يقوم منهج البنيويّة التكوينيّة في النقد الحديث والمعاصر على مبحثَين أساسيّين هما: مبحث الفهم، ومبحث التفسير، باتجاه معاينة البنى الدالّة، والرؤى الأيديولوجيّة، وأنماط الوعي، وأهم ما يميّز هذا المنهج، أنّه وفق الفيلسوف السويسريّ جون بياجي «طريقة بحث في الواقعِ، ليس في الأشياء الفرديّة بل في العلاقات في ما بينها». من دون إغفال المنهجيّة الأكاديميّة في البحث العلمي، ذهب أستاذ العلوم السياسيّة علي الجرباوي على هذا المنهج، معايناً ماهيّة الحضارة في المسار التاريخي، وعلاقتها بالمعرفة والأيديولوجيا على قاعدة أنّ الإنسان هو بؤرة البحث الدائم عن الأشياء، وتصرّفه مع البيئة المحيطة والآخر البشري، هو المحدّد للشكل الكلّي لأزمنة التاريخ وحضاراتها وما أنتجته من معارف وأفكار، يمكنها أن تسهم في فهم الحاضر والتنبّؤ بالمستقبل. وعلى الرّغم من كون مدرسة المنهج البنيويّ التكوينيّ، هي مدرسة نقديّة للأجناس الأدبيّة، يؤخذ عليها ترجيح كفّة ما هو أيديولوجي وسوسيولوجيّ على ما هو جماليّ وأدبيّ، إلا أنّ المأخذ هنا انقلب إلى نقطة قوة اتّكاء الجرباوي عليها بقصد أو من دون قصد، تحديداً وهو يطبّقها على الموضوع التاريخي، ما فتح له المجال واسعاً لأن يقيم مقاربات فكريّة، ومحاكاة جدليّة بين أطروحته، وما تناوله من أطروحات مدوّني الفكر والفلسفة والتاريخ الكبار كابن خلدون، وأرسطو، وفريدريك، وماركس، وتوينبي، وداروين، وهيجل وغيرهم.
هكذا جادل وتقاطع وتنبّأ الجرباوي في كتابه «المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة – محاولة لفهم التاريخ» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ـــ 2021)، على امتداد 376 صفحة، مقسّمة على استهلال ومقدّمة وخمسة فصول وخاتمة، تشير بوضوح كامل لماذا هو منهج بنيويّ تكوينيّ.


ولأنّ البحث برمّته يرتبط «بموضوع ربط مسار التاريخ بتوالي الحضارات، ومحاولة إيجاد الرّابط النظريّ بين تلك العلاقة وتقدّم وتأخّر الأمم» (ص10)، بدأ الجرباوي كتابه بمقدّمة بحث فيها «رحلة البقاء» والقصد هنا بقاء الإنسان، كأرضيّة تأسيسيّة تمكّنه من الاشتباك مع فكرة «بتر التاريخ» التي عمل عليها فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، و«صدام الحضارات» التي نظّر لها صامويل هنتنغتون، بالاستناد إلى محاولة الباحث تفكيك فكر مدرسة التحديث الأميركية القائمة على «النظرة الاستعلائيّة المرتبطة بفكر المركزيّة الأوروبيّة والمحوريّة الغربيّة» (ص19).
ينتقل الكاتب بسلاسة مترابطة ومنطقيّة إلى عنوانه الثاني «تدحرج التاريخ» الذي يستعرض فيه التسلسل الزمنيّ والمختصر والمكثّف، لتتبُّع كيفيّة تطوّر جدليّة العلاقة التي تربط الإنسان مع البيئة، والإنسان مع الإنسان، عبر التطرّق إلى نظريّة العقد الاجتماعيّ وعلاقتها بكيفيّة نشوء الدولة، لتنظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، بالاستناد إلى نظريّة «النشوء والارتقاء» لتشارلز داروين، والماديّة الجدليّة لكارل ماركس، حيث حيثيّات التأقلم في ميدان الصراع والتنافس بحسب داروين، والمسار التاريخيّ المحكوم بالقوانين الماديّة وفق ماركس.
وبذكاء الباحث الدارس جيّداً، يرصد الكاتب في سرده لماهيّة الحضارة في فصله الثالث، مكونات الأيديولوجيّا المحفّزة، ودورها في تفاعل واندماج الثقافات وانتشارها بوصفها المنْتَج الأساس الذي «يمدّ الثقافة بما هو ضروريّ ولازم من طاقة محفّزة تضخّ فيها قوة دفع، وتحوّلها من ثقافة محليّة متقوقعة إلى ثقافة أساسيّة متوثّبة» (ص161)، باتجاه تشكيل ما اسماه هيجل بـ «الأيديولوجية العالميّة» ذات النسق الكلّي للأفكار والمعتقدات.
وكي يتمكّن الجرباوي من مناقشة كلّ نسبيّ ومطلق، بعد نحته مصطلحي «الحضارات المتموضعة، والعالميّة»، كان لزاماً عليه أن يتحرّر من القيود والمعيقات الفكريّة كافّة، ليمتلك ملكة النفي والرفض والمساءلة لكلّ ما هو مسلّم به، سواء من إكراهات الدين أو العادات والتقاليد أو الموروث أو الفكر، ما ساعده في الفصل الرابع «توالي الحضارات» في استعراض مسار الحضارات وفقاً للسّياق الزمني، «من دون إسقاط أحكام عليه مُنتَجةٍ في زمن آخر» لأنّ «التاريخ يتكوّن من حوادث (...) والحادث هو التغيّر، تغيّر أحوال الشخص أو الجماعة أو المكان» وفق حسين مؤنس (ص187).
يرى أنّ الثقافة الصينية هي الوحيدة التي تمتلك المقومات لتحدّي الحضارة الغربيّة


في الفصل الخامس وبالاستناد إلى ما سبقه من فصول، حدّد الكاتب الإطار النظري من خلال إقامة مقاربات فكرية مهمة ما بين الحضارات الرائدة، وعلاقتها بتطوّر الحياة البشرية على الأرض، مستعرضاً ردود الفعل ما بين ثلاثة أنماط مختلفة، هي الثقافات العربيّة واليابانيّة والصينيّة، وصولاً إلى استيضاح من كان مصاباً بالالتباس والانفصام ويكمن في الثقافة العربيّة، ومن ذهب باتجاه الاعتراف بتفوّق الآخر ومشاركته معارفه ومنتجه، ويتمثّل في نموذج الثقافة اليابانيّة، ومن أسّس ليكون نداً متحدّياً وتُعبّرُ عنه الثقافة الصينيّة، التي يرى فيها الجرباوي الثقافة الوحيدة التي تمتلك المقومات الضروريّة لتحدّي الحضارة الغربيّة، باتجاه إنتاج حضارة بديلة، الأمر الذي يتنبأ الكاتب بحدوثه بدون إغفال ما سيواجهه من تعقيدات وصعوبات لن تحول دون صعودها إلى سدّة النظام الدوليّ القادم، سواء كان ثنائيّاً أو جماعيّ القطبيّة.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الجملة الأهمّ في كامل البحث، وتتمحور حولها الأفكار المطروحة كافّة، أتت في قول الكاتب بأنّ: «الحضارة الغربيّة هي محصّلة التقدّم الإنساني التراكميّ عبر العصور، وبالتالي هي ليست ملكاً للغرب، وإنّما هي ملك للبشريّة جمعاء، تعبّر عن الإسهامات الناجمة عن تفاعل الإنسان مع البيئة، ومع غيره من البشر على مرّ العصور» (ص359)، ما يعني أن هناك مسافة هائلة ما بين مدارج التراجع والتقوقع، ومصاعد التقدّم والتطوّر، فمن أراد أن يعرف الحاضر ويتنبأ بالمستقبل، عليه أن يفسّر الماضي ويفهمه، بمعطيات فكريّة ومعرفيّة جديدة، قادرة على الإجابة عن أسئلة الدين والدولة، بما يحقّق ملاحظة كافّة التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة وإشكاليات قراءتها وتأويل نتائجها، ليواكب العصر ويبني حضارة ويصبح له قيمة من شأنها أن تقدّم بديلاً أو دليلاً لبديل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا