ينقسم التطور الإبداعي عند دوستويفسكي وفق مقال مطول لنصرالله مامبرول نُشر عام 2019 بعنوان Analysis of Fyodor Dostoevski’s Novels إلى مرحلتين: المرحلة الأولى، تعكس التأثيرات الأدبية المحلية والأجنبية التي سبقت سجنه، رغم أن بعض الموضوعات والابتكارات الأسلوبية التي أصبحت علامات دوستويفسكي التجارية كانت واضحة. كان المؤلف الشاب مفتوناً بكتّاب سانت بطرسبرغ المتأثرين بنيقولاي غوغول والناقمين على محيطهم المزري، الذي يعجّ بأفراد مهمشين وبائسين. هذه العناصر كثيرة في روايات دوستويفسكي، إلى درجة أنه وصف نفسه بأنه تلميذ غوغول. كما تتضح آثار أوبرا جاك أوفنباخ الشهيرة بعنوان «حكايات هوفمان» التي جذبت دوستويفسكي الشاب إلى الميلودراما القوطية والرومانسية. وما يميز دوستويفسكي عن تلك المؤثرات، نبرته الكرنفالية في وصف أو ترديد عذاب أعضاء الطبقات الدنيا. بينما سعى كتاب آخرون إلى إثارة تعاطف الرأي العام مع الفقراء، ضخّ دوستويفسكي عنصر السخرية في صوره، ما قلّل من الفعّالية الاجتماعية لهذا النوع مع تعزيز تعقيد التعبير الأدبي.

في رواياته اللاحقة، ما بعد سجنه، هذا التوازن الدقيق بين التعاطف وازدراء المضطهدين. يكمل معرضه الذي يضم غريبي الأطوار الذين تعرضوا لسوء المعاملة، برجال خارقين أقوياء وغامضين ومحايدين أخلاقياً... أشخاص منعزلون أذكياء تسمح فلسفاتهم بالتضحية بالنفس والقتل في آن. الأنواع المفضلة الأخرى هي الإناث المتحمّسات، والعاهرات الملائكة، اللواتي يمزجن بفضول التعصب الديني مع الخشونة. وهذه التعددية هي السمة الغالبة في أسلوب دوستويفسكي. من المستحيل غالباً أن نميز في أعماله وجهة نظر تأليفية. باستخدام منهج متعدد الأصوات، يمتلك دوستويفسكي شخصيات تجادل مفاهيم متعارضة تماماً بشكل مقنع وبطريقة جذابة فكرياً، بحيث يُمنع القراء من تكوين أحكام مبسطة. ينبهر معظم القراء بالجودة البوليسية لكتابات دوستويفسكي. على السطح، تبدو روايات دوستويفسكي كأنّها روايات مثيرة، تعرض الحيل النموذجية لهذا النوع، مع جرعات سخية من التشويق، والنشاط الإجرامي، والاعتراف، والإيقاع من قبل الشرطة أو المحققين. لكنّ عرض الأعمال من هذه الزاوية وحدها لن تُنتج عنه قراءة مرضية، إلا أنها تسهّل الطريق إلى النص الفرعي المعقّد نفسياً، كالصراعات والمآزق الميتافيزيقية والمناقشات العاطفية حول الخير والشر، الكنيسة والدولة، روسيا وأوروبا الغربية، والإرادة الحرة والحتمية. ثنائية ملازمة في أغلب أعمال دوستويفسكي، هي «الله-الإنسان» و«الإنسان-الله». يشير نيكولاي بردائيف ( 1874- 1948) في كتابه «رؤية دوستويفسكي إلى العالم»، إلى ظهور دوستويفسكي في الوقت الذي كانت فيه الأزمنة الحديثة تقترب من نهايتها، وكان فجر عصر جديد من التاريخ. من المرجّح أن وعيه بالانقسام الداخلي للطبيعة البشرية وحركتها نحو الأعماق النهائية للوجود، كان وثيق الصلة بهذا. أُعطي له ليكشف عن الصراع في الإنسان بين «الله-الإنسان» و«الإنسان-الله»، بين المسيح والمسيح الدجال، وهو صراع غير معروف في العصور السابقة عندما كان يُرى الشر في أبسط أشكاله فقط.
من المؤكد أن الروح المسيحية في الماضي عرفت الخطيئة وتركت نفسها تقع تحت سيطرة الشيطان، لكنها لم تكن تعرف هذا الصدع في الشخصية الذي يزعج الناس الذين درسهم دوستويفسكي. في الماضي، كان الشر أكثر وضوحاً، وسيصعب شفاء روح معاصرة من مرضها من خلال علاجات الأمس وحدها. لقد فهم دوستويفسكي ذلك. كان يعرف كل ما كان على نيتشه أن يعرفه، لكن مع إضافة شيء. الشيء الذي عرفه دوستويفسكي ونيتشه أنّ الإنسان حر بشكل رهيب، وأن الحرية مأساوية وعبء ثقيل عليه. لقد رأى دوستويفسكي طرقاً أمام البشرية، واحد يؤدي إلى «الله-الإنسان»، يسوع المسيح، وآخر إلى تأليه الذات، «الإنسان-الله». وجد دوستويفسكي أن الطريق إلى المسيح يقود إلى حرية لا حدود لها، لكنه أظهر أنه تكمن فيها أيضاً إغراءات كاذبة ضد المسيح وإغراء صنع الإنسان الإله. صحيح أم لا، لقد قال دوستويفسكي شيئاً جديداً عن الإنسان، يقول بردائيف. لم يكن عمل دوستويفسكي مجرد أزمة في الإنسانية، بل هزيمة لها. وفي هذا يجب أن يوضع اسمه بين قوسين مع نيتشه كما يشير بردائيف في مقالة بعنوان «دوستويفسكي أم نيتشه؟»، فكلاهما جعلا من المستحيل العودة إلى الإنسانية العقلانية القديمة بتأكيدها الذاتي وكفايتها، لأنه يتضح أن الطريق، سواء للمسيح أو ضد المسيح، يكمن أبعد من ذلك، وأن الإنسان لا يمكن أن يبقى مجرد إنسان. لذا في رواية دوستويفسكي «الشياطين»، ظهرت شخصية كيريلوف الذي أراد أن يكون الله، كما أراد نيتشه التغلّب على الإنسان باعتباره عاراً وخزياً، واتجه نحو الرجل الخارق. هكذا نجد أن النهاية الأخيرة للعبادة الإنسانية للإنسان هي تدميره عن طريق الإيمان بالرجل الخارق. يمكن القول إذن إنّ الإنسانية الأوروبية وجدت مصطلحها في نيتشه. كان هناك فرق كبير بينه وبين دوستويفسكي الذي كان قد أظهر قبله أن فقدان الإنسان عن طريق تأليه الذات، كان الهدف الحتمي للإنسانية. أدرك دوستويفسكي أن هذا التأليه خادع، واستكشف تقلبات الإرادة الذاتية في كل اتجاه، وكان لديه مصدر آخر للمعرفة: لقد رأى نور المسيح: كان نبياً للروح. نيتشه، على العكس، هيمنت عليه فكرته عن الرجل الخارق وقتلت فكرة الرجل الحقيقي فيه. في نظر بردائيف، فمسيحية دوستويفسكي فقط هي التي حافظت على فكرة الجنس البشري وحمايتها، وثبّتت صورة الإنسان إلى الأبد. يفترض بردائيف أن روايات دوستويفسكي تعبّر عن جوهر الإنسان، الجوهر الإلهي؛ وأن صرخة «اقتل الله»، هي في الوقت نفسه تقتل الإنسان. وعلى قبر هاتين الفكرتين الساميتين عن الله والإنسان، هناك صورة وحشية... صورة الرجل الذي يريد أن يكون الله. بالنسبة إلى نيتشه، لم يكن هناك إله ولا إنسان ولكن فقط هذا الإله البشري المجهول. بالنسبة إلى دوستويفسكي، كان هناك كُل من الله والإنسان: الإله الذي لا يلتهم الإنسان، والرجل الذي لم يتحلل في الله، ولكنه يظلّ نفسه طوال الأبدية. هناك يظهر دوستويفسكي على أنه مسيحي بالمعنى العميق للكلمة. في عيون بردائيف، نجد عالم دوستويفسكي يتمحور حول العبارة اللافتة أنّ «الجمال سينقذ العالم». في نظر دوستويفسكي، الجمال هو التعبير الأسمى عن الكمال الوجودي- الإلهي، ولكنه أيضاً مضاد للمنطق، ومنقسم، ومتحمّس، ومرعب؛ إنه لا يتمتع بالهدوء الإلهي للمثل الأعلى الأفلاطوني، ولكنه غاضب ومُتغير ومليء بالصراع المأساوي. لم يظهر الجمال له في الترتيب الكوني على المستوى الإلهي، بل من خلال الإنسان. لذا فهو يشترك في الاضطراب الأبدي للبشرية ويتوقف بردائيف عند كلمات ميتيا (دمتري) كارامازوف في «الإخوة كارامازوف»: «الجمال شيء فظيع ومخيف. إنه أمر مروع لأنه لم يتم إدراكه ولا يمكن سبر غوره، لأن الله لا يصنع شيئاً سوى الألغاز. وفي هذا، يلتقي المتطرفان ويتعاكس المتضادان معاً... الجمال! لا أستطيع أن أتحمل التفكير في أن الرجل الذي يتمتع بعقل سليم وقلب نبيل يبدأ بمثل سيدتنا، وينتهي بمثل سدوم. والأكثر إثارة للرعب هو أن الرجل الذي يحمل مثال سدوم في روحه لا يتخلى عن مثال السيدة العذراء؛ إنها تتوهج في قلبه، بصدق تماماً، تماماً كما فعلت عندما كنت صغيراً وبريئاً». ومرة أخرى: «الجمال غامض وكذلك رهيب. الله والشيطان يتقاتلان هناك، وساحة المعركة هي قلب الإنسان». أظهر دوستويفسكي أن النور في ظلامنا هو المسيح، وأن الشخص الأكثر هجراً (إلحاداً) لا يزال يحتفظ بصورة الله ومثاله، وأنه يجب علينا أن نحب مثل هذا الإنسان ونحترم حريته. ويأخذنا دوستويفسكي إلى أماكن مظلمة للغاية، لكنه لا يترك الكلمة الأخيرة للظلام؛ كتبه لا تترك لنا انطباعاً بالتشاؤم الكئيب واليأس، لأنه مع الظلام يخرج نور عظيم. ينتصر المسيح على العالم ويشعّ الجميع كما يشير بردائيف. كانت مسيحية دوستويفسكي حاملة للضوء، مسيحية القديس يوحنا، وأسهم في الدين الذي سيأتي، دين الحرية والمحبة، النصر النهائي لإنجيل المسيح الأبدي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا