1 ــ زعران إسرائيلالأستاذ علي عبد الأمير بيضون، مدير ثانويّة بنت جبيل، العامليّة اللبنانيّة، الأسبق، قصّ ما أرغب في سماعه عندما التقينا وهو في زيارة من لبنان إلى سيدني في منزل إبنه المهندس هشام بيضون، وكانت إسرائيل في عام 1983 جاثمة على الشريط الحدودي، جنوب لبنان، مع فلسطين، منذ سنة 1978 إلى سنة ألفين، إلى عام التحرير، وتعيث فساداً بمعاونة عملاء محلّيين ينتمون إلى أحزاب يمينيّة متشدّدة، وإلى عناصر من كلّ الطوائف اللبنانيّة الخاضعة، وطلبتْ، في مرّة، من وجهاء ومخاتير وفعّاليّات قرى قضاء بنت جبيل أن يحضروا إلى بلدة عيتا الشعب الواقعة على الحدود مباشرة، ولم يتردّدوا في الإستجابة، غير مخيّرين، وسأل الضابط الإسرائيلي إثر انتهاء خطبته عن قوّة الصداقة الإسرائيليّة ـ اللبنانيّة بلغة عربيّة «مكسّرة» إذا كان لأحد أيّ سؤال؟، ووعد، كاذباً طبعاً، أنّه مستعدّ للإجابة على السؤال بالصراحة وبالسخاء على أي طلب، أحدٌ من الحضور لم يسأل ولم يطلب، فماذا يسألون وماذا يطلبون و«على خصرِ الضابط فردْ» ـ مسدّس، والمكان ينتشر فيه جند ومسلّحون وغير بعيد دبّابة ميركافا ـ مركبة الربّ، التي انقلبت إلى علبة بسكويت أمام صاروخ الكورنت بيد المقاومة في حرب تمّوز 2006، فقط «مختار كونين» المرحوم الحاج عقيل مهنّا «أبو محمّد» تجرّأ وقال، وهو يقف، ويرفع، في آن، إصبعه، كأنّما يطلب الكلام، وبصوته الجهوري الشهير: «إلْنا مَطلبْ واحدْ يا حضرة الضابطْ، بس ردُّوا زعْرانكنْ عنّا» ـ المتعاونين، ووعده الضابط الإسرائيلي خيراً لم يكن.

2 ـ برهانُ الله
جُنّ جنون إسرائيل، قُتِل لها جندي وأُسِر إثنان، وذلك بعمليّة للمقاومة عند ناحية من بلدة كونين ـ جنوب لبنان، وذلك سنة 1986، وقرّرتْ معاقبة البلدة، مع علمها الأكيد أنّ المنفّذين هم من خارجها، فأشاعت أنّها ستقصف بالمدفعيّة، وفقط كي يسلم أهل كونين عليهم أن يفرّوا.
وخرجوا نساءً وأطفالاً وشيباً وشبّاناً، وانتشروا في الحقول والجبال وهم ينظرون خلفهم ويرون اللصوص المتعاونين مع إسرائيل، وهم من كلّ الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة «طالْعِينْ نازْلِينْ، وما خَلّوا شِيْ: الدخّانْ، الْدَوَابْ، اْلِحْبُوبْ، وحتّى الْشَبابيكْ وِالِبْوابْ وقْفاصْ اْلِقبور»، وأحد اللصوص، دخل إلى مقام النبي «دانيان» ـ دانيال، القائم عند الجهة الجنوبيّة من البلدة الواقعة عند قمّة جبل، وكان إجمالاً مقاماً متواضعاً ـ غرفة ـ حجرة، و«مُليَّسهْ» ببساطة، و«مطْروشهْ» بدهان أزرق باهت في جانب، مع قبّة متواضعة خضراء اللون.
وكان في الفناء شجرة «بطن مْكلّخهْ» ـ شجرة بطم عتيقة، وعلى الرغم لا تزال تورق، وبالقرب منها قبور عمر بعضها أكثر من قرن ونصف القرن، وواحد منها لشقيق والد جدّي، وهو المرحوم نايف مسلماني، وفي المقام محمل مغطّى بقماش زاهي، و"قِجّة" نذورات".
استنكرت الحاجّة سهجنان، التي بقيت في القرية، مع قلّة من العجائز والأولاد، أن يدخل «المتعاون» إلى المقام، وذكّرته، وهو عميل مسلم، وحذّرته، خصوصاً عندما رأته يقترب من القجّة، وقالت له أنّها قجّة «نذُوراتْ» للنبي «دانيان»، وأنّ من يمسّها لن يسلم من غضب وعقاب، فدفعها من كتفها، وقعتْ على الأرض، قالت له، وهي هذه حالها، وتراه في آن يضرب القجّة بكعب سلاحه فتنكسر، ويهرّ ما فيها: «الله يهرّ مَصَارِينَكْ مِتِلْ ما هرّيتْ هالنْذُورَهْ».
وهو ذاته، وفيما كان يُغادر سالكاً الطريق الترابي ـ «طريق المقبرة» الذي يصل كونين ببلدتي عيناثا وبنت جبيل المجاورتين «طلعْ فيهْ لغمْ» ـ انفجر به لغم، من عمل المقاومة، بالتأكيد، ويُقال أنّه كان يحاول تفكيكه، وصلَ الخبرُ إلى الضيعة، وإلى الحاجّة سهجنان، مع معلومة أنّ اللغم «تعبّى ببطن اللّحدي، وهرّت مصارينه»، قالت للعجائز حولها، والبشرى في وجهها، بعدما سبق وقصّت عليهنّ خبرها معه: «الله بيّنْ برْهانو دغري».

3 ــ الخروج من عيناثا
من طريقِ «الميذنة» ـ مئذنة بلدة عيناثا، نادى المنادي، وهو أحد عملاء إسرائيل، بوجوب أن تخلو البلدة، من أي كونيني يكون قد لجأ إليها، إثر تهجير أهالي بلدة كونين سنة 1986، بعد عمليّة «الأسيرين» الإسرائيليين، وكلّ عيناثي يأوي كونينيّاً ولا يرحّله سيُرحّل وأسرته من بلدته عيناثا معه أيضاً، وقال أحدُ أبناء عيناثا يائساً، وكان يؤوي صديقه الحاج موسى الشيخ حمّود «أبو ناصيف» وزوجته الحاجّة «أم ناصيف»: «خلّيكُنْ هون، واللي بِيصِيرِ عليكن بيصير علينا»، وأدرك الحاج أبو ناصيف أنّ الأمر محرج، عانق صديقه وشكره، وخرج والحاجّة، وغيرهما، من بيوت عدّة، وأهل عيناثا ينظرون إلى الراحلين بعيون حائرة، والحال يقول: «العين بصيره، واليد قصيره».

4 ــ يوم التحرير
وقصّ «بلدياتي» عدنان فوعاني: «كنّا في بلدة «بيت ياحون» أنا وعائلتي نقف مشرفين على بلدتنا «كونين» كالمئات غيرنا من المنتظرين إنسحاب العملاء من موقع «شلعبون» و«صفّ الهوا». العملاء يقصفون أطراف كونين. ووقعت إصابات. فجأة مروحيتان عسكريتان إسرائيليّتان فوق الحشود. تفرّق الناس. الشظايا من حولنا. أصيب إبني بمسمار إثر سقوط قنبلة يُقال «مسماريّة». أسرعت بعائلتي، اختبأنا في منزل مهجور ليس له باب ولا شبّاك. نمنا ليلتنا. وحقّاً لم يغمض لنا جفن. مِن «دغشة» ـ مع طلوع الفجر ـ كنت أول الواصلين الى كونين، هي على حالها منذ تركناها «ليلة» التهجير عام 1986. أنا في ساحه الضيعه. التقيت بالحاج عبد الكريم بلّوط مع المختار الحاج علي موسى الدبق واقفين ذاهلين ماذا يحصل؟. كانا من القلّة النادرة في الضيعة لا يزالون. الناس يتوافدون زرافات وجماعات. سألني المختار، رحمه الله: «مين أنت؟. مين أنتوا؟. شو عم يصير؟. شو هل الأعلام والرايات، وع الأعمده والبيوت»؟. قلت له، وقد ظهر لي أنّه لا يدري حقّاً أنّ إسرائيل قد هربت: «يا حاج تحرّرت كونين». لم يصدّقني، سألني: «إبن مين أنت؟». قلت: «أنا عدنان فوعاني إبن المرحوم الحاج صادق فوعاني». قال: «الله يرحم بيّك». وأخذني بالأحضان وأجهش باكياً، وضمّني الحاج عبد الكريم بلوط، رحمه الله أيضاً، وهو يردّد بصوت مرتعش: «الحمدلله تحرّرنا». وتطايرت زغاريد. إنّه يوم النصر، إنّه عرس النصر، إنّه عام ألفين، حلم تحقّق، شيء لا يصدّق.
**
* لبنان/ استراليا