مْحَمَّدْ إِسْيَاخَم ـــ «مَوت لخضر» (غواش على قماش، 1974)

1. مسافة رخيصة
بعدما سقطت القذيفة على المبنى الخاطئ، نظرت المجازر القديمة في كتب التاريخ إلى بعضها، وانفجرت بالضّحك، لقد كانت المسافة التي قادت إليها الجثث نحو القبور قصيرةً جدَّاً، فلم تكلّف الحياة كثيراً ما بين دار العجزة والمقبرة.

2. إشاعة
بعدما دفنوه واطمأنَّت رواياتهم لموته، وقَرأت الكثير من المقالات الفاتحة على روحه، غادروا المكتبات وهم يُقدّمون العزاء للرّفوف التّي ستُحرَم من إصداراته الجديدة، غير مصدّقين أنَّ إشاعتهم نجحت أخيراً، فلا جريدة تنفي خبر موته، ولا أصدقاء يتناقلُون الأمر على أنّه مزحة، ولا هو كتب عريضةً ينفي فيها الخبر ويسبّ الأعداء الذين يجرّون جنازته ككلب ثمّ يربطونها بعمره. «الآن سأنام مرتاحاً من إبداعاته»، يقول قاتل الكلمات، لكنّه حينما استفاقَ بعد سنين من جريمة الأدب، كان حفيده يقفُ وبين يديه رجل يريد تقديمه له، أمعن النظر في الاسم على الغلاف، كان هو بشحمه ولحمه، وكانت الكلمات وهي تسيل على سريره تصرخُ: هذا الكاتب العظيم سيظل موته دائماً مجرَّد إشاعة؟

3. قرية الطباعة
اصطفَّت الكلمات طويلاً قبل أن تدخل قرية الطباعة. وقف الضبّاط على الحاجز يفتشون هوياتها، كانت المعاني الحقيقيّة تتلقى الطعنات وتسقط على ركبتيها فيركلونها إلى الخلف بداعي تجاوز الخيال المسموح به، تُهمٌ كثيرة توجَّه للعناوين الجريئة ريثما يتمّ سحبها من الأسواق وحرقها أمام الملأ كعبرة أدبيّة، وفجأة خرجت من الصفّ كلمة كانت قد ابتلعت رصاصة، وتقدّمت مسرعة نحو قصيدة جروها سابقاً إلى الحائط، بعد أن عثروا على مسدَّس محشوّ بحقائق قاتلة تحتها. كان الضبّاط يأمرونها بالتوقف وإلا أطلقوا النار عليها. «لا تقتلوا الكلمة الحرّة»، يقول نصّ خائب. «اقتلوا هذه الانتحاريّة»، يصرخ نصّ متطرّف. أمَّا القصيدة فقد تناولت الكلمة داخل مسدَّسها وأطلقت على الحاجز نفسها.

4. قطار الكلمات
كان الكاتب ما إن يصعد بكلمة إلى قطار نصّه وتُربكه جرأتها، حتى يُنزلها بداعي عدم إحداث الشغب داخل المعاني، وخوفاً من جلب المزيد من المشاكل، فهو يريد الوصول إلى محطّة آمنة لا تعبر المناطق المنكُوب تاريخها، ولا تتوقف داخل مدن الحُروب، ولا أمام الإشارات الدينيّة. كان يفعلُ ذلك مراراً: يشطب أسماء الكلمات من القوائم من دون أن يرفع رأسه لذلك الكمّ الذي تكوَّن على رصيف الهامش. وما إن أطلق النّص صفارة المغادرة حتّى تعطّلت أصابعه مندهشة، كان حشد كبير من الكلمات غير المرغوب بها يهتفُ الآن بحريّة كاتبها. عندها فقط فتح النصّ نوافذه ورمى الكاتب بقلمه تحت العجلات.

5. لعبة الملاك
وسط الحرب رمى الجنديّ بندقيّته وجلس يتصفّح كتاباً. الجُثث من حوله تُدخّنها القذائف ثمّ تنزلُ الأسماء لتتجوَّل بين الأغراض، وقفت الحرب تُراقبه ثمّ شقَّت طرف ثوبها ومسحت دُموع المشهد، وحين أُعلن عن وقف إطلاق النّار أخرج الجنديّ من حقيبته كتاباً ووضعه بجوار جثّة غريمه على الحدُود الحربيّة، ومضى إلى ما ينتظره. يسأل الصحافيّ الجنديّ الذي أصبح كاتباً: هل قتلت أعداءك؟ فيردّ: بل قتلتُ قارئي! في السّماء استمع القتيل إلى الحوار وبكى بشدّة لأنّه لم يستطع حمل جريمة ظلّ الريح إلى المقبرة بعد أن تحوّل القتل إلى لعبة للملاك.
* جيجل/ الجزائر

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا