أخبرنا ابن الكلبي أنه كانت للإله المكّي «هبل» يد مكسورة، وأنّ قريشاً استبدلتها بيد من ذهب: «وكان أعظمها (أصنام مكة) عندهم هبل. وكان في ما بلغني من عقيق أحمر، على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداً من ذهب» (ابن الكلبي، كتاب الأصنام). وهو ما يعني أنّ تمثال هذا الإله كان قد سقط أو تعرّض لضربة ما، فكسرت يده، فاستبدلت هذه اليد بيد ذهبية. وقد أُخذ هذا الخبر كمسلّمة بشكل ما. البيروني كان الوحيد الذي شكّك فيه. وقد فعل ذلك انطلاقاً من تجربته الهندية ومعرفته العميقة بأديان الهند. فقد استغرب أن يستجيز أهل مكة صنماً مكسور اليد، وأن يتعبّدوه انطلاقاً من هذه التجربة: «قيل إن صنم هبل، الذي كان في الكعبة أيام الجاهلية، كان من عقيق مكسور اليد اليمنى قد أضافوا إليه يداً من ذهب. وذلك عجب، فإن أهل الهند لا يستحسنون من أصنامهم ما أصابته آفة من كسر أو نقر وأمثالهما، ويعبدونه. فكيف استجاز أهل مكة تعظيم صنم أقطع؟!» (البيروني، الجماهر في معرفة الجواهر).

وهذا في الحقيقة تساؤل جوهري نابع من ملاحظة مقارِنة عميقة. بذا لا يمكن الاستخفاف بملاحظة البيروني وشكّه. إنه شك خبير يرى أنّ إلهاً مكسور اليد شؤم لا يمكن احتماله عند أصحاب الأديان القديمة. لكن هذا لا يسمح لنا بالتشكيك في رواية ابن الكلبي في رأيي. يستطيع أيّ كان أن يشكك فيه كراوٍ متحزّب للأحاديث إن أراد. لكنّ أحداً لا يعلو عليه في علمه بأديان العرب في الجاهلية. ومن جانبي، ففي كل مرة أردت فيها اختبار روايات ابن هشام عن هذه الأديان كنت أصل إلى صحتها.
بناءً عليه، فلدينا، من جهة، خبير موثوق بأديان العرب في الجاهلية، ولدينا، من الجهة الثانية، ملاحظة مقارنة عميقة من خبير بأديان الهند. فكيف نحلّ العقدة بينهما؟
أظن أنّ الحل يجب أن يكون على الوجه التالي: أنّ كسر يد هبل كان كسراً ميثولوجياً، أي كسراً يرمز إلى معنى ديني، وليس كسراً واقعياً. وهذا يعني، ربما، أنّ يد هبل اليمنى كانت منذ البدء يداً من ذهب. بل إن هذه اليد الذهبية تقع في جوهر أسطورته من لحظتها الأولى. لكن هذه تشير إلى مشكلة ما، أو فكرة ميثولوجية ما علينا أن نختبرها.

أهود التوراتي
ويبدو أن وصف ابن الكلبي ليد هبل المكي يتوافق مع قصة «أهود» في سفر القضاة في الكتاب المقدّس. فقد كانت يد أهود اليمنى تعاني من خلل ما: كان «أهود بن جيرا البنياميني رجلاً أعسر» (قضاة 3: 15). وبعبرية الكتاب المقدّس: «أهود بن جيرا بن هيميني، إيش أطر يد- يمينو». لذلك فقد قتل عجلون ملك مؤاب بيده اليسرى: «فمدّ أهود يده اليسرى وأخذ السيف عن فخذه اليمنى وضربه في بطنه» (قضاة 3: 21).
لكن يمكن للمرء أن يشكك بقوة في ترجمة جملة «إيش أطر يد- يمينو». وهناك من ترجم الجملة هكذا: «وكان على أهود أن يستخدم يده اليسرى لأن يده اليمنى مشلولة». وفي المصادر العربية، جاء أن «فبعث الله لهم رجلاً يقال له أهود بن جيرا، من سبط إفرائيم، فقتل عقلون ملك مؤاب، وكان يقاتل بشماله ويمينه، فسموه ذا اليمينين، وهو أول من طبع السيوف ذوات الحدين، وكانت قبله ذوات أقفية» (تاريخ اليعقوبي).
الإله المقطوع اليد، أو الأعسر، أو ذو اليد الذهبية التي لا تضرب، عميق الجذور في أديان المنطقة كلها


واستناداً إلى اللغة العربية، فإن جذر «طرر» يعني: قطع أو ثنى وحنى: «أَطَرَّ يده: قطع» (الزبيدي، تاج العروس). وفي اللسان: «الأَطْر: عَطف الشيء تَقْبِضُ على أَحد طرفَيه فَتعوِّجه... وأَطَّرَه فَتَأَطَّر: عطَفه فانعطف كالعُود تراه مستديراً إذا جمعت بين طرفيه... يقال: أَطَرت الشيء فَانأطَر وتأطر أَي انثنى... أَبو زيد: أطَرتُ القَوس آطرها أَطْراً إذا حنيتها» (لسان العرب).
عليه، فقد كان أهود رجلاً أقطع اليد، أو مقوّس اليد محنيها. بالتالي، فحكاية اليد المقطوعة لهبل، لها أصل في أساطير المنطقة. وهو ما يضع احتمال أنّ يد أهود كانت ذهبية مثل يد هبل. وإذا تعلق الأمر بيد محنية مثنية، فهذا يذكّرنا بصورة نعرمر المصري على صلايته الشهيرة (صلاية نعرمر). فيد نعرمر على الوجه الثاني للصلاية يد مقوّسة محنية كي تضرب. والغالبية الساحقة تعتقد أن نعرمر ملك سياسي مصري. أنا أنا فأرى أنّه إله. ولعلني أن أكتب في هذه الزاوية عنه لاحقاً.

صلاية نعرمر


وكما نرى في الصورة أعلاه، فيد نعرمر اليمنى ترتفع وتتقوّس، لكنها تهدد ولا تضرب. اليد اليسرى هي التي تسفع بناصية الرجل الجاثي على ركبتيه. اليد اليمنى تهدد ولا تفعل. أما اليد اليسرى فتفعل من دون أن تهدد. وهو ما يشير إلى نهرمر من طينة أهود وهبل.
لكن يبدو أن أوزيريس أيضاً يملك، في طور من أطواره، يداً ذهبية مثله مثل هبل. ففي «ترنيمة إلى النيل» التي يُقدر بأنها تعود إلى فترة الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، وردت الجملة الغريبة التالية: «يده لا تضرب بالذهب». واضح أن لهذه الجملة علاقة بما نحن فيه. فالنيل، هابي، يملك يداً ذهبية، لكنه لا يضرب بها. فاليد الذهبية تهدد ولا تضرب. هذا هو شغلها. ومن هذه الواقعة الدينية جاءت فكرة أن يد الإله مقطوعة أو مشلولة، أو أن الإله أعسر يستخدم يده اليسرى لا اليمنى.
وكل هذا يجعلنا نؤكّد أن ابن الكلبي كان ينقل تقليداً صحيحاً عن هبل. فيد هذا الإله اليمنى ذهبية، أي أنها تختلف عن باقي جسمه المنحوت من حجر عقيقي أحمر.
وكل هذا يجعلنا نعتقد أن هبل العربي مثيل بعل الكنعاني- الفينيقي. فبعل أيضاً يرفع يده ويقوّسها مثل هبل وأهود ونعرمر، كما يتضح من صورة بعل أوغاريت أدناه.
وهكذا، فالإله المقطوع اليد، أو الأعسر، أو ذو اليد الذهبية التي لا تضرب، عميق الجذور في أديان المنطقة كلّها.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا