ثمة وهم لدى بعض أشباه الثوار، أو من هم حديثو نعمة المشاركة في النشاط الوطني/ القومي، مهما كان هامشياً، وكذلك لدى بعض الشخصيات في هذه الحركة السياسية أو تلك، بعدّ أنفسهم ورثة شرعيين للحركات الوطنية، المسلحة وغير المسلحة، التي سبقتهم، وبهم تنتهي سلسلة «الثوار» أو ما شُبّه لهم، ولنا، كذلك. وهناك من الحركات السياسية الوطنية أو القومية من ترجع جذور نشاطها السياسي، والعسكري في بعض الأحيان، أو في كثير منها، إلى من تتشارك معهم في الفكر أو أفضل لنقل: الإيديولوجيا، وتجاهل الحركات الوطنية الأخرى كافة على قاعدة اختلافها معها في منطلقاتها النظرية. فقط الحركات الثورية الحقيقية تعترف بأفضال من سبقها من حركات ونشاطات ثورية على الصعيدين الوطني/ القومي والأممي. نرى هذا في الشرق والغرب، والشمال والجنوب إذ إن النرجسية، فردية كانت أو جماعية، لا تميز جغرافيا عن أخرى، أو مجتمعاً عن آخر.

لكن ذلك وهم، إذ إن النضالات السياسية الوطنية والقومية، وحتى الأممية، أيّاً كان شكلها، هي مراكمة للتجارب التي سبقتها، وهذا الهدف من عرضنا كتاب «أميلكار كابرال: ثوري وطني ومن أجل عموم أفريقيا» (منشورات جامعة أوهيو ـ 2021) عن المناضل الغيني الأممي الكبير أميلكار كابرال، والمناضل الطبيب المارتينيكي/الفرنسي فرانز فانون.
كبر القائد المناضل الحقيقي يتجلى، ضمن أمور أخرى في تواضعه، وهذه كانت إحدى سمات المناضل أميرلكار كابرال. عندما التقت لوسيت كابرال، زوجة لويس كابال السابقة، بنلسن منديلا بعد إطلاق سراحه بعد 27 عاماً من السجن، قالت له بإعجاب: أنت الأفضل. لكن منديلا رد فوراً: لا، هناك كابرال. كانت الملاحظة المتواضعة لمناضل الحرية الذي عاش ليرى انتصار الكفاح الطويل الذي قاده شهادةً على مدى تأثير مقاتل الحرية الذي لم ينج ليشهد النصر في نهاية المقاومة المطولة والحملة العسكرية التي قادها. تواضع منديلا، الذي رفض أن ينسب إلى نفسه الفضل في نضال «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي» الناجح ضد الفصل العنصري، وأصرّ على أنه «ليس الأفراد هم المهمّين، بل الجماعة»، يوازي تواضع كابرال، الذي تجنب دائماً إعادة الفضل عن الإنجازات الرائعة للحزب الغيني، مشدداً بدلاً من ذلك على «القيادة الجماعية» (قارن هذا مع الحركة الوطنية الفلسطينية الفاشلة التي فرضت عبادة الشخصية، وهذا موضوع يستحق بحثاً منفصلاً).
إضافة إلى كاريزما شخصية كابرال، هناك تواضعه الذي جعل أفكاره تتردد في أفريقيا وفي خارجها بعد أكثر من أربعة عقود من غدر رفيق دربه به، ويتم تخليده داخل القارة وخارجها في تسمية المؤسسات الأكاديمية والمباني الحكومية والساحات العامة والشوارع والطرق... ومع أنه لم يعش لإنجاز كل ما شرع في القيام به، إلا أن إرثه يظل ملهماً لأجيال من الأفارقة وغير الأفارقة الذين يواجهون تحديات الحرمان والاستغلال والقمع.
كان مهندساً زراعياً قاد كفاحاً مسلحاً أنهى الاستعمار البرتغالي في غينيا بيساو وكاب فيردي


كان أميلكار كابرال مهندساً زراعياً قاد كفاحاً مسلحاً أنهى الاستعمار البرتغالي في غينيا بيساو وكاب فيردي. وقد أسهمت الثورة التي أطلقها على نحو حاسم في انهيار النظام الفاشي في لشبونة وتفكيك الإمبراطورية البرتغالية في أفريقيا. لقد كان صوت الثورات المناهضة للاستعمار وضد البرتغال ووجهها. فقد كان استراتيجياً عسكرياً لامعاً ودبلوماسياً ماهراً ومفكراً أصلياً كتب مقالات مبتكرة وملهمة لا تزال تتردد حتى اليوم. قيادته الكاريزمية ذات الرؤية الحكيمة وتضامنه النشط لعموم أفريقيا والتزامه الدولي «بكل قضية عادلة في العالم» تظل ذات صلة بالنضالات المعاصرة من أجل التحرر وتقرير المصير. لقد كان التزامه وتضامنه مع كل قضية عادلة في العالم أمراً جلياً وربط النضال ضد الاستعمار في بلاده ليس فقط بحركات الاستقلال الأخرى في المستعمرات البرتغالية أنغولا وموزمبيق ولكن أيضاً بفيتنام وفلسطين.
المؤلف الذي كتبه بيتر كاريبي ميندي، أستاذ التاريخ والدراسات الأفريقية في كلية «رود آيلاند، بروفيدنس»، يضم 209 صفحات مليئة بالحقائق عن كابرال والنضالات من أجل الاستقلال في البرتغال على نطاق أوسع. سيتعلم القراء عن الحركة في غينيا بيساو وكاب فيردي وعن الثورة الأفريقية الأوسع لإنهاء الاستعمار.
كرئيس لوفد الجبهة في مؤتمر القاهرة، الذي طغت عليه الاغتيالات الأخيرة للزعماء القوميين الأفارقة ومنهم فيليكس رولان مومييه من اتحاد شعوب الكاميرون ورئيس الوزراء الكونغولي باتريس لومومبا، انضم كابرال إلى الإدانات الجماعية لمكائد الإمبريالية، مردداً الملاحظات الافتتاحية للمضيف الرئيس جمال عبد الناصر بأنّ كثراً يعتقدون أن الإمبريالية في أفريقيا قد انتهت، وذكّر المشاركين في المؤتمر بضرورة الاعتراف بالأخطاء العديدة والكبيرة في النضالات التحررية المستمرة، والتي لم يساعدها «التضامن الأفريقي» الذي اتسم «ببعض التردد، وحتى بالارتجال». كما أوضح كابرال التحديات الهائلة التي واجهوها: فقد استمر «البرتغاليون الفاشيون الاستعماريون» في قمع رعاياهم المستعمرين بوحشية. و«العنصريون الفاشيون في جنوب أفريقيا» ما زالوا يطورون يومياً «جهاز الفصل العنصري البغيض»؛ و«المستعمرون البلجيك عادوا إلى الكونغو»؛ و«الإمبرياليون البريطانيون» ما زالوا يناورون بذكاء للحفاظ على «الهيمنة الكاملة» على شرقي أفريقيا، و«الهيمنة الاقتصادية» على المستعمرات السابقة في غربي أفريقيا؛ و«الإمبرياليون والمستعمرون الفرنسيون» الذين اختبروا أخيراً القنبلة الذرية في الصحراء الكبرى كانوا «يقتلون البشر العزّل في الجزائر» و«يزيدون من سيطرتهم الاقتصادية» على أراضي مستعمراتهم السابقة. وأخيراً، فإن الإمبرياليين الأميركيين، الذين كانوا «يخرجون من الظل ومندهشين من ضعف شركائهم، يسعون إلى أخذ مكانهم في كل مكان».
أميلكار كابرال إحدى شخصيات نضال التحرر العالمي البارزة ومكانه جنباً إلى جنب مناضلين آخرين ومنهم أحمد سيكو توري، وكوامي نكروما، وجوليوس نايريري، وتشي غيفارا، وفيديل كاسترو، وطوماس سنقارا وأحمد بن بله وسامورا ميشيل وتوم أمبويا... والقائمة تطول.
Amílcar Cabral, A Nationalist and Pan-Africanist Revolutionary. ohio university press, Athens, ohio (2019). extent: 240 pages with 5 maps and illustrations. Peter Karibe Mendy