من المباحث التي قد تجد بعض الإضاءات من خلال ما جمعنا من نصوص الصابئة المقدّسة.
كما أننا وجدنا علاقات واضحة بين الثنوية وأنساق التوحيديات من صابئة مندائية وحرانية في مراحلها المبكرة، وما التعميد إلا ولادة جديدة وانتقال من النجاسة إلى الطهارة ومن الظلمة إلى النور، وهكذا تتأكد عملية التثاقف بين التوحيديات والأديان الغنوصية التي اختلطت بالفيثاغورية وبالعرفان اليوناني الاسكندري وبالمانوية التي انتشرت من الشرق إلى روما مروراً بأفريقيا، حيث ازدهرت المانوية وكان القديس أوغسطين منظّر الكاثوليكية مانوياً قبل أن يتمسّح. ولعل هذا أحد دواعي اهتمامنا بالموضوع.
ورد في بعض المصادر أن جدّ محمد لأمِّه كان صابئياً، ونتيجة لذلك فأخوال الرسول وأمه كانوا من الصابئة


بدأنا في بحثنا مشروعاً يقوم على مساءلة العلاقة بين ما سُمّي في المصادر القديمة صابئة وأحنافاً ونسقاً غنوصياً، وما زال العمل على توضيح هذه المفاهيم قائماً. وقد كان النسق العقائدي لدى الغنوصية قائماً على رجال دين يملكون معرفة الأسرار، وكانت خصومتهم مع الأحناف هو أن هؤلاء جاؤوا بفكرة نبوة البشر، والمناظرات الشهيرة بين الأحناف والصابئة تقوم على خلاف في الاعتراف بدور النبوة البشرية.
والنسق يقوم عند الصابئة على إله -> كواكب -> ملائكة -> بشر
أمّا عند الأحناف فيقوم على إله-> ملائكة -> أنبياء -> بشر
وبذلك تكون الحنيفية هي لحظة إعلان موت الملائكة والكهنة بالمعنى القيم للكلمة ولحظة ميلاد الأنبياء بما هم وسائط بين البشر والإله.
لم يخلُ الإسلام المبكر من رواسب عرفانية واضحة ما زالت تحتاج إلى تفكيك وبحث، وما الغموض الذي اكتنف التعريف بالحنيفية في المصادر إلا غلاف للحرج الذي وقعت فيه، فالحنيفية أو «الحنوثيّة» وهي كلمة نقترح أن ننحتها اقتراضاً من المصطلح الفرنسي Hénothéisme، تُعتبر الحلقة المفقودة بين مرحلة تعدد الآلهة ومرحلة التوحيديّة الخالصة.
ومن نتائج بحثنا أننا وجدنا شبهاً كبيراً بين الأبجديتين النّبطية والمندائية وفق ما ورد في «كتاب الدلائل» للحسن بن البهلول. ولهذه النتيجة استتباعاتها المعرفية من حيث علاقة المندائيين الأوائل بالأنباط وبالإسلام المبكّر وبمنطقة مدين شمالي الحجاز. إن الاشتغال على إحداث ثورة في فهمنا للإسلام المبكر وإعادة النظر في مفاهيم مثل الصابئة أو الحنيفية وفي معنى الديانة الحنيفية والصابئية وعدم الاكتفاء بالمفاهيم المتأخرة التي أسندتها ثقافة أغلقت باب الاجتهاد وسكتت عن الأساسي، هو مساهمة في ثورة فكرية معطلة لا بد لها من الانطلاق نحو آفاق تحرير العقول وإعطاء الثقافة العربية الإسلامية أجنحةً جديدةً تطير بها نحو التاريخ.

منذ سنوات وأنت تبحثين في الاستشراق الإنغلوسكسوني، ما هي أبرز الاختلافات بين الاستشراق الفرنسي والإنغلوسكسوني؟
ــ اشتغلنا على موضوع الإسلام المبكر، وحاولنا تعريف القارئ العربي على فرع من فروع المدرسة الإنغلوسكسونية دعا إلى النقد الراديكالي للمصادر الإسلامية لأنها غير محايدة ومتأخرة بسبب تأخر حركة التدوين. تدعو هذه المدرسة إلى العودة إلى ما جاء في النصوص الخارجية External Sources للطوائف الأخرى من أخبار عن فترة الإسلام المبكر. والمقصود بالنصوص الخارجية تلك الشهادات التي قدمها غير المسلمين عن نشأة الإسلام، من أقباط وروم.... وتدعو إلى التعامل بحذر مع المصادر الإسلامية لسببين: الأول أنها من داخل المنظومة وأنها بذلك تُجمّل الوقائع وتسكت عمّا يمكن أن يُحرج الضمير الجمعي في تاريخ الإسلام المبكر، والسبب الثاني هو المسافة التاريخية الهامة بين فترة الدعوة وبداية حركة التدوين. وهم في ذلك محقون، لكننا نسبنا عملهم، فالمصادر تذكر الخلافات وإن صمتت على بعضها. فقد أخبرتنا بالفتنة وأحداثها. كما أنّ المصادر الخارجية نفسها قد تحتاج إلى النقد، فقد تكون بدورها غير أمينة في نقل أخبار الفتوحات والمغازي، فتخفي أشياء وتبرز أخرى. وخلاصة القول هو أننا دعونا إلى اعتماد المصادر الإسلامية أي الداخلية، وغير الإسلامية أي الخارجية بالإضافة إلى ما تجود به الحفريات الأركيولوجية المعاصرة لفترة الدعوة بمعلومات تسهم في بناء معرفة أكثر دقة بالإسلام المبكر.
تشبثت باتريسيا كرون ومايكل كوك بمنهج واحد في كلّ أعمالهما هو منهج مادّي أركيولوجي ويمكن أن نقسّم توجهات الدراسات الإسلاميّة إلى ثلاث مدارس:
● المدرسة الألمانية : خط فيلولوجي تاريخاني
● المدرسة الفرنكوفونية: خط تفكيكي
● المدرسة الإنغلوسكسونيّة : خط أركيولوجي مادياً
لقد خضعت الكتابات الاستشراقية الأولى لاعتبارين انفصلا أحياناً وامتزجا أحياناً أخرى. وهما الضرورة السياسية «الاستعمارية» والضرورة المعرفية؛ رغم إيجابيّات هذه الكتابات الّتي علينا أن نقرّ بها، من حفظ للتراث وكشف عن مصادر ومخطوطات وقع التعريف بها بفضل عمليات الترجمة. هناك اختلافات بين المدارس الاستشراقية وهناك اختيارت مختلفة في كل مدرسة من حيث مواضيع الاهتمام. فبعضها اهتم بالأدب، وبعضها اهتم بالنصوص العلمية أو بالدراسات القرآنية والإسلامية، وبعضها الآخر كان استشراقاً فنياً عبر رسم لوحات تنقل أجواء الشرق. لذلك، كان من الصعب أن نقف على كل جوانب هذه المسألة من خلال البحوث. فموضوع الاستشراق شاسع يتطلب أن يهتم به فريق بحثي بل مراكز بحثية. لكن أهم الملامح تتمثل في أن الاستشراق الفرنسي قدم لنا شخصيات هامة مثل لوي ماسينيون وهنري كوربان، وقد اهتم هذا الخط بالتصوف وبالباطنية الشيعية والإسماعيلية أساساً. واتجه هذا الخط إلى الدراسات الفارسية والإيرانية أو إلى التصوف. وهناك مؤسسات بحثية كثيرة نذكر منها وحدة البحث حول العالم الإيراني والهندي في «المركز الوطني للبحث العلمي CNRS»، و«المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية INALCO»، و«المعهد العالي للدراسات التاريخية حول إيران» و«مخبر الدراسات حول التوحيديات» وغيرها. ويتواصل اليوم مع بعض الباحثين وفي بعض المراكز المختصة في الدراسات الشرقية والعربية الإسلامية والدراسات الإيرانية إلى يومنا هذا.
وهناك الباحثون الكلاسيكيون أمثال بيبرشتاين كازيمرسكي، واندريه ميكيل، وريجي بلاشير، وشارل بيلّا وبحوثهم تحليلية تأليفية تندرج ضمن الأعمال الأكاديمية الكلاسيكية العالمية. وهناك مخابر تهتم اليوم بدراسة التوحيديات بقيادة أساتذة مثل أمير معزي، أو بتاريخ النص القرآني مثل فرانسوا دي روش.
أما المدرسة الإنغلوسكسونية فهي في الواقع مدارس ومراحل. ويمكن أن نتحدث عن جيل أول ارتبط بالحركة الاستعمارية وتواصل مع ديفيد صموئيل مارغوليوث في «معهد الدراسات الشرقية SOAS». وهناك جيل ثان يمثله وليام مونتغمري واط، قام على تقديم قراءة اقتصادية لفهم نشأة الإسلام ارتكزت إلى مآلات التجارة المكية. وقد اعتمدت في كتابي «الاستشراق الإنغلوسكسوني» الجديد تقسيماً أفاد من منهج ادوارد سعيد ومقاربته لمسألة الاستشراق. وقد أفادت منه الدراسات ما بعد الكولونيالية في الجامعات الأميركية، يمهّد لاشتغالي على الجيل الثالث، وخصوصاً قسماً من هذا الجيل يتمثل في المجموعة التي تشكك في مصداقية النصوص العربية الإسلامية، وهو تيار نقدي راديكالي لا بد لنا من أن نشير الى وجود منحى براغماتي يقوم على الميل إلى الحقائق الأركيولوجية وإلى الدعوة إلى الإفادة منها. ولا ننسَ الحديث عن المدرسة الألمانية الفيلولوجية وهي مدرسة هامة تشتغل على المخطوطات. وأرى أنّ العمل الجدي على الكتابة العلمية والنقدية لتاريخ الإسلام المبكر ما زال في بداياته. ومن الضروري أن يتواصل العمل في إطار الجامعات والجمعيات العلمية والمراكز البحثية، ومن الضروري أن تنشأ مراكز إقليمية ودولية تعد للإصلاح الديني والثقافي في العالم العربي الإسلامي.

هناك موجة عداء كبيرة وشعبوية في معاداة الإسلام في أوروبا بسبب المتطرفين. هل نعيش مرحلة جديدة من صراع الحضارات؟ وكيف ترين العلاقة اليوم بين الشرق والغرب؟
ـــ نشهد في السنوات الأخيرة تجدداً لخطاب يحتقر كل ما يأتي من الشرق ومن الجنوب ويذكّر بما راج في الجيل الأول للاستشراق الذي قام على نظريات تفوّق العرق الأبيض وتفوق الغرب (هيوستن شامبرلان). وهناك إشعال لنار الانقسام داخل المجتمع الواحد فما بالك بمجتمعات مختلفة ثقافياً. يقول أوليفييه روا في مقابلة أجراها مهدي بن سميدا: «إن انتقاد الإسلام بما هو دين يجعل من الممكن تبني خطاب مناهض للهجرة. وبدلاً من الحديث عن المهاجرين أو العرب، نختزلهم على سبيل الخلط أو التعميم في مجموعة «المسلمين»». لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة صعوداً للشعبويات وللقوميات الوطنية، كما لو كان يسير من دون قيادة مهيكلة، وهناك تنافس بين محاور عديدة في العالم الإسلامي، وهذا يُسهم في تأخير وتأجيل مسألة إصلاح قراءتنا للتاريخ الإسلامي وتأويلنا للنصوص الدينية. وسنرى في قادم الأيام إن كانت هناك تهدئة مؤقتة وإن أمكن إطلاق حوار حقيقي بين المحاور. فالاقتصادَات المتأخرة بسبب الأزمات الصحية، لن تسمح في المستقبل بصراعات مسلحة مفتوحة بل على كل بلد التركيز على مشاكله. وعموماً لن يكون من السهل أن يتأقلم قسم من المسلمين مع الغرب وستشهد ألمانيا وأوروبا موجات أخرى من الهجرة بسبب الانهيار الاقتصادي، ولن يكون من السهل انخراط المسلمين في المجتمعات الأوروبية التي تؤمن بالحرية والديمقراطية بسبب غياب إصلاح الفكر الإسلامي والمستوى التربوي والثقافي المتدني في المجتمعات الإسلامية، وإصرار هذه المجتمعات على الحفاظ على ذهنيات لا تتناسب ومتطلبات العصر. وإذا ما أردنا أن نقلص من موجات العداء وخطاب التفوّق العرقي والإسلاموفوبيا، ينبغي للمسلمين العمل على تجاوز مظاهر الانحطاط والتخلف والنهوض بالحركة الفكرية والثقافية وتطوير خطابهم في علاقتهم بالآخر وبحركة التاريخ. أنا ضد الإسلاموفوبيا ولكن أيضاً ضد رفض المسلمين رفضاً لا يجد ما يضاهيه لحق الآخرين في الاختلاف وفي أن تكون لهم معتقدات مختلفة وهذا أساس وشرط دخولهم في حركة التاريخ.

هناك تراجع كبير في مشروع التحديث الذي بدأ في القرن الثامن عشر، لماذا هذا التراجع؟ وما هو دور المؤسسة الدينية الرسمية فيه؟ وهل ذلك عائد إلى هشاشة المشروع منذ البداية؟
ـــ شكراً على سؤالك فهو في صميم ما علينا أن نعمل جاهدين على التفكير فيه. لا أعتقد أنّ مشروع التحديث كان هشاً، وقد بدأ بعد اتصال الساسة والباحثين بالغرب ومقارنة أحواله بأحوالنا.
وقد أفرز مفكرين هامين وروافد فكرية وكتابات من جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده وقاسم أمين والطاهر الحداد اتفقت مع بعض الجهود الإصلاحية السياسية التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى مع خير الدين وأحمد باي ومحمد الصادق باي في تونس، ومحمد علي باشا عزيز مؤسس مصر الحديثة. تُعدّ تونس رائدة في مجالات عديدة، فقد تأسس أحد أوائل المجالس البلدية العربية في تونس عام 1858 ووُضع فيها أول دستور عربي 1861.

عملنا على الإسلام المبكر للإجابة على الأفكار المسبقة التي استقى منها الإرهابيون أوهامهم حول نشأة الإسلام


وتوقف المشروع مع حركات التحرير الوطني والانصراف للعمل العسكري، ثم عاد مع بداية بناء دول الاستقلال. ثم تعطل منذ بدايات السبعينيات والثمانينيات مع ظهور الحركات اليمينية الإسلامية، وتعمّق الأمر مع ظهور حركات دينية وثورات دخلت في صراع مع القوى الطلائعية والتقدّمية وأسهمت في تعمّق مسار تخلف التعليم الديني. وزاد الطين بلة غياب مشروع رؤية ثقافية وتربوية واضحة بعد بداية اعتماد الخصخصة في أواسط التسعينيات وبداية ظهور الفجوة بين التعليم العمومي والتعليم الخاص.
هناك عملية إصلاح يجب أن تنطلق، ونحن نرى بوادر إيجابية في إعادة النظر في السياسات التربوية والثقافية في السعودية والإمارات، وهناك مؤشرات لا بد لها من أن تتدعم في إصلاح مناهج التعليم الديني في الأزهر. إن تنامي الحركات الجهادية في بلدان الساحل الأفريقي وإعادة تموقع «داعش» في بعض مناطق الغرب الأفريقي ينبئان بضرورة إيقاف مدّ استقطاب الشباب والنساء. ولهذا لا بد من إصلاح مؤسسات تكوين الأئمة والانتقال من الثقافة النقلية إلى العقل النقدي، وقد بدأ الإصلاح لكن لا بدّ من عملية إصلاحية أكثر حسماً ووضوحاً.

أي دور للإعلام في نشر ثقافة التطرف والقتل وتغييب المشروع  التحديثي؟
ـــ هو دور مركزي، لكنه يكرس اليوم نظام التفاهة ويغلق باب المعرفة والذكاء والفكر النقدي. لقد غاب أي حوار جدي عن المسألة الدينية في التسعينيات، بل شهدنا على عكس ذلك ظهوراً فقاعياً متصاعداً في نفس الفترة تقريباً لعدد من القنواة الدعوية بدأت في بث دعاية لقراءات متخلفة وتأويلات تشبّعت بالغلو والتطرف، ما أسهم في تشكيل شخصية قاعدية لمسلم لا يملك وسائل الفكر النقدي ولا يملك أدوات التحليل الكافية.
بعد ثلاثين سنة من الشحن والأدلجة والتلاعب بوعي الجموع، آتت البروباغندا أُكلها واستفاقت الأنظمة على هول الكارثة، وبدأ بعضها في إيقاف مد هذه البروباغندا الدينية. وتأتي التربية والاستثمار في بحث العلوم الإنسانية وفي الثقافة الراقية لا ثقافة الإثارة واختزال الثقافة في البعد الترفيهي دون غيره، في درجات متدنية من أولويات النخب السياسية التي تميل إلى الحث على العلوم الإعلامية والمالية من دون تكوين إنسان عربي مسلم مثقف ومتوازن...
عندما يتم اختزال دور الإعلام في الترفيه الرّكيك وإفراغه من الدّور التثقيفي ومن أي رسالة توعوية تنشر جمال الثقافة الكونية ومبادئها، وعندما يتقاعس الرعاة sponsors وأصحاب القنوات عن الدفع من أجل إعلام أكثر التزاماً ومهنيةً خوفاً من الثقافة ومن المثقفين، يغدو «النكرات» والجهلة أصحاب التأثير في الرأي العام من خلال شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفايسبوك وانستاغرام وتيك توك. أضف إلى ذلك تراكم الأخبار الزائفة وفوضى الآراء الشعبوية والمتخلّفة التي لا تعبّر عن فكر حقيقي، وقد سمح بها فتح الفضائيات الإعلامية والافتراضية على مصراعيها لمن هبّ ودبّ من دون آليات تعديل ناجعة. فالغباء مثل الجهل والإرهاب ليس وجهة نظر، لكنه يصبح كذلك في بعض الفضائيات في المجتمعات المتخلفة.
تمت زحزحة التأثير من الإعلام إلى وسائل التواصل الاجتماعي منذ عام 2000 وبشكل أكبر منذ عام 2008، ولكن هذا التأثير لم يجلب إلى اليوم ثقافة المعرفة بل أسهم في استقطاب الشباب. وقد شرعت القنوات الدعوية في تسعينيات القرن الماضي في أدلجة المجتمع عبر استهداف النساء تحديداً. ثم جاء الإنترنت وأتمّ عملية أدلجة شريحة الشباب الذين التحقوا عبر موجات متتالية بمناطق التوتر وبؤر الصراع.

عدد كبير من الباحثات التونسيات تخصّصن في دراسة الإسلام المبكر وتحليل الخطاب الديني، هل نحن أمام مدرسة تونسية نسوية في هذا المجال؟
ـــ تأسّست سياسات التربية والتعليم العالي في تونس على رؤية طلائعية قادها بورقيبة وكل القوى المتنوعة التي أسهمت في بناء دولة الاستقلال. وقامت على إجبارية التعليم للذكور والإناث على حد السواء. وقامت الجامعة التونسية على مشروع متكامل استأنس بالمناهج النقدية الحديثة وكانت كُليات الآداب والإنسانيات في طليعة من يدعو إلى اعتمادها في دراسة الظّاهرة الدينية. وبما أنّ الريادة النسائية في تونس متأصّلة في التاريخ، فقد ظهرت مع عليسة والكاهنة البربرية ومع شخصيات رمزية مزجت بين المعرفة والجمال والنفوذ مثل الجازية... ومع إفادة المواطنات التونسيات من السياسات الوطنية التي راهنت على تعليم النساء، كان من الطبيعي أن تظهر نساء رائدات في موضوع القراءة العلمية للتاريخ الإسلامي ولنصوص التراث والدراسات الدينية وتاريخ الأفكار.
ونحن أمام مدرسة نقدية إصلاحية تونسية برزت فيها شخصيات مثل عبد المجيد الشرفي، ومحمد الطالبي وهشام جعيط. انتمى إليها جيل جديد من الجامعيّات والكاتبات في الاختصاص نفسه، تركن أثراً عبر كتب راجت في أغلب البلدان العربية ومن بينهن على سبيل الذكر لا الحصر سهام الميساوي الدبابي، آمال القرامي، زهية جويرو، ألفة يوسف، رجاء بن سلامة، ناجية الوريمي، منجية منسية، نائلة السليني، لطيفة البكاي، سلوى العايب بالإضافة إلى جيل صاعد جديد بدأ في نشر بحوث تضيف لبنةً إلى المدرسة النسوية والنقدية التونسية... لعل ذلك يعود إلى الحاجة الى حسم بعض المسائل التي تهم إعادة مساءلة التراث بشكل عام وفقه المرأة بشكل خاص، وإعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر المرأة.



الإسلام المبكر
تتناول آمنة الجبلاوي في أحدث كتابها «الاستشراق الإنغلوسكسوني الجديد: مقالة في الإسلام «المبكر» ــ باتريسيا كرون ومايكل كوك أنموذجاً» (الدار التونسية للكتاب) التناول الاستشراقي للقرن الإسلامي الأول باعتباره قرن التأسيس من خلال مناقشة آراء المستشرقين باتريسيا كرون ومايكل كوك. واعتبر فوزي البدوي، الأستاذ المتخصّص في تاريخ الأديان، في تقديمه للكتاب أن هذا العمل «جريء في غير تهوّر عن جماعة قالت عن نفسها إنها «جماعة» من الكفّار كتبوا ما كتبوه لكفّار أمثالهم». وتقول آمنة الجبلاوي في تفسيرها لدواعي هذا الاختيار: «اشتغالنا في هذا البحث على المقاربة الإنغلوسكسونية؛ هو في الواقع اشتغال على نموذج شديد الخصوصية. فالباحثان يمثّلان تياراً داخل المدرسة الإنغلوسكسونية وهو التيّار الأشد ضراوة في نقد المصادر العربية الإسلامية». وينقسم الكتاب إلى بابين، وفي كل باب منهما مجموعة من الفصول: الباب الأول بعنوان «مشاغل الباحثين» خُصّص فصله الأوّل للمذهب الهاجري أو أطروحة الباحثين حول تشكّل الإسلام والسياسة المبكرّة أو طبيعة النفوذ الديني في القرن الأول للهجرة والاقتصاد المكّي وعلاقته بظهور الإسلام. وتناولت الكاتبة في هذا الفصل العلاقات التجارية بين مكّة وسوريا واليمن والحبشة والعراق.
الباب الثاني بعنوان «خصوصية المقاربة وخصائص المنهج» تناول الهجرة المبكرة وقبة الصخرة وعلاقة محمّد المبكرة باليهود ونبوّته المحلية وعلاقة المستشرقين بالثقافة العربية الإسلامية والخلط التاريخي إلى غير ذلك من القضايا مثل الجهاز المفاهيمي واللغة المستعملة والتعاطي مع المصادر. وتعتبر الجبلاوي أن المستشرقين في الكثير من المواقف سقطوا في الخلط والإسقاط بسبب تعاملهم مع المصادر من خارج الثقافة العربية الإسلامية. وعن باتريسيا كرون ومايكل كوك، تقول «إن الباحثين يستندان إلى مصادرات واستنتاجات قد تفضي إلى قلب الأحداث رأساً على عقب. فالباحثان يكتبان تاريخ القرن الأول بحرية نظرية شديدة وبحرية لغوية شديدة أيضاً، فلا تخلو لغتهما من انطباعية؛ ولهجة ساخرة، ولا يخلو خطابهما العلمي من تهكّم واستفزاز». وتعتبر الجبلاوي أن غياب التدوين في مرحلة الإسلام المبكر وغياب الأبحاث الأركيولوجية في الجزيرة العربية فسح المجال للاجتهادات التي قد تناقض الحقيقة وتتيح للمستشرقين التصرف بحرية، فيطلقون العنان للتخمينات والتصورات التي تبقى اجتهادات ذاتية لا غير؛ من شأنها أن تتسبب في انتكاس الفكر الموضوعي؛ لمصلحة التيارات والنزعات الخاصة التي قد تعمّق قيم اللاحوار واللاتسامح.