عن «دار التنوير»، صدرت أخيراً الترجمة العربية لكتاب «أسباب وجيهة للمشاعر السيئة» لراندولف إم نيس (ترجمة: محمد فتحي خضر). راندولف نيس، هو أستاذ في علم النفس والطب النفسي ومدير مركز التطور والطب في جامعة ولاية أريزونا. هو يعتبر رائداً في طريقة التفكير، بواسطة تفسير التطور الدارويني، التي تتناول الاضطرابات النفسية. عبر حشد طيف واسع مِن مبادئ علم الأحياء التطوري ومعالجة الاضطرابات النفسية في الطب النفسي وعلم النفس السريري والعمل الاجتماعي والتمريض، وعلم الأحياء التطوري، والانتقاء الطبيعي، يحاول الكتاب بشكل معمق أن يجيب على أسئلة: لماذا نحن معرضون للأمراض العقلية؟ ولماذا هذا العدد الكبير من الأمراض العقلية؟ وإن كان الانتقاء الطبيعي يمكن أن يقضي على القلق والاكتئاب والإدمان وفقدان الشهية والجينات التي تسبّب التوحّد والفصام ومرض الهوس الاكتئابي، لماذا لم يفعل؟
تقوم حجة نيس على أنّ بعض الأمراض ليست ناجمة عن الجينات أو عيوب الدماغ. في كثير من الحالات، تكون معاناتنا بسبب أجسامنا وأدمغتنا غير المتكيفة مع البيئة. لذا، يحثّ نيس الطب النفسي على الانخراط في النظر إلى الأعراض على أنها أمراض، بدلاً من التركيز على ما يسبّب اختلال المشاعر في المواقف المختلفة. ويصر على أن «التمييز الدقيق بين الأعراض وبين كل من المتلازمات والأمراض، أمر بالغ الأهمية لإجراء التشخيصات النفسية مثل التشخيصات في بقية الطب».


ينطلق مِن مفهوم، «عدم التوافق»، أي عدم استعداد جسم الإنسان للتعامل مع البيئات الحديثة. وعندما يتعلق الأمر بالصحة الجسدية، فإن هذا يؤدي إلى ويلات مرتبطة بالنظام الغذائي مثل مرض الشريان التاجي والأمراض المرتبطة بالسمنة كالسكري، ونادراً ما كانت المستويات العالية من الدهون والسكريات متوافرة في بيئات أسلاف البشرية. الشيء نفسه ينطبق على الكحول المقطر ومجموعة واسعة من المواد الكيميائية النشطة نفسياً.
لهذا، يعتقد نيس أنّ «عدم التطابق» يفسّر مثلاً اضطراب العاطفة ثنائي القطب الناتج عن «حالة مزاجية» سيئة، ما يتسبب في تصاعد الحالة المزاجية أو تدهورها. وبعد ذلك، بدلاً من العودة إلى الركود، يبقى على هذا النحو. يشير نيس إلى أنّ «الاكتئاب هنا سببه الموقف، ونظرة الموقف، والدماغ» ويجب معالجة الكُل. وفي مثال أكثر وضوحاً حول الإدمان، يرى أنّه ناتج عن عدم التوافق بين دماغ أجدادنا وبيئتنا الحديثة، حيث تكون المخدرات فعالة ومتاحة بسهولة مع القليل من المحظورات الثقافية ضدها.
ثم هناك العدوى من البكتيريا والفيروسات ومسبّبات الأمراض الأخرى، مع معدلات تكاثر سريعة مقارنة مع البشر. وهكذا تتطور استراتيجيات هجومها بسرعة أكبر مما تتطور دفاعاتنا. على سبيل المثال، الحالة النفسية الحادة المعروفة باسم Pandas لها أعراض تشمل التشنجات اللاإرادية الوسواسية، نتيجة اختلالات المناعة الذاتية النفسية والعصبية المصاحبة لعدوى البكتيريا الكروية السبحية في الأطفال. لكن إذا تطورت أنظمتنا المناعية بالسرعة التي تطورت بها بكتيريا المكورات العقدية، فمن المحتمل ألّا يكون هذا المرض موجوداً. لماذا لم يحدث إذاً التطور؟
يخبرنا نيس أن الانتقاء الطبيعي لا يهتم كثيراً بالصحة الفردية أو السعادة أو اللياقة البدنية أو طول العمر، كما قد يعتقد المرء، بل إنّ الشاغل الأساسي هو تشكيل الدماغ والجسم لتحقيق أقصى قدر من النجاح الإنجابي، المعروف أيضاً باسم «نقل الجينات». يصف نيس حدود الانتقاء الطبيعي في ما يتعلق بالعواطف مثلاً، كما يعترف بعدم قدرته على القضاء تماماً على الطفرات، لكن يشير إلى أن «عواطفنا ما زالت تفيد جيناتنا أكثر بكثير مما نفعله نحن».
يساعدنا نيس على فهم أن جزءاً من الإجابة عن سبب احتواء حياة الإنسان على الكثير من المعاناة هو «أن الانتقاء الطبيعي شكّل المشاعر مثل القلق وسوء الحالة المزاجية والحزن لأنها مفيدة (...) في بعض الأحيان تكون المشاعر المؤلمة طبيعية ولكنها غير ضرورية لأن كلفة عدم امتلاك المشاعر قد يكون باهظاً. فبدون هذا الألم التطوري لمشاعرنا، قد نفقد أصول قدراتنا المذهلة على الحب والخير والشعور بالذنب، والشكر، والاهتمام بشكل مفرط بما يفكر فيه الآخرون عنا...».
ولفهم أكثر للاضطرابات النفسية بعوامل مرتبطة مباشرة بمتطلبات التطور، تميل الأشياء المعقدة مثل الأدمغة إلى أن تكون حساسة تتعطل بسهولة، سواء بسبب الصدمة أو عدم كفاية التغذية أو «الإهانات»... ولكل جزء من الجسم مزايا وعيوب: جهاز المناعة أمر بالغ الأهمية، ولكنه يمكن أن يكون شديد التفاعل، ما يؤدي إلى الإصابة بأمراض المناعة الذاتية مثل الذئبة أو التهاب المفاصل الروماتويدي. وبالمثل، فإن الاستجابة للتهديدات هي سلوك شديد التكيف مفيد للبشر، ولكن نظام الكشف عن التهديدات الذي يعمل بشكل مفرط يمكن أن يظهر في صورة جنون عظمة.
لذا، يشير نيس إلى أن معظم الاستجابات التي تسبب المعاناة الإنسانية، غير ضرورية في الحالة الفردية ولكنها لا تزال طبيعية لأن تكاليفها منخفضة، فهي تحمي من الخسائر الهائلة المحتملة. إنها مثل الإنذارات الكاذبة من أجهزة الكشف عن الحريق، لكن هذا يستحق العناء لضمان تحذيرك باكراً بشأن كل حريق حقيقي. وبالمثل، يمكن فهم متلازمات القلق، بما في ذلك نوبات الهلع، على أنها حالات يؤدي فيها مبدأ كاشف الحريق إلى نتائج مزعجة. ويوضح نيس: «في مدينة تنتشر فيها سرقة السيارات، يكون نظام إنذار السيارة الحساس مفيداً على الرغم من الإنذارات الكاذبة، ولكن في مكان أكثر أماناً سيكون مجرد مصدر إزعاج».
تقوم حجة نيس على أنّ بعض الأمراض ليست ناجمة عن الجينات أو عيوب الدماغ


لذا يوضح أن العواطف هي حالات متخصّصة تضبط علم وظائف الأعضاء، والإدراك، والخبرة الذاتية، وتعبيرات الوجه، والسلوك بطرق تزيد القدرة على مواجهة التحديات التكيفية للمواقف التي تكررت على مدار التاريخ التطوري للأنواع.
حجة نيس أن المشاعر ليست إيجابية أو سلبية، ولكن يجب استخدامها بشكل مناسب في المواقف، من خلال عدم الاستخدام المفرط أو المقيد، لتكون فعالة. إنه يوفر وظائف تطورية محتملة للشعور بالذنب والقلق والحزن والمزاج المرتفع والمزاج السيئ واليأس والاكتئاب وحتى خداع الذات، مؤكداً أن تحقيق التوازن بينها هو ما يجب أن نهدف إليه.
لذا يدعو نيس إلى أن الطب النفسي يجب أن يستخدم نهجاً بيولوجياً نفسياً اجتماعياً لتقييم وعلاج المرضى في مواقفهم، حتى يجد العلم طرقاً أفضل لتغيير أدمغتنا لتحسين الإدارة العاطفية، مستنداً إلى أن الباحثين لم يعثروا بعد على أسباب وراثية لاضطرابات عقلية خاصة. لذا يشير إلى أنه عندما يتمكن المصابون من التعرف إلى أصل ظروفهم ليس في ماضيهم الخاص، ولكن في مصادفة الانتقاء الطبيعي، فعادة ما يساعدهم ذلك في التغلب على أمراضهم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا