جاء في القرآن: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا» (سورة مريم 96). وقد فُهمت كلمة «ودّ» في الآية على أنها تعني عموماً الحب والودّ. فالذين أمنوا وصلح إيمانهم، سيحبّهم الله. لكن هذا الاستخلاص مشكوك فيه جداً، بل وغير محتمل في اعتقادي. فاستخدام فعل الجعل في جملة «سيجعل لهم الرحمن ودا» توحي بأمر مادي ملموس لا بأمر معنوي مثل الود والمحبة. ولو كان الأمر أمر ودّ وحبّ، لما كان هناك من حاجة لاستخدام هذا الفعل ولكان قيل مثلاً «سيودهم الله».ويبدو لي أن أمر الودّ في الآية يتعلق بالكتابة والكتب لا بالود والمحبة. بذا فالآية تقول إن الله سيجعل للذين آمنوا كتاباً، أي عهداً. واستخدام الكتاب بمعنى العهد شائع جداً في العربية الكلاسيكية. يقال: «كتب لهم كتاباً، أي عهداً». وقد ورد مثل هذا في السيرة النبوية. فحين أسلم أكيدر، صاحب دومة الجندل: «كتب [الرسول] له ولأهل دومة كتاباً، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام، ولأهل دومة. إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم ولا يحظر النبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة لحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق ولكم به الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين» (ياقوت الحموي، معجم البلدان).
وكما نرى في الحديث، فالكتاب تعني: العهد والميثاق. وأنا أعتقد أن كلمة «ودّا» في الآية جاءت بهذا المعنى. أي أنها كتاب، وأن الكتاب يعني العهد والميثاق فيها. يؤيد هذا أن «الموّة» في سورة الممتحنة جاءت بمعنى الكتاب: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنت خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وأعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل» (سورة الممتحنة 1).
وقد أثارت كلمة المودة الجدال قديماً وحديثاً. ذلك أن «إلقاء» المودة تعبير فيه قدر من الغرابة. وهو ما يجعل احتمال أن تكون المودة بالمعنى الشائع صعب القبول. لذلك فقد كان هناك اقتراح يقول إن المودّة في الآية تعني الكتاب والرسالة: «ابن الأَعرابي: الموَدَّةُ الكتاب. قال الله تعالى: تُلْقُون إِليهم بالموَدَّةِ أَي بالكُتُب» (لسان العرب). وهذا أمر معقول جداً. فإلقاء المودة هو إرسال الرسائل. وبهذا يصبح استعمال فعل الإلقاء معقولاً ومقبولاً. ويعتقد على نطاق واسع أن الآية تشير إلى قصة حاطب بن بلتعة في السيرة النبوية. فقد كتب حاطب سراً كتاباً لبعض معارفه في مكة كي يضمن أن لا يؤذوا أهله المقيمين في مكة. وقد علم الرسول بأمر الكتاب، فأرسل من يحضره قبل وصوله إلى مكة:
«فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، وعمر، والزبير، وطلحة، وعمارا، والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد، وكانوا كلهم فرساناً، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها، وخلوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها. فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب، فبحثوها، وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهموا بالرجوع، فقال علي رضى الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه، وقال لها: أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك، ولأضربن عنقك. فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها قد خبأته في شعرها، فخلوا سبيلها، ولم يتعرضوا لما معها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم، قال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريباً فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا» (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب).
عبيد العصا هم عبيد الحية، أي عابدو الإله الذي يتمثل بحية


وقد نزلت الآية في حاطب هذا. وهي تشير إلى أن المودة تعني: الكتاب والرسالة. يؤيد هذا أن الآية تتحدث عن الإسرار بالمودة «تسرّون إليهم بالمودة». وهو ما يشير إلى رسالة سرية. وانطلاقاً من هذا كله، فمن الواضح أن جذر «ودد» يعطي معنى الكتابة إضافة إلى معانيه الأخرى.
وتتكرر في نقوش شمال الجزيرة العربية، وعلى الأخص النقوش التي تصنف بأنها ثمودية، كلمة «ودد» بشكل مكثف. حيث يقال: «ودد فلان» أو «وددت فلانة». وقد فهمت الكلمة عند جميع الباحثين بلا استثناء على أنها من المودة، أي من المحبة والود. وهناك من يحوّر المعنى ليصبح: تحيات. بذا فحين نقرأ: «ودد فلان»، فعلينا أن نفهم أننا مع تحيات وسلام. أما أنا فخالفت هذا الإجماع، وجادلت منذ زمن بعيد أن «ودد» في هذه النقوش تعني: كتب وحفر، لأن الكتابة كانت تتم بالحفر على الصخر. بذا يكون قد جرى فك تضعيف الفعل في هذه النقوش، فصرنا مع «ودد» بدل «ودّ».
وظني أن الفعل «ودد» بمعنى «كتب» أخذ من «الوَدّ» الذي هو الوتد: «ابن سيده وغيره: والوَدُّ الوَتِدُ بلغة تميم، فإِذا زادوا الياء قالوا وتيدٌ؛ قال ابن سيده: زعم ابن دريد أَنها لغة تميمية، قال: لا أَدري هل أَراد أَنه لا يغيرها هذا التغيير إِلا بنو تميم أَم هي لغة لتميم غير مغيرة عن وتد. الجوهري: الوَدُّ، بالفتح، الوَتِدُ في لغة أَهل نجد كأَنهم سكَّنوا التاء فأَدغموها في الدال» (لسان العرب). وبما أن الكتابة نقشاً على الصخر كانت تجري بآلة حادة، فإنه يمكنني الافتراض بأن نقش الحروف كان يجري بالوتد- الود. فهو آلة متوفرة دائماً عند البداة الرحالة في حلهم وترحالم، يربطون به دوابهم، ويشدون بها حبال خيامهم.
ولعل الاسم القديم لمدينة «العلا» في شمال الجزيرة العربية، وهو «دادان» أو «ديدان»، أن يكون على علاقة بما نحن فيه. واعتقادي أنه كان هناك إله قديم بهذا الاسم أخذت المدينة اسمها من اسمه. والاسم يرد في النقوش الدادنية- اللحيانية بصيغة «ددن». أما صيغة «دادان» مع حروف، فقد أخذت من النسخة الماسورية من التوراة. جاء في سفر العدد: «فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ، يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ». وأظن أن هذه الصيغة ليست سليمة، وأن الاسم الأصلي هو «دودان» وليس «دادان» أو «ديدان»، وأنه على علاقة باسم القبيلة العربية الشهيرة بني دودان، الذين اشتهروا باسم عبيد العصا». يقول الشاعر:
قولا لدودان عبيد العصا
ما غرّكم بالأسد الباسل
وبنو دودان هؤلاء فرع من بني أسد القبيلة الكبرى الشهيرة. واعتقادي أن جد القبيلة «دودان» إله في الأصل. وهذا ليس غريباً. فأغلب آباء القبائل العربية القديمة هم في الواقع آلهة. كما أن أبا «بني إسرائيل» هو الإله «إسرائيل» الذي ورد اسمه عند فيلو الجبيلي، وفي مسلة مرنفتاح المصرية في نهاية القرن القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقل مثل هذا عن «بني يهودا».
وهكذا يكون الود - الوتد قد أعطانا فعلاً آخر يعبر عن الكتابة نجد له صدى في القرآن ذاته.
إذن، فالاسم الأصح للعلا ولمملكة دادان هو «دودان» على اسم هذا الإله. ويبدو لي أن هذا الإله أخذ اسمه من الكتابة. بالتالي فاسمه يعني «الكتاب». وهذا يعني أنه شبيه بالإله «الكتبي» النبطي.
على أي حال، فقد كنت أوضحت في كتابي أن لقب «عبيد العصا» لبني دودان ليس لقب نبز في الأصل، بل لقب ديني، وأنه يشير إلى إلهم الذي يتمثل بعصاً. كما بينت أن العصا هنا تتماهى بالحية. بالتالي، فعبيد العصا هم عبيد الحية، أي عابدو الإله الذي يتمثل بحية. وهذا يذكر بعصا موسى التي هي عصا - حية في الوقت عينه. لذا قال الأفعى الجرهمي: «العصا من العُصيّة، ولا تلد الحيّةَ إلا حيّة». وليس مصادفة بالطبع أن تجتمع الحية والعصا هنا. فالحية دينياً هي العصا، والعصا هي الحية. أما الأفعى الجرهمي فهو الذي قسم إرث نزار بين أبنائه الأربعة: مضر وربيعة وإياد وأنمار. وقصته معروفة ومشوقة.
* شاعر فلسطيني