لندن | يعلّم أستاذ علم الاجتماع السياسي البريطاني البارز ديفيد ميلر، مقرّراً لتلاميذه في «جامعة بريستول» عن الأضرار التي تتسبب فيها النّخب وتمركزات السلطة للمجتمعات. ومن عناوين هذا المقرر موضوعة «الإسلاموفوبيا»، تلك الظاهرة الخطرة التي ما لبثت تسمّم المجتمعات الغربية وتضع لذوي البشرة البيضاء فيها غشاوة على أعينهم تمنعهم من تكوين آراء واقعيّة بشأن العدوان الإمبريالي الغربي المستمر ضدّ نطاق عريض من بلدان الجنوب، وتتسبب في استقطابات أهليّة حادة ضد مواطنيهم المسلمين وأيضاً المهاجرين بشكل عام. ومن الواضح أن مثل تلك الظاهرة تخدم حصراً أهداف النخبة المهيمنة على الثروة والسلطة في الغرب، وتضيّع طاقة الطبقات العاملة في حروب ثقافيّة لا طائل من ورائها. وفي هذا المقرر، يدرّس ميلر - وهو أحد أهم خبراء الإسلاموفوبيا في العالم - نظرية «الرّكائز الخمس» لرهاب الإسلام التي تحلل وتقبض على مختلف الجهات السياسية الفاعلة وراء نشر ذلك الرّهاب على صعيد عالمي. وبحسب هذه النظريّة التي صاغها ميلر مع زملاء له (انظر بالإنكليزية كتاب «ما هي الإسلاموفوبيا؟ عن العنصريّة والحركات الاجتماعيّة والدولة» من تحريره - 2017)، فإن جهات خمساً تتقاطع على إنتاج هذه الظاهرة، لخدمة أجندات سياسيّة مشبوهة: أجزاء من الحركة الصهيونية؛ وصناعة «مكافحة التطرف» (ولا سيما أجهزة الدّولة المكلّفة بمكافحة الإرهاب)؛ واليمين المُتطرف؛ وحركة المحافظين الجدد؛ والنخب النيوليبرالية. ويبدو أن الحرب التي شنّها اللّوبي الصهيوني البريطاني بلا هوادة على جريمي كوربن مرشح يسار حزب العمّال المعارض لمنصب رئيس الوزراء قبيل الانتخابات العامة عام 2019 قد رفعت من حساسية بعض عتاة الصهاينة المُنضوين تحت منظمة تطلق على نفسها اسم «وقفية أمن المجتمع» (The Community Security Trust) التي وصلها تسجيل لمحاضرة ميلر بينما يشرح النظريّة لتلامذته، فاعتبروها هجوماً معاديا للسامية، كعادة اللوبي الصهيوني البريطاني في خلط المفاهيم بين انتقاد الصهيونية السياسيّة والهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والسوريين بالعداء لليهوديّة كديانة. هكذا، شرعوا من فورهم بالضغط على «جامعة بريستول» لطرد البروفيسور من منصبه الأكاديمي ومنع تدريس أي مقررات عن علاقة الصهيونية بصناعة الإسلاموفوبيا والأضرار التي تتسبب بها تلك العلاقة للمجتمعات الغربية. وقد تحرّك نواب بريطانيّون (من طرفَي الحكومة والمعارضة معاً) في مجلس العموم بإيعاز من اللوبي الصهيوني لإثارة المسألة في البرلمان. تبيّن بعد التدقيق بأن جميع أولئك النوّاب المنتخبين - نظريّاً - لتمثيل المواطنين البريطانيين، يتلقون مساهمات مالية سنويّة مباشرة من جهات صهيونيّة وصلت لدى بعضهم إلى أكثر من 115 ألف جنيه إسترليني (165 ألف دولار أميركي).
ولاستكمال الحملة، تقدّم «اتحاد الطلبة اليهود»، بشكوى لدى رئاسة «جامعة بريستول» ضد ميلر، وطالب بوقفه عن التدريس. والاتحاد المذكور مجموعة طالبية موالية لإسرائيل تنتشر عبر مؤسسات التعليم العالي في المملكة المتحدة تديرها وتموّلها السفارة العبريّة لدى لندن وفق ما أثبت تحقيق صحافيّ سريّ استقصائي. وتثير هذه المجموعة رعب الأكاديميين الذين قد يتبادر إلى ذهنهم توجيه أي انتقادات علنيّة للدولة العبريّة أو لأي من سياساتها الإجراميّة ضد أهل البلاد الأصليين. ويُلزم دستور الاتحاد - المعلن - أعضاءه بتقديم «التزام دائم» تجاه «إسرائيل» والانخراط في حملات لإسكات منتقدي الحركة الصهيونية أو الدولة العبريّة في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية البريطانية.
حملة صهيونية لطرده من «جامعة بريستول» في بريطانيا بتهمة معاداة السامية!


وتقوم مجموعات الضغط التي تديرها الدولة العبريّة بتناقل «أفضل الممارسات» بين امتداداتها عبر العالم. وتستفيد واجهاتها في بريطانيا مثل «الوقفيّة» و«الاتحاد...» المشاركين في الحملة ضد ميلر من خبرة حملات مؤذية نفّذها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ضد أساتذة وأكاديميين في مؤسسات التعليم العالي هناك بسبب عملهم الذي يتضمن نقداً فكريّاً أو تاريخياً للمشروع الصهيوني أو لتصريحات أدلوا بها حول فلسطين أو توجيههم أدنى انتقاد للحركة الصهيونيّة أو دولة «إسرائيل». لم توفّر تلك الحملات حتى أكاديمياً يهودياً مرموقاً مثل البروفيسور نورمان فينكلشتاين، ناهيك بالأكاديميين من أصل عربي كجوزيف مسعد أو الأميركيين أمثال كورنيل ويست ومارك لامونت هيل وغيرهما.
ومن المعروف أنّ «اتحاد الطلبة اليهود» في بريطانيا عضو مؤسس لـ «الاتحاد العالمي للطلبة اليهود» الذي يقوم بحملات لتعزيز روابط منتسبي الجامعات والأكاديميات من اليهود مع الدولة العبريّة في مختلف الدول، ويتولى إصدار موادّ ومطبوعات لمساعدة الأعضاء في الدفاع عن المشروع الصهيونيّ. يعمل الاتحاد العالمي تحت رعاية «المنظمة الصهيونية العالمية» التي يُعتبر مؤتمرها العام أعلى سلطة لصنع القرار في تلك الحركة (يلتئم مرّة كل خمس سنوات) ويتولى تشكيل سياسات المؤسسات الإسرائيلية المسؤولة عن تمويل المشروع الاستيطاني المستمر في فلسطين والنهوض بالأولويات الاستراتيجية لدولة إسرائيل. وتتواجد اثنتان من تلك المؤسسات: «الوكالة اليهودية لإسرائيل» وفرع «مؤسسة كيرين هايزود» (المعني بجمع التبرعات للحركة الصهيونيّة) علناً في المملكة المتحدة. وتدعم المنظمة وتنسق بشكل وثيق مع اتحاد الطلبة اليهود في بريطانيا، وتلجأ أحياناً إلى القضاء لفرض توجهاتها.
الحملة التي تجدّدت ضد ميلر بعد إدانته العدوان الإسرائيلي الحالي على غزّة تهدف إلى الخلط الخبيث بين انتقاد الصهيونية والدولة العبرية مع فكرة العداء لليهود، ومن ثمّ إرهاب بقيّة الأكاديميين، كما الطلاب الفلسطينيين أو مؤيديهم (من اليهود غيرهم) من خلال فرض استخدام تعريف فضفاض جداً لمعاداة السامية يمنع عمليّاً توجيه أيّ انتقادات لدولة «إسرائيل» وسياساتها وإيديولوجيتها.
وتتم هذه الحملات في ظلّ تواطؤ شبه تام من مؤسسات الدولة البريطانية التي تسيطر عليها نخبة يمينيّة صهيونيّة الهوى، بداية من الأجهزة الأمنية والقضائية، وانتهاء بالصحافة والإعلام المنحازين بشكل سافر للدولة العبريّة، مروراً بالبرلمان المخترق بالترغيب (الماديّ) والترهيب (بالمطاردة والإساءات المعنويّة وتخريب السمعة). ويتم ذلك على مرأى ومسمع الجميع في دولة تفاخر العالم بأنها أمّ الديمقراطيّات، وتسارع خارجيتها للتّنظير على دول العالم الثالث بشأن حقوق الإنسان وحريّة التعبير وما إلى ذلك من المصطلحات الجوفاء كلّما اعتقل أحدها جاسوساً يعمل في خدمة أجهزة استخبارات معادية.
وقد تنادى مئات الأساتذة والباحثين البريطانيّين للدفاع عن زميلهم ميلر، ووجهوا رسالة مفتوحة إلى رئيس «جامعة بريستول» حثّوه فيها على حماية الحرية الأكاديمية والحق بالمعرفة والتفكير وعدم الخضوع للضغوط المسيّسة. كما كتب طلاب في الجامعة رسالة مماثلة وقّعها مئات منهم.
ويُعتبر ميلر واحداً من أهم الأكاديميين العالميين في تحليل ممارسات جماعة الضغط السريّة والعلنية على الدول والمؤسسات العامّة، وأسّس هيئة بحثيّة للرقابة أجرت تحقيقات محترفة في أنشطة غير مشروعة تمارسها لوبيات في بريطانيا كشركات الأدوية، وأنصار الوقود الأحفوري، كما أنشطة الدول التي تغذي مشاعر الإسلاموفوبيا داخل المجتمع البريطاني، ولا سيما «إسرائيل» ومشيخة الإمارات العربية المتحدة.