يُحاول مشروع «رحلات فلسطينية» المشترك بين «المتحف الفلسطيني» و«مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، بالتعاون مع Visualizing Palestine، أن يلعب دور المؤرّخ الذي يركز على إنتاج رواية فلسطينيّة شاملة تُبرز الدور الفعّال الذي لعبه الفلسطينيّون في صنع تاريخهم. يسعى المشروع التأريخي جاهداً لاستحضار قصص المقاومة والصمود والأمل المغيّبة حالياً عن الرواية الفلسطينية المتداولة في المشهد العالمي.وتشير آن لورا ستولر، التي تتناول كتابة التاريخ الاستعماري، إلى الإمكانات النقدية والمفاهيمية لتمكين سيولة المعرفة وفقاً لمفردات جديدة من الكلمات والمفاهيم. وفي مقال يركز على كتابة التاريخ الاستعماري في فرنسا، تناقش كيف تتشكل الفئات، وكيف يفصل فقدان القدرة على الكلام التشابه ويرفض الفئات القابلة للحياة. لذا، فالكتابة التاريخية «صوت نشط» لا يتعامل إلا جزئياً مع الماضي، ويسمح «للمستقبل التفاضلي» الذي يعيد تقييم الأشكال المرنة للعلاقات الاستعمارية.
تتكوّن منصّة «رحلات فلسطينية» الرقمية حالياً من قسمين: «المسرد الزمني» من إعداد «مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة»، و«قصص» من إعداد «المتحف الفلسطيني».
يضمّ المسرد الزمني مجموعة موسوعيّة متنامية من الأحداث التاريخية، والسير الذاتية، والجداول المختارة وأبرز المواضيع التاريخية والاجتماعية-الاقتصادية، والوثائق التاريخية، والوسائط المتعددة. يهدف المشروع لتوفير مرجعيّة علميّة أساسية حول التاريخ الفلسطيني بكلّ جوانبه. وتلقي القصص ضوءاً على التجارب المهملة في تاريخ الشعب الفلسطيني، من خلال التقاط روايات مهمّشة ومنسيّة تخلط بين التاريخي والشخصي.
«بعثةٌ من الجامعةِ المصريّةِ في ساحة الحرم القدسي الشَّريف» (1937. مجموعة سعيد الحسيني، أرشيف المتحف الفلسطيني الرَّقمي)

◄ المسرد الزمني: رواية تواجه رواية الاحتلال
إن تاريخ الهوية الوطنية الفلسطينية هو أحد الأمثلة على تعدد الروايات التاريخية، التي تُعتبر مضامينها ثقيلة بشكل خاص في السياق الفلسطيني. لا يقتصر الأمر على أن الفلسطينيين يشكلون مجموعة وطنية غالباً ما يكون وجودها موضع تساؤل من قبل الإنكار الصهيوني. هناك أيضاً تناقضات داخلية داخل الخطاب الفلسطيني نفسه. يرجع ذلك جزئياً إلى أن الخطاب انبثق من العمليات التاريخية التي غالباً ما كانت تهدف تحديداً إلى منع ظهوره، حيث لطالما تم تهميش تاريخ فلسطين وشعبها لمصلحة الرواية التاريخية الإسرائيلية السائدة.
يشير بناء الهوية الفلسطينية الحديثة إلى عدد من التحديات والتناقضات التي أنتجتها في وقت واحد وجعلتها غامضة. على سبيل المثال، كان الخطاب الفلسطيني في الستينيات في الأساس خطاباً قومياً عربياً نابعاً من الإيمان بوجود أمة عربية أكبر. في الوقت نفسه، جادلت بأن الفلسطينيين يشكلون شعباً قومياً، من أجل مواجهة الخطاب الصهيوني الذي أصرّ على أن الفلسطينيين هم مجرد عرب يعيشون في فلسطين، وبالتالي يجب أن تستوعبهم أمة عربية أكبر. بعبارة أخرى، رفض الخطاب الفلسطيني حجة التشابه العربي لأن الصهيونية وظّفتها، وفي الوقت نفسه، دعا إلى شكل من أشكال القومية العربية. على أي حال، تجاوز الخطاب الفلسطيني والعربي بالفعل مأزق الستينيات هذا.
اليوم، حتى أنصارُ القومية العربية المتحمسون يقبلون بوجود هويات عربية مختلفة، في حين يتم الاعتراف بالفلسطينيين بشكل عام من قبل المجتمع الدولي، وحتى من قبل إسرائيل، كشعب. ومع ذلك، بما أن مثل هذه التطورات سياسية في جوهرها، فهي لا تعني أن هناك اتفاقاً حول كيفية ظهور الهوية الفلسطينية الجماعية، أو طبيعتها وحدودها.
تُعتبر دراسة تاريخ الهوية من خلال قراءة الماضي ــ كما يعمد مشروع «رحلات فلسطينية» ـــ مسألة ذات أهمية قصوى للفلسطينيين أنفسهم ليس فقط لأنها ضرورية للصراع مع الكيان الصهيوني. إنها مرتبطة بالطرق التي يعرّف بها الفلسطينيون أنفسهم ويتصوّرون مستقبلهم ويحددون حدود مجتمعهم السياسي الوطني.
ومثل كل رواية تاريخية، فإن بناء التاريخ الوطني الفلسطيني يبدأ بلحظة سياسية تمثل بداية الأمم. في حالة فلسطين، تبدأ نقطة التوثيق في «رحلات فلسطينية» مِن سطر واحد: «العثمانيّون يستولون على فلسطين ومناطق أخرى من بلاد الشام. يستمر حكمهم على فلسطين من دون انقطاع تقريباً حتى سنة 1917». ثم تسير الأحداث بقفزات في سطور قليلة إلى نقطة مركزية هي القرن العشرين مع ضعف الإمبراطورية العثمانية، وظهور القومية العربية والتغلغل الثقافي والاقتصادي والسياسي الأوروبي. خلال النصف الأول من القرن العشرين، كُتب التاريخ الفلسطيني في سياق الصراع العربي واليهودي، في حدود فلسطين تحت الانتداب البريطاني. ثم بعد النكبة عام 1948، تم التفكير فيه في سياق الصراع العربي الإسرائيلي وكُتب في المنفى. تتميز فترة ما بعد عام 1948 بتشتت المثقفين الفلسطينيين الذين قاموا بتفصيل التاريخ من أماكن نفيهم، سواء كانوا قريبين (لبنان أو سوريا أو مصر أو العراق أو الأردن) أو بعيدين (أوروبا أو أميركا). على مدار سنوات المنفى، كانت مراحل بناء التاريخ الوطني الفلسطيني مطابقة لمراحل الصراع مع إسرائيل: حرب الأيام الستة عام 1967، وغزو لبنان عام 1982، وانتفاضة عام 1987، وانتفاضة عام 1993، وتوقيع اتفاقية أوسلو ونظيرتها بداية مِن عام 1993.
يشير دريدا إلى العنف كواحدة من السمات الرئيسية المتأصّلة في الأرشيف، حيث تجسد المعلومات الحكومية/ علاقات القوة


في الثمانينيات، بدأت عمليات جمع الشهادات والروايات حول عام 1948 من قبل الجامعات ومراكز البحوث والباحثين المستقلين والمنظمات غير الحكومية في الأراضي الفلسطينية وفي المنفى. ازدادت في التسعينيات حتى بلغت ذروتها في عام 1998 وهو عام الذكرى الخمسين للنكبة. وكان المشروع الأكثر طموحاً بقيادة «جامعة بيرزيت» تحت إشراف الجغرافي كمال عبد الفتاح وعالم الأنثروبولوجيا شريف كنعانة. في عام 1983، أنتجوا أول رسم خرائط للقرى المدمرة بناءً على الشهادات الشفهية. والهدف من ذلك نشر دراسات وتسجيل أعمال العنف ضد سكان هذه القرى المهجورة الآن. توقف عملهم مع إغلاق الجامعة بين عامي 1988 و 1993 خلال الانتفاضة الأولى. لكنهم بدأوا من جديد بتوجيه من المؤرخ صالح عبد الجواد، مع احتمال جمع المعلومات لإثبات الحقائق المتعلقة برحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين عام 1948. نتج عن المشروع 27 دراسة قروية كانت نقاط انطلاقها هي المحفوظات الشفهية التي نشرتها «جامعة بيرزيت» باللغة العربية.
وهناك تركيز مِن «رحلات فلسطينية» على الفلاحين/والقرية. يحاول المشروع تدعيم جزء أساسي من الطريقة التي ينظر بها الفلسطينيون إلى أنفسهم. لاحقاً، تبنّى الفلسطينيون أشكالاً من اللباس الفلاحي، وحجاب الرأس الكوفية، ورقص القرية الدبكة كرموز للهوية الوطنية الفلسطينية. لكن خلال فترة الانتداب البريطاني، وجد هذا الشعور الفلاحي بالتميز تعبيراً سياسياً ليس في المناطق الريفية ولكن في المدينة، ولكن من خلال المقالات في الصحف المحلية والخطاب السياسي والأحزاب الناشئة. وشنّت الصحف الفلسطينية المختلفة، «الكرمل» و«فلسطين» و«المندي»، من دون استثناء، حملة تلو أخرى ضد الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، مطالبةً بالحفاظ على فلسطين لشعبها ككيان مستقل سياسياً.
على الرغم من أن الهوية العربية ظلت جزءاً من الخطاب الفلسطيني خلال الانتداب، إلا أنّ هذا الخطاب يبدأ في التركيز أكثر فأكثر على خصوصية فلسطين. وبينما كانت الخصوصية الفلسطينية متجذّرة في الظروف التاريخية التي سبقت النشاط الاستيطاني اليهودي المكثف، فقد تبلورت كوعي بعد المواجهة الفلسطينية مع الاستعمار الصهيوني.

‎طفل على سطح منزله في البلدة القديمة في القدس في الخمسينيّات (مجموعة إِميل عشراوي، أرشيف المتحف الفلسطيني الرَّقمي)

يشكل رفض الفلاحين للاستيطان والتعبير السياسي عنه من خلال المؤسسات الحضرية نقاط انطلاق عملية، حيث يبدأ الفلسطينيون في رؤية أنفسهم كشعب مستقل. ساهم المشروع الصهيوني والدعم البريطاني له من خلال وعد بلفور في تسريع تطوير هوية فلسطينية سياسية متميزة. وجدت هذه الهوية تعبيراً في المجتمعات والمنظمات التي وصفت نفسها بأنها عربية أو سورية أو إسلامية أو مسيحية، لكنّ هدفها الدفاع عن فلسطين ضد التهديد الصهيوني. يبدأ تخيل المجتمع الفلسطيني في اتخاذ نزعة عملية مع عقد العديد من المؤتمرات الفلسطينية، كرد فعل على التهديد الصهيوني، مع مطالب لا لبس فيها لحقّ تقرير المصير. انتشر هذا التخيل الجماعي خلال فترة الانتداب حتى عام 1948.
تتجلى أهمية هذا التعزيز مِن «رحلات فلسطينية» للمشاعر الفلسطينية وآلياتها الهوياتية التقليدية، سواء أكانت ريفية أم حضرية، جزئياً حول نقطة رئيسية يمكن التعبير عنها بكلمات هومي بهابها: «تفقد الأمة أصولها في أساطير الزمن وتدرك فقط آفاقها بالكامل في عين العقل». بعبارة أخرى، السرد المقدم مِن «رحلات فلسطينية» يمكّن الفلسطينيين خصوصاً، والمؤرخين عموماً، من الاتفاق على أصول أمة. هنا بالتحديد هو أكثر ما يهمّ الفلسطينيين والعرب هو رواية الأمة، لأن التوثيق السردي لا يقدم رؤية معينة للماضي فحسب، بل يشكّل أيضاً الأساس الذي تنظر إليه الأمة إلى حاضرها ومستقبلها. من المهم إدراك الطابع المراوغ والمتناقض والمرن والمتغير للهويات الوطنية.

◄ الصورة في القصة: كسر عنف كاميرا الاحتلال
للصورة مكانها المميز في مشروع «رحلات فلسطينية»، حيث تعتمد القصص والتأريخات على تقديم بعض الصور المؤرشفة الجديدة على عين القارئ العربي وقد تكون على عين الفلسطيني أيضاً، ولك أن تتخيل موقف الغربي منها. لكن عند مناقشة تمثيل التاريخ الفلسطيني عبر الصورة، يجب التوقف عند عوامل عدة أبرزها:
في التأريخ البصري الفلسطيني، هناك العديد من الفصول المفقودة، حيث نُهب ودُمر وفُقد عدد لا يُحصى من الصور والأرشيفات المرئية خلال نكبة عام 1948 وما تلاها من حروب، وسقطت الثقافة والتاريخ الفلسطينيان ضحية للاحتلال. وعلى مدى العقدين الماضيين، عمل الباحثون الفلسطينيون والعرب على استكمال أجزاء من هذه الخسارة المادية، وهيكلة التأريخ الفلسطيني. ومع ذلك، يتم تخزين العديد من الفصول المفقودة وإخفاؤها في الأرشيفات الإسرائيلية التي تسمح بوصول محدود للباحثين الفلسطينيين والعرب، وإلى حد ما، للباحثين الإسرائيليين الناقدين.
نشاط الأرشيف الاحتلالي تجاه الآخرين، بمن فيهم الفلسطينيون، يتضمن في كثير من الأحيان نوعين من العنف:
العنف الجسدي الموثق: هذا هو الجانب المرئي للعنف الموجه ضد السكان الفلسطينيين، وهو موجود في أرشيفات التصوير المؤسسي للاحتلال. ويشمل، على سبيل المثال، سرقة الأراضي والاستيلاء عليها، والنفي، والأحكام العرفية والنظام العسكري. ويعتمد النقاش حول الجوانب المرئية للعنف في مختلف المشاريع إلى حد كبير، على كتاب والتر بنجامين «نقد العنف»، الذي يحلل العنف والسلطة التي تمارسها السلطة الحاكمة بموجب القانون.
وعلى ذكر القانون، فهو يعطل الأرشفة المصورة لمشروع مثل «رحلات فلسطينية»، إذ يميّز القانون الدولي بين نهب الأفراد (المدنيين أو الجنود) لأغراض شخصية (في كثير من الحالات تُعامل على أنها «تذكارات» مأخوذة من ساحة المعركة أو منطقة الحرب) والاستيلاء عليها من قبل القوات الرسمية المنظمة. فالاستيلاء، أو أخذ غنائم الحرب، يتعلق بالممتلكات التي تم الاستيلاء عليها من الأفراد والمؤسسات العامة في إطار الأنشطة العسكرية الرسمية للدولة بطريقة مخططة وواعية. أي أن نهب الممتلكات الثقافية من قبل الأفراد في مناطق النزاع المسلح، هو الاستيلاء العنيف وغير المصرح به على الممتلكات العامة أو الخاصة لتحقيق مكاسب شخصية، سواء كانت هذه الممتلكات مملوكة للأفراد أو المجتمعات أو الدولة مثل نهب ممتلكات الجنود القتلى في ساحة المعركة، والممتلكات التي تعكس «الهوية الخاصة للجندي كإنسان»، وهذا أيضاً يشكل نهباً للمقتنيات الثقافية والتاريخية الشخصية. القوانين الدولية تحظر النهب في كل من المناطق المحتلة وغير المحتلة في المناطق التي تتكشف فيها النزاعات المسلحة. ومع ذلك، فإن هذه القوانين عموماً لا تفعل أكثر من الحظر. على سبيل المثال، لا يوجد، بخلاف التعريف القانوني، أي عقوبات خاصة بأعمال النهب في حالة انتهاك هذا الحظر.
بيوت قرية بيت صفافا في القدس (1959. مجموعة مصطفى عثمان، أرشيف المتحف الفلسطيني الرّقمي)

هذا ما يجعلنا أمام «عنف وظيفي» متأصل في الهياكل الأرشيفية. هذا العنف متأصل ومترسخ في هيكل وعمليات الأرشيف للآلة الاستيطانية للكيان الصهيوني وفي أفعالها المادية والمؤسساتية. إن سلطة الاحتلال المطبقة وهيكلها، الخَفيين عادة، هما جزء لا يتجزأ من الآليات المؤسسية القائمة على الجوانب الإيديولوجية والقمعية. ويتم التعبير عنها في تشكيل المحفوظات وطريقة عملها، وكذلك في أدائها الأخلاقي (أهدافها ومعاييرها الأساسية)، وفي القوانين والقواعد التي تنظم أنشطة التجميع والحفظ والأرشفة والتوزيع. وعادة ما يكون هذا النوع من العنف جوهرياً وغير ظاهر، ويفرض ما يجب توثيقه وجمعه، وما يجب بقاؤه سراً، على الرغم من أنه يتم تغليفه أحياناً بجوانب مرئية للعنف الجسدي، مثل النهب والغنائم، المذكورة أعلاه. هذه الجوانب الأخلاقية والوظيفية مراوغة تماماً وجوانبها العدوانية مموّهة بشكل عام. لذا فإن الحاجة إلى نشرها في الوعي العام تتطلب بحثاً دائماً عن المادة المؤرشفة والمعرفة كما يحاول أن يفعل مشروع «رحلات فلسطينية». يحاول الأخير أن يعكس الانتهاك المباشر وغير المباشر لحقوق الإنسان عبر المواد العسكرية والأمنية في الأرشيفات الإسرائيلية المتعلقة بالفلسطينيين إلى حد كبير. ونشأ الانتهاك المباشر لحقوق الإنسان بشكل رئيسي من مجموعة متنوعة من الأنشطة التي كان هدفها جمع المعلومات الاستخبارية للأغراض العسكرية والعملياتية، ومعظمها يعتمد على العملية المزدوجة لعلاقات القوة: من ناحية، الطريقة التي تستخدمها الوحدات والأرشيفات العسكرية لجمع المعلومات (الغنائم والنهب والنسخ السري والمحظور لمواد من أرشيفات أخرى، وجمع المعلومات الاستخبارية بوسائل مختلفة...)، ومن ناحية أخرى، ممارسات إدارة المحفوظات يعرض مواد معينة للجمهور (الرقابة والقيود على المعاينة). ويشمل الجانب غير المباشر لانتهاكات حقوق الإنسان، على سبيل المثال، إنكار الوجود الفلسطيني. يمكن تصنيف هذا أيضاً على أنه عنف وظيفي. ينعكس ذلك في الطريقة التي عملت بها الهيئات المدنية قبل إعلان دولة إسرائيل، مثل «الصندوق القومي اليهودي» و«صندوق المؤسسة الوطنية»، للترويج للدعاية الصهيونية في البلاد وخارجها، واستبعاد الكيان الفلسطيني من المعجم الإقليمي، وحذف وجوده في أي مكان عام. كانت هذه الهيئات تعمل على بناء تبرير أخلاقي للاستيطان اليهودي، واصفةً الأرض بأنها فارغة ومدمرة ومهجورة، والاستيطان الصهيوني هو عمل لاسترداد الأرض. كان الهدف من تجاهل السكان الفلسطينيين وحياتهم الاقتصادية والتعليمية والثقافية الثرية خدمة لأهداف التسويق للاحتلال الصهيوني، واشتمل على استخدام القوة.
يشير دريدا إلى العنف كواحدة من السمات الرئيسية المتأصّلة في الأرشيف، حيث تجسد المعلومات الحكومية/ علاقات القوة


تفتح سجلات «رحلات فلسطينية» بشكل أساسي السجال حول هذا النوع من العنف المتأصّل في الأرشيف، وبدرجة أقل العنف الصريح والموثّق. ففي عملية تحليل المواد المستردّة والمعروضة على المشروع حول الفلسطينيين والمعلومات التي جُمعت عن الفلسطينيين في أرشيفات التصوير الفوتوغرافي، نُصادف نوعين مختلفين من البيانات: المعلومات المباشرة، والمعلومات التي يجب استخراجها من الأرشيف الاحتلالي، وترتبط فئة هذه المعلومات، إلى حد ما، بنوع العنف المتضمن في جمع هذه المواد:
يحاول «رحلات فلسطينية» فهرسة الكثير من المعلومات حول الفلسطينيين المخزنة في أرشيفات الصور الفوتوغرافية، مصحوبة بنصوص ونشرها، مع عملية عكسية لما قامت به الصهيونية التي استهدفت بقصصها طمس السياق الفلسطيني. عبر القصص المنسية والشخصية والسياق التاريخي، يحاول المشروع تفكيك رموز المعاني المتناقضة التي يمكن قراءتها في الأرشيف لتمثيل المجتمعات الفلسطينية النازحة، وإبرازها مرة أخرى بعدما غابت عن أرشيف الصور الصهيونية المرتبط بـ «الصندوق القومي اليهودي» أو بمكتب رئيس وزراء الكيان، حيث يتم التعتيم على صور وقصص القرى التي فرّ سكانها أو طُردوا في نكبة عام 1948، ومنعتهم الدولة اليهودية من العودة إلى منازلهم، وترسيخ حضور المهاجرين اليهود الذين وصلوا في موجات الهجرة الهائلة بين عامي 1948-1950، وتقديمهم كـ «سكان» لمعظم هذه القرى. مع العلم أن الجيش الإسرائيلي دمّر بعض هذه القرى تماماً بهدف منع عودة الفلسطينيين، ومحوهم من الخريطة ومن الوعي العام وإبعادهم عن الذاكرة.
يمكن اعتبار الصور التي يقدمها «رحلات فلسطينية» وما على شاكلته من مشاريع، توثق الاستيطان اليهودي في القرى الفلسطينية، الدليل الوحيد المتبقي على هذه المجتمعات، بعد لحظات من حيازتها المادية والقانونية، وقبل أن تفقد هويتها الفلسطينية وتصبح إسرائيلية. على الرغم من نفي السكان الأصليين (اعتبرتهم دولة الاحتلال غائبين - حاضرين ولا يوجد سجل للعنف الجسدي الذي تم استخدامه ضدهم)، تُظهر العديد من الصور قرى ومنازل وحقولاً بأكملها، ما يجعل من الممكن تكشّف ما قمعته الذاكرة الجمعية الإسرائيلية: المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. على مر السنين، غيّرت هذه القرى هيكلها وشخصيتها وهويتها. في المناطق التي انتقلت فيها الأراضي الفلسطينية إلى أيدي اليهود، بدأت أساليب الزراعة والمحاصيل والبنية الريفية للقرى تتغير. المنظر الطبيعي المميز للأرض الزراعية الفلسطينية ابتلعته خصائص الاستيطان الزراعي اليهودي.
وتظهر الصور والتركيز على القرية في مشروع «رحلات فلسطينية»، استيعاب المهاجرين اليهود في الدولة الجديدة على أنقاض الكيان الفلسطيني. وبالتالي، فإن لها ميزتين اثنتين وجغرافيتين مختلفتين، كلُّها تخلق واقعاً جديداً: من ناحية، القرية الفلسطينية بتميزها وأسلوبها، وطرق فلاحة الأرض، ورمز الكيان الفلسطيني المفقود، ومن ناحية أخرى، المستوطنون الجدد، منخرطون في الأنشطة اليومية التي ترمز إلى الحياة المُعسكرة للمستوطنات اليهودية.
صوت المقهور ليس غائباً تماماً. هكذا يحاول أن يقدم مشروع «رحلات فلسطينية» نفسه، ويكون عملاً أرشيفياً مضاداً ومواجهاً لأرشيف الكيان المُحتَلّ. فإمكانية سماع الأصوات الفلسطينية التي تبدو مفقودة من الأرشيف، وتحرير الأرشيفات الوطنية من قيودها، وبناء ذاكرة مستقلة وتاريخ (من خلال تحدّي قاعدة البيانات الاستيطانية وتوفير منصة للأصوات الفلسطينية وإعادة موادها) هي الخطوات الأولى في إنشاء أرشيفات وطنية بديلة لرواية فلسطينية خالصة.

عمال يقومون بإصلاح سكة الحديد الواصلة بين القدس واللد، عام 1938 (مجموعة وليد الزين، أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي)

مع تطور التقنيات الجديدة، وضعت العديد من المؤسسات الفلسطينية التاريخية مقابلات مسجلة ومصورة على الإنترنت وأرشيفات تاريخية مثل الأفلام أو الصور أو الرسوم التوضيحية. وتم نسخ هذه المبادرة، وقادت عدة عمليات لجمع ذكريات وأحداث نكبة عام 1948 في الأراضي الفلسطينية وفي المنفى، وبعضها تشرف عليه منظمات غير حكومية (بديل، شمل، ARCPA...)، والبعض الآخر تشرف عليه مراكز بحثية (معهد دراسات القدس، مؤسسة الدراسات الفلسطينية). وتُنشر هذه القصص باللغات العربية والعبرية والإنكليزية في الكتب والصحف والفيديوهات وعلى الإنترنت. في الوقت نفسه، يتم إنتاج العديد من الدراسات في المنفى، وفي مخيمات اللاجئين، التي تهدف إلى دمج الماضي ورسم خرائطه وتضمينه من خلال السرديات الشفهية.
على مرّ السنين، يُقيد الاستبداد الصهيوني أنشطة أرشيف التصوير الفوتوغرافي المؤسسي في فلسطين، وتحكم علاقات القوة التي يخضع لها الفلسطينيون دورهم في التاريخ أو في كتابته. يشير دريدا إلى العنف كواحدة من السمات الرئيسية المتأصلة في الأرشيف، حيث تجسد المعلومات الحكومية/ علاقات القوة. وتتكثف هذه العلاقات العدوانية في بلد يعيش تحت الاحتلال، وشعب يعيش في صراع وجودي، على سبيل المثال، في الطريقة التي تتحكم بها المحفوظات المؤسسية الإسرائيلية بكل الكنوز الوطنية للمهزومين الفلسطينيين ومعرفة تاريخهم وثقافتهم. إن الإشارة إلى الآليات العلنية والسرية في هذه المحفوظات المؤسسية من خلال كشف التحيز الاحتلالي المتأصل فيها، يضع الأساس لبناء قاعدة بيانات بديلة متعددة الطبقات، تختلف عن النظرة العالمية الأحادية الجانب التي تميزها.
يمكن لمشروع «رحلات فلسطينية» تقويض الهدف الأصلي للأرشيف من خلال عملية الدمقرطة. مع ذلك، بينما أدركت المنظمات المدنية والحكومية في جنوب أفريقيا أهمية إنشاء أرشيفات ما بعد الاستعمار (ما بعد الفصل العنصري)، يختلف الوضع مع الاحتلال الإسرائيلي حيث ما زال يمارس أكبر قوة ممكنة للإبقاء على الفلسطينيين على الهامش ويمنع متسعاً كبيراً من مصادرهم المعرفية المتعلقة بالوصول إلى الأرشيفات، عبر طرق «قانونية» وأخرى تصل إلى حد العنف الجسدي. لكن هذا لا يمكنه أن يقف أمام المحاولات المتواصلة لتفكيك بنية الأرشيف الاحتلالي واقتراح آليات بديلة للقراءة والتفسير والنقد.
سيلعب مشروع «رحلات فلسطينية» دوراً كبيراً في حل الإرباك الهوياتي الفلسطيني الناشئ بعد اتفاق أوسلو، حيث ظهر إطار شبه قانوني لتحديد من هو فلسطيني ومن ليس فلسطينياً، يدور حول أولئك الذين يعيشون حالياً في الضفة الغربية وقطاع غزة. مثل هذا الفصل سيجعل الدراسات المستقبلية للهوية الفلسطينية أكثر صعوبة لأنه يستبعد الفلسطينيين الذين لا يقيمون في هذه المناطق. يمكن لأرشيف «رحلات فلسطينية» كسر مركزية الخطاب في الضفة الغربية وغزة، والإبقاء على الخطاب الفلسطيني التاريخي، لأن أي حياد عن هذا الخطاب التاريخي يجعلنا أمام تحول اختزالي للفلسطينيين الذين عاشوا التجربة الفلسطينية من فلسطينيتهم مع الشتات، ويصوّرهم مرة أخرى كلاجئين، ولكن بشكل دائم تقريباً هذه المرة.
في الختام، الفلسطينيون يشكلون مجموعة وطنية لها حقوق سياسية ووطنية لا يجوز تجاهلها مهما اختلفت القراءات التاريخية. وقد تكون مسألة مدى شرعية الأمة وثيقة الصلة بالقانون الدولي، لذا يُلقي هذا العرض الموجز الضوء على أهمية الشهادة في التاريخ الفلسطيني. الروايات المسجلة - المحفوظات «الحية» - هي في صميم التاريخ الشفهي لذكرى النكبة. يتناسب التاريخ الفلسطيني المبني على هذه الشهادات مع روح النضال لمصلحة حفظ وإدامة ونقل ذاكرة شعب مشتّت في الشتات بتاريخه المشترك وتجاربه المختلفة.
فخلافاً للشعوب التي نالت استقلالها وأقامت دولها وتاريخها الوطني على الانتصار، يبني الفلسطينيون أنفسهم على هذه الهزيمة. وبسبب غياب الدولة، فإن ناقلات البناء ونقل التاريخ الوطني متعددة. ويتحول المؤرخون إلى فاعلين لهذا التجسيد للماضي. ويصبح تفسيره مطلباً للاعتراف بالتطهير العرقي ضد الفلسطينيين ونضالهم الشعبي المستمر من أجل الاعتراف التاريخي. اليوم، الشغل الشاغل للمؤرخين والباحثين الفلسطينيين هو جمع المصادر الفلسطينية حصرياً لإعادة بناء ماضٍ مُنكر لفترة طويلة وغائب عن الرواية الإسرائيلية المهيمنة، مثل مشروع «رحلات فلسطينية» للحفاظ على التراث والمحفوظات الفلسطينية وتعزيزها.
* paljourneys.org