كتاب جديد صدر في تونس للباحث المتخصّص في الحضارة العربية عبيد خليفي حول علي بن أبي طالب بعنوان «صورة علي بن أبي طالب في المخيال العربي الإسلامي» (الدار التونسية للكتاب). كتاب يتناول تمثُّل علي بن أبي طالب، أحد المساهمين الأساسيين في مرحلة ما يُعرف بالإسلام التأسيسي، وقد تناوله الباحث من جهة كونه شخصية إشكالية مؤثرة «كانت جاذبية علي بن أبي طالب الأبهى بين رموز الإسلام التأسيسي؛ وكانت الأجدر لأنها لم تقطع مع مفهوم الفتوة «الجاهلية» والنبوة «التوحيدية»؛ فكان علي بطلاً إشكالياً».يعتبر الباحث خليفي أن علي عبّر عن المأزق الأخلاقي للضمير الإسلامي، فهو صاحب الحق المهزوم «حسب الصورة المرسومة له وهي صورة مرتبطة بالعجيب الخلّاب» على حد تعبيره.

الكتاب كان في الأصل رسالة جامعية في «كلية الآداب والفنون والإنسانيات» في منوبة، لكن تم تطوير الرسالة لتصبح كتاباً رصد فيه خليفي ملامح صورة علي كبطل في المخيال العربي والإسلامي. وقد قسّم الكتاب إلى أربعة فصول وهي: «من النّهج إلى الشّرح: انغلاق المدوّنة»، و«من النّص إلى الصورة: علي الواحد المتعدّد»، و«تجلّيات: علي السّيرة»؛ وأخيراً «علي الأسطورة والأنظمة الدلالية للصورة».
لكنّ الباحث قدّم لهذه الفصول الأربعة بمجموعة من المداخل للنفاذ إلى الحقل (على حدّ تعبير بيار بورديو) الذي تندرج فيه صورة علي كزعيم وبطل، وهذه المداخل هي المدخل الأدبي والتاريخي والسياسي العقدي والنفسي الاجتماعي.
يشير عبيد خليفي إلى أن الإحساس بالعجز هو الذي يدفع الإنسان إلى صناعة البطل الأسطوري ليحتمي بصورته ويضعه في مقام إلهي أحياناً. يقول في هذا السياق: «البطل النموذج هو مفارق لما هو إنساني؛ متعال يقترب من الإلهي لينازعه صفاته فينتزعها منه؛ وهي فكرة شاعت في جميع الثقافات القديمة والحضارات البائدة». ويشير الباحث إلى أن غايته من هذا الكتاب ليست «تهديم تلك الأساطير والخرافات التي صنعها المخيال الشعبي وترجمها التاريخ الرسمي والهامشي» بل «فهم آليات بناء صورة البطل الديني في السياق التوحيدي؛ وهو بحث عن المشترك بين البطل الأسطوري والبطل الديني».
ويؤكد خليفي على أنّ «صورة» علي كانت من بين أسباب الانقسام السني الشيعي: «إن صورة علي كانت الأكثر حضوراً واستثماراً في السياق السياسي ليحدث ذاك الانقسام السني الشيعي الخارجي». ويعتبر أنّ المخيال السني يعاني حرجاً أخلاقياً وفصاماً في تقديس علي بن أبي طالب في الوقت الذي كان فيه المخيال الشيعي أكثر وفاء و«توظيفاً للصورة ومشروعيتها في الحاضر والمستقبل».
يعتبر الباحث أنّ علي بن أبي طالب (توفي 40 ه ــ 660 م) أحد أهم رجال الإسلام التأسيسي، فهو بطل إشكالي حسب مفهوم النقد الأدبي، كان «محبوباً ومعبوداً لدى أتباعه؛ مخترقاً لحصون أعدائه». وقد تحوّل بعد المصير المأساوي الذي انتهى إليه من قضيّة إلى صورة. كما يرى أن المتصارعين غداة الفتنة الكبرى تقاتلوا بالسيف والفكرة والعقيدة.
أحد أهم رجال الإسلام التأسيسي، هو بطل إشكالي حسب مفهوم النقد الأدبي


ويشير خليفي إلى أنّ التشيّع لعلي تطور من مجرّد الانتصار له ومناصرته، إلى التعصّب الذي انتهى إلى حالة من التأليه والعبادة «فمن الهيبة إلى التقديس خُلقت الصورة الإشكالية لعلي بن أبي طالب». وسعى الباحث إلى الإجابة عن مجموعة من الأسئلة في كتابه: كيف تشكّلت صورة علي بن أبي طالب في المخيال العربي الإسلامي؟ ما هي البنى التركيبية والأبعاد الوظيفية للصورة؟ ما هي الأنظمة الدلالية للصورة؟
يتوقّف عبيد خليفي عند كتاب «نهج البلاغة» في نسختين: واحدة من تحقيق: أبو الفضل إبراهيم الصادرة في بيروت عام 1987، والثانية تحقيق محمد عبده الصادرة في عام 1984 وهو الكتاب الذي جمعه ابن أبي حديد. يقول المؤلف بأن هذا الكتاب يطرح مجموعة من الإشكاليات المنهجية والتاريخية. يوضح في هذا السياق: «يطرح «نهج البلاغة» في نسخته المجمّعة والمنجزة إشكالاً تاريخياً صاحَبه منذ ظهوره سفراً مدوّناً جامعاً لكلام علي بن أبي طالب. وامتدّ هذا الإشكال إلى اليوم؛ ومردّه تشكيك المصادر القديمة والحديثة في نسب ما جُمع في النّهج إلى علي بن أبي طالب. يضاف إلى ذلك الالتباس الواقع في جامع النّهج، هل هو الرضي أم المرتضى؟ ولعل زاوية الرؤية تختلف عن بعض الآراء التي تشكّك في صحّة النهج أو تلك التي تتعامل معه بكل وثوقية دوغمائية».
واعتبر الباحث أن الجدل المثار حول نسب «نهج البلاغة» إلى علي، يندرج في سياق الصراع السياسي والإيديولوجي. ويرجّح أن التشكيك في مصداقية «نهج البلاغة» يندرج ضمن التجاذبات السنية الشيعية التي تأسّست على إقصاء الآخر وتهميشه. ويضيف: «بمعنى أدق، إنّ نفي مصداقية «النهج» هو إلغاء للنص المؤسّس إيمانياً للفكر الشيعي». يستعرض عبيد خليفي نماذج من التشكيك في «نهج البلاغة» مثل ابن خلكان في «الوفيات»، وابن تيمية في «منهاج السنة»، والذهبي في «ميزان الاعتدال»، والصفدي وابن حجر العسقلاني… فابن خلكان يقول: «إنه ليس كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه». ويقول خليفي إنّ التشكيك طال حتى جامع «نهج البلاغة»، وهو الرضي الذي لم يكن أول من حاول جمع خطب علي وكتبه ووصاياه. ويذكر ثلاث محاولات ذكرها ابن النديم بينها: هشام ابن الكلبي (توفي سنة 206 هجري) في «خطب علي عليه السلام»، وأبو الحسن المدائني (توفي سنة 215 هجري) في «خطب علي وكتبه إلى عمّاله». ويقول بأن هذه الكتب مفقودة، لكنها «لا تعدو أن تكون أجزاء يسيرة مقارنة بما جمعه الشريف الرضي».
يقول عبيد خليفي إن كتابه حاول تحريك السواكن من أجل تجديد القراءة وخلخلة الإشكاليات التي تشكّل عقيدة المسلمين. يقول: «ليست العقيدة ذلك المنتج الديني المشكّل للمدوّنات الفقهية والتشريعية ولكنّها ما يرسخ لدى «المعتقد» من تصوّر ذهني يسانده سلوك عملي وظيفي».
ويعتبر أنّ صورة علي لا يمكن تناولها خارج الواقع والتاريخ الاجتماعي الذي نشأت فيه. أما عن اختياره لمدوّنة «نهج البلاغة» كمنطلق لبحثه، فكان مقصوداً. إذ أنّ «نهج البلاغة» كان تتويجاً لسبعة قرون من تاريخ طرح إشكالية علي بن أبي طالب. ويؤكد على أنّ هناك نموذجاً أعلى يتحكّم بسيرة البطل الديني، مضيفاً: «لذلك كانت السير والمناقب محاكاة لهذا الأنموذج؛ ومع ذلك لا نستطيع أن نجزم قطعاً أن سير الأئمة والرجال (صوفيين؛ ومصلحين) كانت محاكاة خالصة لسيرة نبي الإسلام الشفوية منها والمكتوبة؛ لأننا لا نجد قواسم مشتركة بين البطل الديني في المجال الإسلامي والبطل الديني في المجال السامي القديم من ناحية؛ والبطل الديني والبطل الأسطوري من ناحية أخرى».
ويشير خليفي إلى أنّ اهتمامه بصورة علي بن أبي طالب كان محاولة لتفكيك شخصية علي بأبعادها الرمزية من خلال مثلّث لغة - تاريخ- مجتمع، معتبراً أنّ الاستنتاجات التي انتهى إليها كانت ثمرة تركيبية تاريخية، وهي في النهاية تأويل لقراءة سياسية اجتماعية ونفسية فكرية. ويؤكد أن اهتمامه بشخصية علي ليست له خلفية سياسية، فهو ليس في أي خندق سياسي وليس معنياً لا بتمجيد ولا تقديس ولا ترذيل ولا تشويه. ويختم كتابه بالتأكيد على أن هذا الكتاب «تحريك لأسئلة محرمة في التعامل مع الماضي».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا