تنحو مقاتل الشعراء وميتاتهم إلى أن تكون شاذّة غريبة، لكنها رامزة، تمثّل وتكشف، في الآن ذاته. فقد قُتل طرفة بن العبد، مثلاً، لأنه رفض أن يفتح الرسالة التي يحملها، رغم أن خاله المتلمّس حذّره منها ومما تحمله. إذ قال له: «هل لك في كتابينا فإن كان فيهما خير مضينا له، وإن كان شراً اتقيناه. فأبى طرفة عليه، فأعطى المتلمس كتابه بعض الغلمان فقرأه عليه فإذا فيه السوأة، فألقى كتابه في الماء، وقال لطرفة: أطعني وألق كتابك. فأبى طرفة ومضى بكتابه». وكانت الرسالة تقول للمرسل إليه: اقتله. فقتله بعد وصوله. وهكذا صار موت طرفة رمزاً لعمى الإنسان وعناده، أو لرغبته السرية في الموت. فحين رفض فضّ ختم الرسالة، فقد كان يمضي وراء رغبة عميقة في الموت تكمن في أعماق نفسه. أما خاله المتلمس، فقد أذاب موته في الماء، لأنه كان يرغب في الحياة.
مات بدر شاكر السياب فقيراً معدماً، معذباً متروكاً، في الوقت الذي كان فيه تأثير قصائده يمتدّ وينتشر

ومات امرؤ القيس بحلةٍ مسمومة في بلاد الروم. وكان موته رمزاً لتقصير الوسيلة عن الغاية. فهو القائل لصاحبه:
فقلت له: لا تبك عينك إنما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقد فشلت محاولته لأن وسيلته لم تكن كافية. التعاكس بين الوسيلة والهدف هو ما يكشفه موته.
ومات السليك بن السلكة، العدّاء السريع، هو الآخر، ميتة رمزية سجلتها أمه بقولها:
طاف يبغي نجوة من هلاكٍ فهلك
ويا لها من جملة مختصرة صاعقة. لقد حاول أن ينجو من الموت فوقع في شراكه. بذا، صار موته رمزاً للتعاكس بين الإرادة والقدر. هو يريد أمراً، والقدر يخطط لغيره.
موت شيطان الشعراء وخارجيّهم، الحطيئة، كان الأشد غرابةً ورمزيةً


أما تأبط شراً فقد كان قادراً بعد موته على إتمام ما أراد. إذ حلف ليقتلن مائة من أعدائه، فقتل 99 منهم. غير أن جمجمته تكفلت بالرقم 100. فقد ركلها واحد من الأعداء بقدمه من غيظه، فجرحته، فمات. وهكذا فعلى عكس السليك، كان موته رمزاً للغلب النهائي المدهش للإرادة، التي أكملت عملها حتى بعد موت صاحبها. كان تأبط شراً قد مات، لكن إرادته كانت حية تجوب القفار كي تحقق له ما أراد.
ومات أبو خراش الهذلي بنكزة حية. فصار موته عند أبي العلاء المعرّي رمزاً للموت السريع الحاسم المفاجئ، الذي يأخذ على حين غرة:
وموت مثل موت أبي ذؤيبٍ
ونكزٍ مثل نكز أبي خراش
أما أبو ذؤيب فشاعر هذلي أيضاً. وكان الموت الذي طاف عليه موتاً طامّاً. فقد أتى على أطفاله الخمسة وتركه حياً. لذا صار موته عند أبي العلاء رمزاً لانقطاع النسل وعبثية جهد الإنسان الراغب في أن يتسلسل ويترك ذكراً.
أما عبد يغوث الحارثي الذي ضحكت منه الشيخة العبشمية في أسره:
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم تر قبلي أسيراً يمانياً
فقد اختار موته في أسره. إذ قال لآسريه: «يا بني تيم، اقتلوني قتلة كريمة. فقال له عصمة: وما تلك القتلة؟ قال: اسقوني الخمر، ودعوني أنحْ على نفسي، فقال له عصمة: نعم. فسقاه الخمر، ثم قطع له عرقاً يقال له الأكحل، وتركه ينزف، ومضى عنه».
وكان موته رمزاً للخيار في الضيّق والمحدود. كما كان فيه موت يختلط الخمر بالدم، ويفيضان معاً من الأكحل المقطوع. وقد لام عبد يغوث قومه الذين تخلوا عنه وهو ينزف دماً وخمراً:
جزى الله قومي بالكلاب ملامة
صريحهم والآخرين المواليا
وبذا فقد كان موته قطيعة مع قومه، وليس قطيعة مع الحياة فقط.
ومات المتنبي، حسب الحكاية، ببيت من شعره. فعندما أراد أن يهرب من المعركة ذكّره خادمه بأنه هو القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فأذهل ذلك المتنبي الذي قال لخادمه: قاتلك الله لقد قتلتني بشعري، وقاتل حتى مات. وصار موته رمزاً لانقلاب عمل الإنسان ضده.
ومات بدر شاكر السياب فقيراً معدماً، معذباً متروكاً، في الوقت الذي كان فيه تأثير قصائده يمتد وينتشر، حتى إنه تمنى في لحظة أن يكون مقبولاً محبوباً مثل دواوينه الشعرية:
يا ليتني قد كنت ديواني
لأفرّ من صدر إلى ثان
فقد عاش معذباً بين خِلقته البائسة وخَلْقِ يديه الجميل. ولعل الله قد حجب عنه جمال الخِلقة ليمنحه القدرة على الخَلق الجميل. وبذا يكون موته رمزاً للعداء السرّي بين الشاعر وقصيدته. فهي ترميه وراءها وتتفوق عليه، في حين ينظر هو إليها حاسداً.
أما موت شيطان الشعراء وخارجيّهم، الحطيئة، فقد كان الأشد غرابة ورمزية. إذ طُلب منه، وقد أتاه الموت، أن يوصي للفقراء بشيء، فقال: «أوصيهم بالإلحاح في السؤال، فإنها تجارة لا تبور. قيل له: فما توصي لليتامى؟ قال: كلوا أموالهم و... أمهاتهم. قيل له: فهل من شيء غير هذا؟ قال: نعم تحملوني على أتان (حمارة) وتتركوني راكبها حتى أموت». فحملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون حتى مات.
وكان موته العبثي الساخر هذا احتجاجاً على الحياة، وهجاءً مرّاً لها. لقد رفضته فرفضها، وغادرها غير آسف عليها. لكن عليَّ أن أقول بأنه غادر الحياة مشفقاً على شيء واحد: الشعر. فقد بكى لمرة واحدة أمام مشيّعيه، فسألوه: لِمَ تبكي؟ فأوضح لهم أنه لا يبكي أحبّته الذين يفارقهم، ولا يبكي نفسه، بل يبكي الشعر: «أبكي الشعر الجيد من راوية السوء». أمر لا يصدق حقاً. يموت وهو يبكي الشعر إشفاقاً من راوية سيّئ يرويه على غير وجهه! بذا صار موته رمزاً لتفضيل الفن على الحياة. الحياة، قذارة، والفن نقطة الطهارة الوحيدة فيها.
* شاعر فلسطيني