خراباً كان قلبها، خراباً. قاحلاً إلا من شجيرات من الشوك تُروى بماء الرياء. وقلت هذا وطني الذي أضعته، وسرت كالمنوّم بلا وعي. لم أقصد الدخول، كلا لم أقصده، إنما بؤس هذه الأرض كان يمسكني من كل أطراف روحي، ولم أجد إلا يدي تمتد إلى عمق قلبي لتفرغه من أغراس فتية، اقتلعتُ كل ما فيه من شجيرات، ومن زهور، ومن عرائش منسية، ولم أترك شتلة واحدة تزين زاوية من زواياه، جميعها... جميعها اقتلعتها وغرستها في قلبها. كانت الغيوم تهرول فرحة، يلتقي بياضها مع سوادها، ويبدأ العناق الحميم، فتذرف دموع فرحها، لتنهض الشتائل من نومها، وترمم جراح أمسها، وتبل قامتها، وتلقي بأقدامها في ينبوع الحياة. وسار النهر، سار على مهل، رويداً رويداً كان يجرف آثام الماضي وما علق من أسى وخدوش الأشقياء في وجودي.
إدوار ماني ـــ «المرأة ذات الببغاء» (زيت على قماش، 1866).

كانت الأيائل تمضي إلى النبع مطمئنة، لا يعكر صفو رشاقتها صيادون، كنت قد كسرت بنادقهم وعضضت سواعدهم وطردتهم إلى الصحراء ليغرقوا في رمال دناءتهم. من كل شائبة نظفت قلبها، لم أترك عشبة واحدة خائنة تمد جذور غدرها لتمتص من رحيق حياة شجيرات الوداعة. فجأة أتى الأعداء، أعداء لهم هيئة الملائكة، بقلوب غبية، وأرواح جبانة شريرة، همسوا في أذنها: — نحن أهلك، نحن ماضيك القوي ومستقبلك المشرق، نحن من طهّر آباءك من آثام الماضي، ونحن من سيطهرك من آثام الحاضر والمستقبل. ناديت، ناديت ولم تسمع حينها النداء من قلبها، لم تتعرف إلى سليل الغزلان، وأنكرت صفير البلابل، لم تسمع أغاني النهر، ولا ابتهالات الأشجار، ولا عبق هواء الورود. وقالت:
— اخرج يا غريب.
قلت: — لست غريباً، كنت غائباً وحسب، هم الذين غيّبوني، كانوا يأتون برجال لحاهم طويلة بوجوه مرعبة، وبسيوف التوحش كانوا يمزقونني أشلاء، وكنت أقوم من موتي، أجمع أشلائي وأعود، لا تصغي إليهم، هؤلاء وحوش بهيئة ملائكة، هم الغرباء والطارئون، أنت من لمستِ حقدهم ودناءة مقصدهم في الماضي، كما لمس توما جراح المسيح. ولم تسمعني، يا عمتي، ورمتني نهباً للريح. أنا الذي أهديتها إلى الغاردينيا، وهي من ذهبت بمحض روحها لتتمرغ في عطره، هي من أجّلت الهواء بعض شهيق لتشهق في جنون الرغبة القصوى. وأنا الذي كنت أغمس قلمي في القلب لأكتب لها أحرفاً حمراء، أرسم لها طريقاً على جانبيه أناس طيبون، يمدون أياديهم محمّلة بتفاح المحبة لكل العابرين. أنا من باح بشوقه حتى بحّ صوت البرق وذابت السحابة ماءً انزاح وجرف دموع من بكى منذ ألف عام. قلت لها:
— بوحي بشوقك أبح لك بأسرار الفراشات، أطلقي من بين شفتيك الرنين أقدم لك شراييني أوتاراً، مدّي أصابعك النازفة إلى عمق جراحي لتخرج بلسماً وأنغام كمان. لقد تورطت يا عمتي تورطت، غرق قلبي بشبر من ماء طيبتها. تورطت وسال صوتي دموعاً على خد صمتها. ورّطت قلبي، فلم يعد يعرف ترتيب دقاته إلا على نغمات هديلها، وأصابه الصقيع، ومن طول الغياب تجمّد. كيف أمضي وأترك حكاياتي نهباً للأشباه، أنا من رويتها بمداد القلب، أنا الذي منحتها من روحي حتى امتد جناحاها وأصبحت تطير. أنا من شقّ لها طرقات الورود دون أن أخدش جذع شجرة، لتسير مبتهجة. في غيابي سيمدون أياديهم لسرقة مفرداتي، سيتكئون طويلاً على لغتي، وسيصعدون إلى الأعلى ليكسروا ما استطاعوا من أغصان أهازيجي. كلا لن أترك شيئاً للغرباء لن أترك شيئاً. سآخذ حكاياتي المطعونة في روحها. وقصائدي المعلقة على مشجب الإهمال. أمشاط الغزل التي كنت أسرح بها شعر الكلام. ولكن كيف لي أن أقتلع أغراس الزهور، الجوري، الياسمين الذي التصق بقوة وتمسك بأصابع الحرير، بالأوردة؟ كيف لي أن أقتلع الأشجار؟ هي لا تنمو في قلوب الآخرين. كيف لي أن آخذ صوت النهر؟ النهر يأسن إن توقف عن الغناء يا عمتي. ستموت الأشجار، وتذبل الورود، وتغادر الغيوم، ويأسن النهر، ولن يحتمل قلب الغزالة كل هذه الوحوش. وأنا أنا سأمضي سأمضي، يا عمتي، فلست سوى حكاية مروية على عجل. آااااه يا لهف قلبي عليك، يا ولدي.

* بيروت/سوريا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا