ترد كلمة «الناس» في القرآن كمصطلح يعني: «مشركي مكة» في كثير من الأحيان، أو في غالبها. أي أنها لا تعني دوماً البشر بشكل عام. وخذ هذا المثال من سورة البقرة الذي يتحدث عن الأزمة التي خلقها تحويل قبلة المسلمين من القدس إلى مكة: «سيقول السفهاء من الناس ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً. وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم» (البقرة: 142-143).وهناك خلاف بين المفسّرين على من هم «السفهاء من الناس» وعلى من هم الناس في جملة «لتكونوا شهداء على الناس». من ناحيتي، أفترض أن «السفهاء من الناس» هم تلك المجموعة من مشركي مكة التي أرادت أن تستغلّ تغيير القبلة لإثارة الاضطراب في صفوف المسلمين، وإثبات بطلان الإسلام. أما «الناس» الثانية فتشير إلى مشركي مكة عموماً.
و«الناس» المكيون، أي مشركو مكة، كانوا منقسمين إلى طائفتين مركزيتين: حمس وحلة، أساساً. بالتالي، فحين تقول الآية: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس» فهي تقصد أن تخبر جماعة المسلمين أن الإسلام وضعهم على مسافة واحدة بين الطائفتين، لا يميلون إلى هذه ولا إلى تلك: «لتكونوا شهداء على الناس».
والتركيز على الحياد هنا كان أمراً مهماً في تلك اللحظة. ذلك أن الرسول خرج من طائفة الحلة. كما أنّ عدداً كبيراً من أصحابه خرجوا من الحلة. ومن بين الخلفاء الأربعة كان ثلاثة من هذه الطائفة: أبو بكر، عثمان، علي. عمر بن الخطاب فقط كان من طائفة الحمس. عليه، فقد كان كل تصرّف للرسول يمكن أن يُحسب على أنه انحياز إلى طائفة الحلة. من هنا أكدت الآية بوضوح على أن المسلمين «أمة وسطاً»، غير منحازة إلى أي طرف. هذا هو ما عنته الآية في الأصل.
لكن جملة «أمة وسطاً» خرجت مع الزمن عن هذا المعنى الأصلي لتأخذ معنى التوسط عموماً، وخاصة التوسط بين المسيحية واليهودية: «هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم» (القرطبي، تفسير القرطبي). كما أنّ جملة «شهداء على الناس» فهمت بهذا المعنى عموماً: «عن مجاهد: «لتكونوا شهداء على الناس» تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس» (تفسير الطبري). وقد صار هذا المعنى المنزاح قطعة مركزية في العقيدة الإسلامية. صارت الوسطية مفهوماً عاماً يحدد موقع الإسلام تجاه الأديان، وتجاه التقاطب في كل شيء، بعدما كان يخصّ وضعاً محلياً في مكة.
تحويل القبلة إجراء سياسي يهدف إلى كسر تمنّع غالبية أهل مكة عن دخول الإسلام


وخذ أيضاً حديث سورة آل عمران عن الناس: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» (آل عمران: 137). ومن الواضح أن «الناس» الثانية على الأقل تشير إلى مشركي مكة. فهؤلاء هم الذين كانوا يتحشدون للهجوم على المسلمين في يثرب. أما الناس الأولى، فغير واضح إلى من تشير بدقة. ويبدو أنها استُخدمت هنا بمعنى: البعض، أو الآخرين. أي أن الجملة تخبرنا: أن بعضهم أخبر المسلمين أن مشركي مكة قد جمعوا لهم الجموع لحربهم. بالتالي، فمن الواضح أن الناس الأولى تختلف بشدة عن الثانية. فالثانية مصطلح يشير إلى مشركي مكة، في حين أن الأولى لا تبدو كذلك.

تحويل القبلة
وهناك آيات أخرى من (سورة البقرة) تؤكد هذا الاستخلاص. فهي تخبرنا أن تغيير القبلة إلى مكة حدث لكي لا يكون للناس «حجة» على المسلمين:
«ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون. ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا فلا تخشوهم واخشوني» (البقرة: 149-150).
الناس هنا أهل مكة المشركون. فقد كانت حجتهم أنهم لا يستطيعون اتباع دين الرسول لأن قبلته ليست الكعبة معبدهم المقدس. وقد حوّل الرسول القبلة كي ينزع منهم هذه الحجة: «وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة». وهذا أمر حاسم لفهم الوضع الذي أدى إلى تغيير القبلة. وهو يشير إلى أن القبلة قد حُوّلت من أجل تأليف قلوب المشركين، وجرّهم إلى الإسلام. أي أنها كانت في الواقع إجراء سياسياً يهدف إلى كسر تمنّع غالبية أهل مكة، وعلى الأخص طائفة الحمس، عن الدخول في الإسلام. فجزء لا بأس به من طليعة طائفة الحلة كان قد تحول إلى الدين الجديد. أما الكتلة المركزية للحمس، فقد تمنّعت وتأبّت. والكعبة كانت في الأصل معبداً للحمس في ما يبدو. لذا دعيت الكعبة باسم «الحمساء». لكنها صارت معبداً مشتركاً للحمس والحلة معاً قبل الإسلام بوقت ليس بالبعيد جداً، لكنه ليس بالمحدد تماماً. وقد حصل هذا في زمن قصي. لذا سمي قصي بـ «مجمّع» و بـ«قريش»- والتقريش والتجميع بمعنى واحد- لأنه جمع قريشاً وقرشها حول المعبد المكي. قال حذافة بن عامر العدوي:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فِهْر
في عهد قصي إذن، جرى تحويل الكعبة الحمسية إلى كعبة للحمس والحلة (إضافة إلى طائفة الطلس التي تقف في الوسط بينهما). أي أنه جرى عملياً جمع رحلة الصيف (رحلة الحمس وإلههم) ورحلة الشتاء (رحلة الحلة وإلههم) في رحلة واحدة في معبد واحد هو المعبد المكي. وهذا ما تشير إليه صورة قريش في القرآن: «لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا ربّ هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف». قبل ذلك كانت الكعبة حمسية، ولم تكن معبداً للحلة. أي أنها كانت مثل معبد اللات في الطائف تخص الحمس وحدهم. أما معبد مناة في قديد قرب يثرب، فقد كان معبداً للحلة.
على أي حال، فما أقوله بخصوص «الناس» ليس اختراعاً مني، فقد قيل من قبل: «عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ (الناس) يراد به المشركون، كما روي ذلك عن ابن عباس» (محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير).
أما في سورة الناس، وهي من المعوّذات، فتبدو كلمة «الناس» تعبيراً غامضاً يشمل في ما يبدو الإنس والجن معاً: «قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجِنّة والناس» (سورة الناس). وكما نرى، فالوسواس يوسوس في صدور الناس، الذين يتكونون من الإنس والجن معاً في ما يبدو. بذا، فالناس هنا تكوين شامل لـ «بشر» من نوعين مختلفين، ظاهر وخفيّ. لذا، فمن الواضح أن «الناس» هنا مستعملة في سياق آخر مختلف جداً عن السياق الذي استُخدمت فيه في سورة البقرة، حيث الناس هم مشركو مكة.
أما كلمة «الناس» في سورة الحج، فأتت بمعنى العبّاد والمؤمنين: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (الحج 27). وأما الناس في سورة آل عمران فلست قادراً على تحديد معناها: «إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة» (آل عمران 94)، فمن المحتمل أنها تعني البشر عموماً، أو أهل مكة خصوصاً. لكن هذا غير مؤكد. فارتباط الكلمة بالاسم (بكة) الغامض والمختلف على معناه يجعل من «الناس» كلمة مبهمة المعنى في الحقيقة.
* شاعر فلسطيني